لم تكن الحلي الفضية بالمجتمع القبائلي قديما، ترتبط بالجانب الجمالي للمرأة وإظهار المستوى المادي لعائلتها فقط، بل ارتبطت بشخصها وتحديد هويتها من خلال القطعة التي ترتديها لتعبر عن وضعيتها الاجتماعية لكل من يراها دون التحدث إليها. وكان تطور الحلي التقليدية والأشكال والرموز التي تكوّنها، نتاجا للصراع القائم بين الحماة والكنة، في سعي الأولى للاحتفاظ بزمام الأمور، وحفاظ الأخيرة على عشها الزوجية، فاستعملت الحلي كوسيلة للوقاية من الشر والحسد، هجوما مستمرا ودفاعا مرتدا في عباءة الجمال والزينة، وأكثر الأشكال رمزية واستعمالا لذات الغرض نجد اليد أو الخامسة ورأس الثعبان، الذي كان يرد به الحسد في هيئة قطعة حلي جميلة، تتزين بها المرأة ظاهرا وتحمي بها نفسها بالواقع حسبهم . وتنفرد الحلي التقليدية بمنطقة القبائل عن باقي الحلي التقليدية عبر الوطن كفضة الأوراس والصحراء، بألوانها الزاهية المستمدة من الطبيعة ويؤكد العارفون بالمجال أن تلوين الحلي القبائلية دون الأخرى يدل على الطبيعة الخلابة التي مثلت جانبا قويا من حياة السكان فيها، وانعدام الالوان في الحلي الصحراوية يعود لجفاف البيئة وانعدام الخضرة فيها. وإن كان صناع الحلي رجالا، إلا أن أنواعها وتطورها ارتبطت ارتباطا وثيقا بأفكار المرأة وحاجتها إليها، ليتبلور عن هذا الصراع ارث حضاري توارثته الأجيال عبر الزمن ولا يزال قائما وصامدا في وجه رياح العصرنة. لا تزال إلى يومنا هذا منطقة بني يني بولاية تيزي وزو، تشتهر بصنع الحلي الفضية والتي كانت منذ الأزل حصن ازدهارها، حيث يعود تاريخ اث يني حسب المراجع التاريخية وتحديدا قرية اث لربعا مع الفضة إلى عهد تواجد الأتراك بالجزائر، بداية من تداولهم للعملات الفضية بشكل جعلهم يصنعون عملة مزيفة، منها انتقلوا لصنع السلاح لمحاربة الأتراك الذين اكتشفوا أمر العملة المزيفة، ولعجزهم عن درعهم حاولوا إغواءهم بالتنقل إلى سهول متيجة نظرا لارتباط الرجل القبائلي بالأرض والزراعة وان كانت شحيحة في بني يني، في خطوة من الأتراك لكبح طموح وخطر القبائل على التواجد الأجنبي في الجزائر، ورد هؤلاء بطريقة تملؤها الثقة والاستهزاء، بأنهم سينتقلون إلى متيجة إذا ما تمكن الأتراك من تحريك جبال القبائل ونقلها إليها، لتفشل خطة الأتراك ويستمر بنو يني في صناعة وترويض الفضة إلى يومنا هذا. تعامل سكان اث لربعا مع الفضة فسح المجال ليحتلوا ريادة صنع الحلي الفضية على المستوى الوطني، ما يجعل حليّها اليوم أيقونة في عالم المجوهرات ومعيارا للجودة والنوعية، حيث لا تنافسها مجوهرات أي حضارة أخرى من الناحية الجمالية والعراقة وذاع صيتها حتى خارج الوطن من خلال مشاركات الحرفيين في المعارض الدولية. ولتسليط الضوء أكثر على تاريخ الفضة والحلي التقليدية بمنطقة القبائل وكذا دلالتها الاجتماعية لدى المرأة قديما جنبا إلى جنب مع الجبة القبائلية التي لا يمكن فصلهما عن بعض، ارتأت "الشروق اليومي" أن تتناول هذا الجانب المجهول لدى الكثير والمهدد بالزوال، "باستراق" ما تبقى في ذاكرة الشيوخ من حرفيين قدامى ومسنات لهن مع عشق المجوهرات قصصا شيقة وارتباطا وثيقا. بني يني وترويض المعدن الأبيض بين العملة والسلاح إلى الحلي اشتهر سكان قرى بني يني في تيزي وزو بالتجارة منذ القدم، نظرا لصعوبة تضاريس المنطقة وانعدام النشاط الزراعي تقريبا فيها، وأشار الكاتب "ارزقي فراد" في اتصال ب"الشروق اليومي" أن ازدهار هذا النشاط في بني يني يعود إلى تواجد اليهود في هذه المنطقة، حيث كانت قراها شبيهة بمدن صغيرة، وكان التعليم من أولويات الأهالي منذ الأزل وعبر جميع الحقبات الاستعمارية واختلاف جنسيات المستعمر، إذ لم تتمكن أي قوة احتلال من طمس وإزالة عادات وتقاليد المنطقة، وقد ساهم شح المؤهلات الطبيعية خصوصا فيما تعلق بالنشاط الزراعي، في الاهتمام بالجانب التجاري وخلق مصادر تمويل واسترزاق مغايرة. وتشير مراجع تاريخية لجنرالات فرنسيين، أن اليهود انتقلوا إلى الجزائر بعد طردهم من الأندلس من قبل الممالك المسيحية، وعرف هؤلاء أوج نشاطهم التجاري في ظل الحضارة الإسلامية، وقد استقطبهم نمط القرى ببني يني فاستقروا بها ونقلوا إليها التجارة، وعرفت المنطقة بتبادل وترويج العملة الفضية لتتطور إلى صنع الأسلحة، قبل أن تليها صناعة الحلي الفضية ويلتف السكان حولها، حيث بلغ عدد الورشات سنة 1873 إلى 125 ورشة في بني يني. وتختلف الروايات عن طريق انتقال اليهود إلى بني يني، بين البليدة التي تمركزوا فيها بشكل كبير وولاية بجاية خصوصا أن هذه الأخيرة اعتبرت قديما منطقة تجارية يقصدها الكثير من تجار دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وقد استعان قادة الثورة الجزائرية بسكان ذات المنطقة لصناعة الأوسمة العسكرية المختلفة. الدلالة الاجتماعية لقطع الحلي وتحديد هوية مرتديتها لم تكن المجوهرات الفضية المتوفرة قديما بالكم والأنواع المتوفرة حاليا، وكانت كل قطعة تستعمل لوضع خاص ومرحلة عمرية معينة، إذ لا يمكن للمرأة أو الفتاة أن ترتدي أي قطعة حلي تجدها أمامها، فما ترتديه العزباء غير ما ترتديه المتزوجة ولا المطلقة والأرملة، وقطع أخرى ترتديها المرأة بعد أن تصبح أمّا وجدة وحماة، أما القطع الثقيلة والنادرة التي تعد في الغالب قيّمة وذات دلالة قوية غالبا ما تهدي للفتاة اليتيمة من قبل جديها أو أعمامها وأخوالها، تعبيرا عن دعم العائلة لها ووقوفها بجانبها، أو العاقر من زوجها إظهارا لتمسكه بها ونادرا ما يحدث ذلك، وأخرى تهدى للكنة لدى إنجابها لبكرها "الذكر"، وقطع خاصة ترتديها العروس يوم حنتها وزفافها وأخرى تلبسها صاحبة العرس كوالدة العريس أو المرأة التي تكون في مقامها في حال وفاتها أو غيابها لأسباب ما. تقول السيدة "ابركان" حرفية منحدرة من عائلة حرفيين، إن السوار أو "امشلوخ" الذي تمت عصرنته وتطويره في السنوات الأخيرة، وأخذ عدة أشكال وأنواع زاهية، كان قديما قطعة سلاح في يد المرأة حيث كانت القبب الصغيرة المبقى عليها الآن، أكثر حجما وحدة، تضعها المرأة في يدها للتصدي لأي محاولة اعتداء عليها، نظرا لتواجدها أغلب الأحيان خارج البيت للقيام بأشغالها في الحقول والمزارع، الاحتطاب، جلب الماء أو جني المحاصيل، ما استوجب احتماءها بشيء تكون على أتم الاستعداد لاستخدامه دفاعا عن نفسها، ليبقى السوار قائما إلى حد اليوم تزين به القبائلية معصمها كقطعة حلي أخاذة. أخلخال أو القطعة التي توضع في الرجل، هي قطعة تستخدمها العروس فقط، حيث ترتديها رفقة الجبة القبائلية وبقية القطع الثقيلة التي تتزين بها العروس وتتميز بها عن الحاضرات في عرسها ويعد من أغلى المجوهرات الفضية التي لا يمكن للجميع اقتناؤها حاليا، حيث ترديها الفتاة إذا ما وجدت لدى العائلة كقطعة موروثة ترتديها جميع فتيات العائلة لدى زفافهن، أو يتم استئجارها لدى الصائغين ولا يجوز قديما استلافها لدى العائلات الأخرى، حفاظا على سمعة العائلة ومكانتها وسط العرش. في حين تزين الجدات وبعد ولادة أبنائهن وأحفادهن، أعناقهن بسلسال كبير وضخم يسمى"امشباك" يحمل قطعا صغيرة مختلفة الأشكال بعدد أحفادها وأبنائها، وكلما زاد عددهم زاد حجمه وزاد تباهيها بهم. أما العازبات فيكتفين بسلسال رقيق يزين أعناقهن، إذ لم تكن الحلي الفضية بالغنى والتنوع الذي هي عليه الآن، حيث تقتصر المجوهرات في الغالب على الفتاة بعد زواجها وإنجابها، ونظرا للزواج المبكر فلم يكن للفتاة قديما نصيبا من هذه. وعلى مر العصور عرفت المرأة القبائلية بالصبر والمثابرة، لم تكن الفتاة تحكي همومها أو مشاكلها في البيت الزوجية لأهلها، إلا إذا طفح الكيل واعتبر المشكل خارجا عن نطاق تحملها. وللتواصل مع الأهل خصوصا الفتاة التي تزف خارج قريتها أو عرشها، كان أشبه بالمستحيل، إذ لا تزور بيت أهلها قبل مرور عام على زفافها وإن رزقت بمولودها الأول قبل زيارتها الأولى للأهل، فإنها تبقى حتى يبلغ سنته الأولى، وفي المقابل يزورها الوالد وحيدا أو مرفقا بزوجته في المناسبات والأعياد، لم يكن الجلوس رفقتهم بمفردها متاحا، لذا أوجدت النسوة ما يشبه بشفرات سرية تتواصل بها الأم وابنتها، حيث ترتدي الفتاة لدى زيارة الأهل لها، قطعة حلي معينة توضع على الصدر، فتعلم بها الأم بحال ابنتها وتخبر زوجها فور عودتهم بما يحدث، ليقوم هو الآخر بالتواصل رفقة والد صهره أو أكبر إخوته، لم تكن المشاكل العائلية تتجاوز أسوار المنزل العائلي، حيث تربى الفتاة ومنذ الصغر على كتم أسرار بيت زوجها والصبر على الظروف مهما كانت، ما جعل الطلاق منعدما أو جد نادر في المجتمع القبائلي قديما، حين كانت المرأة عماد الأسر والعائلات ورمزا للصبر والمسؤولية. الجبة القبائلية… ألوانها ودلالتها الاجتماعية الجبة القبائلية بدورها لا تختلف عن الحلي الفضية، حيث عرفت منذ الأزل بألوانها الزاهية وأنواعها المختلفة، فكما تختلف الدلالة الاجتماعية للحلي ترافقها الجبة التقليدية خصوصا ما تعلق بالألوان، وبعض اللواحق التي ترتديها معها كالمنديل والحزام وغيرها. فالألوان الزاهية والجذابة كانت ترتديها الفتيات العازبات في الأعراس، حيث كانت ألوان الجبة القبائلية تقتصر على الوردي للعازبات، الأبيض للعروس والأصفر للمتزوجات، أما الأسود فهو للأرامل. الاهتمام الأكبر كان يولى لجبة العروس التي تصنع بالحرير الأبيض، وهي ما يعرف اليوم بجبة واضية الأصلية التي تسمى"ثيجحليث ايواضين"تصنع بالحرير الأبيض الحر، الذي يرمز للنقاء والأنفة، تزيده الألوان الخمسة "الأحمر، الأصفر، الأبيض، الأخضر والأزرق" للشرائط التي تملؤ بها، بهاء وجمالا، وتميز الجبة المخصصة للعروس بشريط يوضع وسطها بالطول، وهو الشريط الذي تميز به العروس بين قريناتها، كما يشترط أن تكون الفوطة حمراء، ويربط خصر العروس بحزام حريري أحمر، يضاف إلى هذا الجمال لمسة خاصة تضفيها المجوهرات الفضية، التي تملك كل قطعة منها هي الأخرى دلالة ما. ورغم عصرنة الجبة القبائلية في السنوات الأخيرة وإدخال لمسات عصرية كثيرة أخرجتها عن نطاقها التقليدي، إلا أن الفتاة ولدى إقبالها على الزواج تبقى متمسكة بالجبة الأصلية التي تربط بها الحناء وتكون بها عروسا في جبتها المحتشمة والأنيقة.