د/ محمد العربي الزبيري كان الانزلاقان قاتلين بالنسبة للفكرة الرئيسية التي وضعها الزعيم الكبير والتي تهدف إلى تقويض أركان الاحتلال وإعادة بناء الدولة الجزائرية ذات السيادة المطلقة .وعلى الرغم من خطورة الانحراف الأيديولوجي ، فإن الدارسين والباحثين السياسيين قد أولوا كل العناية بما يسمى " الأزمة البربرية " التي خصص لها السيد محمد حربي ، في معالجته لتاريخ الحركة الوطنية ، حيزا معتبرا جاء فيه على وجه الخصوص أن: " من العوامل التي أنتجتها فشل حزب الشعب الجزائري وواجهته الرسمية ( الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية ) في وضع إيديولوجية تتلاءم مع التنوع الجزائري وكذلك طول انتظار الإعلان عن الانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلح ".فهذا الحكم غير صحيح لأنه يعتمد على واقع مزيف أوجده الاحتلال ، في الأساس ، لضرب دعائم المجتمع الجزائري ، إذ أن التنوع الذي يتحدث عنه ليس طبيعيا، بل هو مصطنع، والمقصود منه ، كما يعترف بذلك السيد : Emile Masquray ، مدير مدرسة الآداب في الجزائر هو " محاربة الإسلام الذي هو عدونا الأبدي ". وتقويض أركان المجتمع الجزائري ليس وليد الأربعينيات من القرن العشرين.فالإدارة الكولونيالية شرعت ، منذ سنة 1857 ، في البحث عن أفضل الوسائل لزرع بذور الفرقة في أوساط الشعب الجزائري .ولقد وجدت بعض ضالتها في الإقدام على ترسيم " العرف القبائلي " كمصدر للتشريع في القبائل الكبرى، عوضا عن القرآن والسنة، مع العلم بأن مصطلحات "القبائل" و"القبائلي" و"القبائل الصغرى" و"القبائل الكبرى" كلها لم تكن معروفة قبل سنة1830 حيث كان المجتمع في أغلبيته الساحقة قبليا. فإذا كان هذا التنوع مصطنعا وهو في أساسه من اختراع منظري الاستعمار الذين استهدفوا توظيفه لمنع الطاقات الوطنية الحية في الجزائر من أن تسلك طريق الوحدة النضالية في سبيل استرجاع الاستقلال المغتصب، فكيف يطلب من حزب الشعب الجزائري أن يكيف أيديولوجيته معه؟ ولو فعل، فإنه، إذن، يكون قد وقع في فخ الإدارة الكولونيالية. أما عن خيبة الانتظار التي جعل منها السيد محمد حربي العامل الثاني الذي أنتج "الأزمة البربرية" فإنها لم تكن خاصة بمناضلي منطقة دون أخرى. وإذا كانت ،فيما يسمى بمنطقة القبائل، قد أنتجت "الأزمة البربرية"، فماذا تكون قد أنتجت في المناطق الأخرى من البلاد؟ .وبالإضافة إلى ذلك، فإن المدة المذكورة لم تكن فترة انتظار، بل كانت، على العكس، كلها إعدادا واستعدادا ، يشهد على ذلك التقدم الكبير الذي أحرزته المنظمة الخاصة التي تمكنت ، في الفترة ما بين تاريخ الإعلان عن ميلادها وتاريخ الإعلان عن " الأزمة البربرية " من هيكلة وتكوين حالي ثلاثة آلاف مناضل مزودين ، عسكريا وسياسيا وأيديولوجيا ، بما فيه الكفاية لضمان الانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلح . وإذا كان لا بد من تحديد فترة للانتظار الممل، فإنها تكون تلك الممتدة من سنة1949 إلى غاية اندلاع ثورة نوفمبر سنة1954. صحيح أن حزب الشعب الجزائري، مثل سائر التشكيلات السياسية في العالم، قد عرف، في بعض مراحل حياته صراعات داخلية حول موضوعات مختلفة، لكن ما يسمى بالأزمة البربرية لم يكن واحدا من تلك الصراعات التي هي ضرورية لتحقيق النمو والتطور، بل إن أدلة كثيرة تبرهن على أن التخطيط لها كان من خارج الصفوف وهو يهدف، بالدرجة الأولى، إلى خلق المشاكل المصطنعة التي تكون قادرة على عرقلة المسار النضالي الذي يتوقف نجاحه على وحدة التوجه ووحدة الهدف. و إذا كنا لا نستطيع، هنا، سرد جميع الأدلة، فإننا نرى ضروريا التوقف عندما يلي: 1- إن الذين تصدوا للمؤامرة بشتى الوسائل كلهم من أبناء ما يسمى بمنطقة القبائل الذين لا يستطيع المزايدة عليهم أحد. فالسيد بلقاسم راجف، الذي قام بالدور الحاسم في تلك المواجهة، كان يحظى باحترام كبير في أوساط المغتربين الذين كان رشيد علي يحيى و جماعته يعتقدون أنهم يشكلون قاعدة متينة لحركتهم، لأجل ذلك فإن الفتنة سرعان ما خبت نيرانها ولم ينجح المتآمرون في إرساء قواعد ما أسموه يومها بحزب الشعب القبائلي. 2- إن إطارات حزب الشعب الذين وجدوا أنفسهم، لسبب أو لآخر، متورطين في العملية قد سارعوا إلى التراجع معبرين، على أعمدة الصحافة وبواسطة المنشورات، عن إدانتهم للمتطرفين ومؤكدين "أن حزب الشعب القبائلي لا وجود له ولا يمكن أن يرى النور لسبب واضح وهو عدم وجود غير شعب جزائري واحد". 3- إن المؤامرة لم تتجاوز ما يسمى بمنطقة القبائل وفي فرنسا، ظلت محصورة في أوساط المغتربين منها دون أن تتمكن من الانتشار في صفوف المغتربين الآخرين وخاصة منهم القادمين من المناطق التي بقيت محافظة على الطابع الأمازيغي الأصيل مثل الأوراس والهقار ووادي ميزاب. ولو كانت هناك قضية أمازيغية، كما يزعمون، لكانت المناطق المذكورة هي المهد لها والمنطلق. 4- إن الذين أخبروا قيادة الحزب بما تدبره العناصر المتآمرة كلهم من أبناء ما يسمى بمنطقة القبائل، ولم يفعلوا ذلك إلا لتشبعهم بإيديولوجية الحركة المصالية التي لم تتوقف، أبدا، عن اعتبار العروبة و الإسلام مقوما حيويا للشعب الجزائري. يكفي هنا، الإشارة إلى اندهاش السيد بلقاسم راجف عندما بلغه نبأ المؤامرة و قوله لمسئول التنظيم السيد أحمد بوده:"إنني أرفض أن أتصور مجموعة من مناضلي حزب الشعب الجزائري يثمنون التمايز العرقي و يدعون إلى تشتيت جماهير الشعب". وإذا كان صحيحا أن حزب الشعب الجزائري قد تغلب بسهولة على محاولة التفجير التي أرادتها له الإدارة الكولونيالية ، فإن صفوف الحزب قد أصيبت في أعماقها ، وخسرت ، في ظرف قصير جدا ، عددا هائلا من المناضلين الأكفاء الذين ينتمون ، فعلا ، إلى ما يسمى بمنطقة القبائل لكنهم لم يكونوا ، في ذلك الوقت ، يحملون الفكرة المناهضة للعروبة والإسلام . وفي نظرنا ، فإن السيد حسين آيت أحمد كان أكبر المتضررين شخصيا ووطنيا لأنه أقصي عن مسئولية المنظمة الخاصة قبل أن ينجز برنامجه الثوري الذي كان يطمح أن ينتهي به إلى إشعال فتيل الثورة ، هذا من جهة ، ولأنه ، من جهة ثانية، تعرض إلى تقزيم عسفي ما زال يلاحقه إلى يومنا هذا . لقد كان في استطاعة الزعيم الكبير ، يومها ، أن يتعامل مع الموضوع بأسلوب مغاير يمكن من اكتشاف المتسللين إلى الصفوف بغرض والمنحرفين عن الخط الأيديولوجي لسبب أو لآخر ومعاقبة كل منهم العقاب الذي يستحقه .وفي المقابل ، كان ينبغي أن يفتح الحوار مع المناضلين الذين كانوا قد أبدوا كل الاستعداد للتعاون مع المكتب السياسي من أجل تصفية الأجواء . ويأتي السيد حسين أيت أحمد في مقدمة أولئك المناضلين . ولأن الزعيم الكبير لم يفعل ذلك ، فإنه قد ساهم في حرمان الحركة الوطنية من طاقات ثورية برهنت على فعاليتها في الميدان ودفع ، من حيث لا يدري ، عددا من الإطارات إلى أحضان الحزب الشيوعي الذي فتح لهم ذراعيه ورقاهم إلى كثير من مناصب الحل والربط في صفوفه . وأكثر من كل ذلك ، فإنه فتح الباب أمام صغار الزعماء ينالون من الفكرة الرئيسية ويحاولون تكييفها مع رغبة من كانوا يسمون المعتدلين من الأقدام السود الذين تعرضنا لهم في الحلقة الرابعة . وبالموازاة مع ذلك ، أعطى فرصة ثمينة للجناح الثوري، الذي ظل متمسكا بالفكرة الرئيسية ، فراح ينادي بضرورة القضاء على احتكار السلطة وتطبيق مبدأي الجماعية والمركزية الديمقراطية . وبالتدريج ، أدى نشاط الجناح المذكورإلى صناعة زعيم كبير أحله محل الأول لكن ليس في شكل شخص ، بل في هيأة " سكرتاريا " أعلن عن ميلادها بيان أول نوفمبر 1954.