لم يعد إقبال الفقراء على حاويات القمامة في الأسواق بدافع كسب القوت اليومي من بقايا الخضر والفواكه، بل تحول الأمر إلى تجارة مربحة لعدد كبير من النساء اللواتي، يعملن على بيع الطماطم الفاسدة للمطاعم، ويحوّلن بقايا الدجاج والديك الرومي من عظام وأمعاء إلى مصانع "الباتي" ليكسبن من هذه العملية أموالا معتبرة، جعلتهن يعملن ضمن شبكات لاستغلال كل مايرمى في القمامة، خاصة في شهر رمضان، أين تتنافس هؤلاء النسوة على حجز أماكن بالقرب من حاويات القمامة منذ الساعات الأولى من الصباح. كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا من اليوم السادس من رمضان، المكان سوق علي ملاح بالعاصمة، إقبال كبير للمواطنين من النساء والرجال وحتى الأطفال على طاولات الخضر والفواكه، ومع الارتفاع القياسي لأسعار اللحوم الحمراء عرفت محلات بيع اللحوم البيضاء إقبالا كبيرا للزبائن، مما جعل حاويات القمامة بالسوق تمتلئ ببقايا الدجاج والديك الرومي من أمعاء وعظام، كان يتهافت عليها عدد من الرجال الذين كانوا يضعونها في أكياس سوداء كبيرة الحجم ويحوّلونها إلى خارج السوق، بالاستعانة ببعض النسوة اللواتي أصبحن معروفات لدى العام والخاص في السوق، لإقبالهن اليومي على المكان منذ سنوات. كل ما كان يرمى في الحاوية من بقايا الدجاج والديك الرومي يتم انتشاله للتو وتحويله لخارج السوق وبكميات كبيرة، خاصة وأن السوق يحتوي على عدد كبير من محلات بيع اللحوم بنوعيها الحمراء والبيضاء، حاولنا الاقتراب من بعض النسوة لاستطلاع الأمر، غير أنها طردتها وبدأت في الصراخ، خشية أن نكون من رجال الأمن، فالنسوة اللائي يمتهن هذا النشاط -حسبما اطلعن عليه- يظهرن نوعا من الجنون والفقر الشديد لكي لا يعترض طريقهن أحد. مكثنا في المكان قرابة الساعتين، كنا نلاحظ فيها الأكياس السوداء المعبأة ببقايا اللحوم البيضاء التي كانت تسرب لأماكن مجهولة جهارا نهارا دون أن تثير فضول التجار، وحتى الزبائن الذين ألفوا هذا المشهد، ومع امتناع النسوة الحديث معنا استوقفنا أحد الجزارين، الذي كان بصدد رمي فضلات ما تبقى له من هياكل الدجاج الرومي، وسألناه عن وجهة ما يتم تحويله من أكياس سوداء، فأكد أن الكل يعلم أين تذهب هذه الأكياس، لكن لا أحد يتجرأ للتحقيق في الموضوع، فأعدنا سؤاله عن الأمر، فقال بصوت عالي أن هذه الفضلات تباع لبعض مصانع "الباتي" التي تعيد تحويل هذه المواد التي تنتشل من القمامة وتباع للمواطنين، وكشف أن الكيلوغرام من عظام الديك الرومي تباع لهذه المصانع التي تنشط بعضها بطريقة غير شرعية مابين 35 و50 دج، مؤكدا أن كل مايرمى في القمامة يتم تحويله، واستغرب المتحدث لعدم تدخل مصالح الأمن للتحقيق في القضية، بالرغم من أنهم يقصدون السوق يوميا، حديث التاجر معنا بصوت عالي أثار استياء أحد الرجال الذي كان يعبئ أكياسا سوداء "بأرجل الدجاج"، مما جعله يعلق"أنتم التجار أكبر السراق والمنافقين..لا أحد يكترث لكم ويراقبكم..فلما تطالب بمراقبتنا ونحن زوالية" ليرد عليه التاجر"أنتم عصابة تعملون على تسميم المواطن بهذه المواد الفاسدة.."، وبعدها غادر الجزار مهددا الرجل بأنه سيبلغ عن نشاطهم. يستخرجن صلصة الطماطم من القمامة ويبعنها ب 50 دينارا منذ الساعات الأولى من الصباح تتسابق العديد من النساء لحجز الأماكن القريبة من حاوية قمامة سوق علي ملاح ليتسنى لهن الظفر بالخضر والفواكه التي ترمى من طرف التجار، والغريب في الأمر أنهن يجلبن صناديق بلاستيكية وسكاكين لتنقية الخضر التي يقتنونها من المزابل أمام الجميع دون أن يكترثن لأحد، وأكثر مادة كانت تقبل عليها النساء هي الطماطم التي تعتبر من أكثر الخضر تعرضا للتلف في فصل الصيف، مما يجعل الكميات التي ترمى في القمامة معتبرة. ومع ارتفاع سعر هذه المادة تلجأ هؤلاء النسوة إلى خطف كل حبة ترمى، ويعملن على تنقيتها وتقطيعها في الحين، وبعدها يضعنها في كيس بلاستيكي، اقتربنا من إحداهن، فصدت وجهها عنا، وبدأت أخرى في الصراخ، "دعونا لا شأن لكم بنا" ولحسن الحظ أن السائق كان برفقتي، وكان يعرف خبايا هؤلاء النسوة، وتحدث إليهن بصفته صاحب مطعم يريد التعاون معهن، لإمداده بالطماطم الفاسدة، وهذا ما جعل أحد النسوة "خالتي ربيعة"، وهي امرأة في الخمسينات من عمرها بدينة وضخمة الحجم، كانت تجلس في مكان تراقب فيه عمل النسوة، جاءت لتتفاوض معنا مؤكدة أن 40 امرأة تشتغل في تحويل الخضر التي ترمى في المزابل، وقالت إن العديد منهن يأتين بسيارات، ولهن علاقة مع عدد من المطاعم و"البيتزيريات"، وقالت إنها تملك خبرة طويلة في هذا المجال تزيد عن 20 سنة وأن الكل يعرفها، وعن سعر الطماطم الفاسدة، قالت إنها تتراوح بين 20 إلى50 دج للتر، لأن هذه الطماطم يتم عصرها وبيعها على شكل "صلصة". وبعد 20 دقيقة من حديثها معنا، أدركت أننا لم نكن تجارا لما رأت المصور يحمل حقيبته، مما جعلها تغير الموضوع، وتدعي أنها فقيرة ومسكينة وتعمل من أجل إعانة أبنائها، بعدها اضطرينا لمغادرة المكان، بعدما كثرت نحونا الأنظار، وبدأت الشكوك تحوم حول هويتنا، وصعدنا إلى جسر مطل على القمامة وبدأنا في تصوير كل ما شاهدناه من عملية ملأ الأكياس السوداء بأمعاء الدجاج وعظام الديك الرومي، وتقطيع الطماطم الفاسدة ووضعها في أكياس تحوّل للبيع.