كان من المفروض أن تتولى قيادات البلاد، في أعلى الهرم، صيانة النصوص الأساسية لثورة التحرير الوطني وحمايتها من الأقلام العابثة على اختلاف توجهاتها السياسية والأيديولوجية. وكان من المفروض، أكثر، أن يبدأ التعرف على تلك النصوص في المدرسة الابتدائية، وأن يشرع في تدريسها علميا ابتداء من الثانوية وأن لا يتوقف ذلك خلال فترة ما قبل التدرج كلها. ذلك، أنها تتضمن الخطوط العريضة التي ينبني على أساسها المجتمع الجزائري المعاصر. ومن ثمة، فإن التشبع بها ضروري لعدم الانحراف ولإبقاء قطار البناء والتشييد في سكته الملائمة لمنظومة الأفكار التي اعتمدتها حركة الفاتح من نوفمبر 1954 . قد يقول قائل: لكن عصر الأيديولوجيات والأدلجة قد ولى، وترك المكان للعولمة. ونرد على ذلك بأن هذا النوع من التفكير إنتاج إمبريالي يسوق، عن طريق الغزو الثقافي، خصيصا لإبقاء الشعوب المتخلفة في حالة التبعية الدائمة، فلا تنتفض لحماية ثرواتها الطبيعية التي تنهب، يوميا، لتنمية وتطوير اقتصاديات الرأسمالية العالمية المتدثرة بعباءة الإنسانية الكاذبة، والمسلحة بقيم التجهيل والاستغلال. فالذين يزعمون أن الأدلجة خطر على حرية الإنسان وديمقراطية المجتمع، مخطئون كل الخطأ، لأن التكوين الأيديولوجي لا يعني، أبدا، حشو الأدمغة بالشعارات النظرية، كما قد يتصور البعض، ولكنها عملية إجمالية ومتواصلة تمس كافة الميادين وتساير الإنسان في جميع مراحل حياته، وعندما تنقطع أو تتعطل لسبب من الأسباب، فإنها تترك المكان للفراغ الذي تترتب عنه أنواع من الفوضى والميوعة والإماعية التي هي ضرب من التبعية القاتلة. إن التكوين الأيديولوجي هو الذي يسمح للإنسان بإدراك الواقع الذي يعيش فيه، وبمعرفة المحيط الذي يتطور ضمنه. وانطلاقا من ذلك الإدراك ومن تلك المعرفة، يشرع في العمل الجاد والدءوب من أجل التغيير نحو الأفضل بواسطة ما لدية من قدرة وإمكانيات. وتأتي في مقدمة الإمكانيات كل النصوص الأساسية التي تحدد معالم المجتمع وتضبط مسالك العمل المؤدية لتشييده على الوجه الأفضل، بالنسبة لما فيه خير السكان المقيمين في رقعة جغرافية معينة. وفيما يخص ثورة نوفمبر، فإن هذه النصوص تبدأ بالبيان الذي بشر بميلاد جبهة التحرير الوطني، وتمر بوثيقة وادي الصومام وبرنامج طرابلس، وهي الوثائق الثلاث التي نشرتها، بتصدير رئيس الجمهورية، وزارة المجاهدين بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لاسترجاع الاستقلال الوطني. ولأننا تصفحنا الكتيب، فإننا ننقل إلى القارئ الكريم مجموعة من الملاحظات نعتقد أنها ضرورية لتجنب الانزلاق في متاهات الضبابية والتعتيم. ونستهل ذلك بالتأكيد على أن القراءة، في جميع النصوص، تختلف من باحث لآخر. وتكتسي القراءة التاريخية طابعا خاصا لأنها تتطلب منهجية علمية متفق، عالميا، على أنها صعبة ويستحيل، معها الإدعاء بأن الدارس الواحد يستطيع تقديم شرح كاف وواف لنص يكون في مثل أهمية النصوص الأساسية لثورة أول نوفمبر 1954، وذلك لأسباب نرى أن أبرزها يمكن تلخيصه في ما يلي : 1 _ إن أول خطوة يقوم بها الباحث، في هذا المجال، تتمثل في التأكد من أصالة الأصل، وإلا فإن مجهوداته تضيع سدى، إذ يكون قد أنفقها في تسليط الأضواء على موضوع غير المطلوب منه معالجته. فمثل هذه الحالات تكررت في مجال البحث العلمي، وهي في الحقيقة نتاج الإهمال، و يترتب عنها ، عادة ، تناقض الآراء وضبابية الرؤية وإفراغ الملفات من محتوياتها الحقيقية. ففيما يخص بيان أول نوفمبر 1954، على سبيل المثال، ولأسباب يصعب تفسيرها، فإن قراءته، حتى الآن، لم تكن سوى انطلاقا من ترجمه أنجزت على عجل سنة 1957، ثم ظلت تتداولها الأقلام، مع بعض الحذف والإضافات ّ إلى أن جاءت وزارة المجاهدين فأسست لجنة وطنية جمعت عددا من تلك الترجمات وأخضعتها للمقارنة فيما بينها للتدقيق اللغوي، فقط، وبعد أشهر من العمل، انتهت إلى اختيار نص وقع الاتفاق على أن يكون هو الوثيقة الرسمية التي تعتمد في جميع الحالات. ووقعت طباعته بكيفية فاخرة ووزع بأعداد كبيرة على المؤسسات العمومية والتعليمية منها على وجه الخصوص . أما وزارة المجاهدين، من هذا المنطلق، فإنها قامت بما عليها، وبذلت ما في وسعها، إداريا و ماليا، لتضع، بين أيدي المهتمين، نصا لا بد منه لفهم أدبيات الثورة في الجزائر. لكن أعضاء اللجنة الذين أسندت إليهم مهمة التحقيق في نسخ النداء المتداولة أثناء فترة الكفاح المسلح وبعد استرجاع السيادة الوطنية، قد أخلوا بواجبهم الوطني والعلمي، أولا لأنهم قبلوا المسؤولية وهم غير مؤهلين لذلك، أكاديميا، وثانيا لأنهم لم يستعينوا بالمؤرخين يرشدونهم إلى سواء السبيل . إن الإهمال المذكور والافتقار إلى الكفاءة العلمية قد تسببا في وقوع انحراف خطير أصاب جوهر نص البيان، حيث أن الهدف الرئيسي الأول أصبح: " إقامة الدولة الجزائرية" بدلا من: " إعادة بناء الدولة الجزائرية" كما ورد في الأصل المكتوب باللغة الفرنسية، وهو حرفيا: " Restauration de l' Etat Algérien " . وبديهي أن قولنا إقامة الدولة فيه نكران لوجود الكيان الجزائري ذي السيادة المعترف بها في الداخل وفي الخارج،من جهة، وفيه تبرير للاحتلال الفرنسي من جهة ثانية. وهناك أخطاء أخرى فادحة تعرضنا لها في الجزء الثالث من كتابنا " تاريخ الجزائر المعاصر" وليس هذا مكان التوقف عندها مليا. 2 _ إن التأكد من أصالة النص، وحده، لا يكفي لتفسيره، بل لابد من تدخل ما يسميه المؤرخون بالعلوم الموصلة وهي، في قضية الحال تشمل إتقان اللفة التي كتب بها النداء، لأن الترجمة مهمة صعبة وتتطلب الإحاطة بأسرار اللغتين المنقول منها والمنقول إليها. ولقد أثبتت التجربة أن خطأ واحدا في الأداء قد يترتب عنه تغيير المعنى أو تشويهه أو تحريفه. نضرب مثلا على ما نقول من النداء نفسه تعريب ّ القرارات الملكية ّ بالأقاويل و ّ الشبهات ّ بالتنازلات، مما يعطي مدلولا خاطئا للإرادة السياسية التي سعى إلى التعبير عنها مؤسسو جبهة التحرير الوطني. وفي نص البيان، أيضا، كان لا بد من التأكيد على أن الإصلاح المقصود إنما هو الإصلاح السياسي وليس الإصلاح الديني الذي كانت تقوم به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ولذلك كان على المترجم أن يضيف بين قوسين كلمة الكولونيالي إلى مصطلح " روح الإصلاح " التي دعا البيان إلى ضرورة القضاء عليها. و من العلوم الموصلة، أيضا، بل واللازمة للتعامل مع وثيقة أول نوفمبر، علم التاريخ الذي يمكن القارئ من فهم المصطلحات المستعملة والأوضاع المعبر عنها، و يسهل له إدراك المرجعيات الفكرية والثقافية والأيديولوجية والسياسية التي كانت في أساس الصياغة. فالمصطلحات والمفاهيم هي مفاتيح الفهم والكتابة في جميع الميادين، وفي ميدان التاريخ على وجه الخصوص. لأجل ذلك يتعين أن تكون مضبوطة وواضحة المعاني، وأن يكون مدلولها مطابقا للواقع وهي، لذلك، لا بد أن تكون من وضع المعنيين بالدرجة الأولى، أي المؤرخين الوطنيين الذين يكونون قد تشبعوا بإنتاج مدرسة التاريخ الجزائرية التي كان يجب أن ترسي قواعدها وأن يتضاعف نشاطها منذ أكثر من ربع قرن على الأقل . إن مدرسة التاريخ الجزائرية تأتي، في هذا السياق، لتصلح ما أفسدته مدرسة التاريخ الاستعمارية التي وظفت العلم لتشويه الوقائع وتزويرها، مما أحدث الضبابية والغموض في أذهان الناس وفي كتابات المختصين، و جعل النشء يبتعد، شيئا فشيئا، عن جذوره وأصالته ليرتمي في أحضان الغرب الامبريالي عامة والمستعمر السابق بصفة خاصة . إن الأمثلة على تشويه المصطلحات وتزييفها كثيرة، لكننا، وعلى سبيل الإشارة فقط، نتوقف عند ّ الحركة الوطنية ّ التي حدد الاستعمار لظهورها سنة 1919 ، وربطها بالمطالب التي كان قد صاغها الأمير خالد ووجهها إلى السلطات الاستعمارية، وبالإصلاحات التي قررت حكومة الاحتلال إجراءها لإسكات أصوات" الأهالي" المنادية بضرورة الحد من عسف الإدارة الكولونيالية . لم تكن المطالب المشار إليها بدعا في تاريخ النضال السياسي الجزائري، خاصة عندما نعلم أنها تكاد تكون جزء لا يتجزأ من عريضة الشيخين التي كان الدكتور محمد بن العربي الشرشالي و الشيخ امحمد بن رحال قد رفعاها، سنة 1891، باسم الشعب الجزائري، إلى الحكومة الفرنسية في باريس، والتي لا يكاد المؤرخ الفرنسي، على اختلاف نزعاته، يتوقف عندها أو يعمل على التعريف بمحتواها ومنطلقاتها . إن مما لا شك فيه أن المؤرخ الفرنسي يقدر عريضة الشيخين حق قدرها، لكنه يدرك، في ذات الوقت، أنها تشكل خطرا قاتلا على مصير الاحتلال في الجزائر. لأجل ذلك فإنه جند كل إمكانياته لتترك المكان إلى مطالب الأمير خالد التي تقتصر، فقط، على الجانب السياسي ولا تركز على المجالات الفكرية والحضارية والدينية التي من شأن بلورتها تمكين الأجيال من الزاد اللازم للخروج من دائرة التبعية وللعمل الجاد والمتواصل في سبيل استرجاع السيادة الوطنية . ولا يجهل المؤرخ الفرنسي، أيضا، أن الحركة الوطنية الجزائرية إنما ظهرت مباشرة بعد تغييب الدولة الجزائرية، وهي تتمثل في تلكم المقاومات السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية والفكرية والدينية التي ظلت متواصلة، بطريقة أو بأخرى، من شهر جوان سنة 1830 إلى غاية وقف إطلاق النار سنة 1962 . فالحركة الوطنية، بهذا المفهوم، ترفضها المدرسة الاستعمارية التي تزعم أن فرنسا هي التي أوجدت الجزائر، وأن الشعب الجزائري إنما ولد بموجب القانون الصادر سنة 1889 والقاضي بإعطاء الجنسية الفرنسية ، آليا، لكل من يولد في الجزائر من أبوين أوربيين. و يرفض هذا المفهوم ، أيضا، كل من الشيوعيين واللائكيين الذين ينكرون على الشعب الجزائري عروبته و إسلامه، و تباعا يتنكرون للدولة الجزائرية السابقة للغزو الاستعماري . وإذا كانت الأصول هي المنفذ الوحيد الذي يسلكه المؤرخ الجاد للوصول إلى الحقيقة، وإذا كان واجب ذلكم المؤرخ يكمن، بالدرجة الأولى، في التحقق من حرفية النص والتأكد من أنه لم يتعرض لزيادة أو نقصان أو تشويه أو تحريف، وهي آفات قد تأتي عن غير قصد وقد تحدث بفعل فاعل لأسباب ظاهرة أو خفية، فإن التعامل مع النص التاريخي يستلزم، حتما، معرفة شاملة ودقيقة بالمرجعية الفكرية التي اعتمدها صاحب أو أصحاب الصياغة، وإلماما واسعا بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي من شأنها التأثير في معالجة الموضوع. ذلك أن معاني المفردات كثيرا ما تتطور وتتغير، أحيانا، كلية، بفعل تطور تلك الظروف وتغير الأحوال. هكذا، إذن، ومن هذا المنطلق، نعتبر أن الخطوة الأولى، قبل أية قراءة لنداء أول نوفمبر، إنما تكمن في العودة إلى النص الأصلي. وليس ذلك بالعمل الصعب، بل هو متوفر ومن السهل جدا الاطلاع عليه، مرقونا، في صورته الأولى، مكتوبا بلغة فرنسية بسيطة لكنها سليمة إلى أبعد الحدود، وهو لا يختلف في شئ عن النص المنشور على أعمدة اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني في عدده الخاص، الصادر عن منشورات المقاومة الجزائرية . من هذا المنطلق، ودون الحط من قيمة الجهد المبذول لوضع النصوص الأساسية الثلاث في متناول الباحثين والدارسين، نؤكد أن بعض التشويه في الجوهر مقصود لتبرئة الحزب الشيوعي الجزائري الذي خصصت له وثيقة وادي الصومام فصلا كاملا بعنوان" الشيوعية غائبة"، ولا نجد لذلك أثرا في الكتيب المشار إليه أعلاه .. وللحديث بقية.