عندما استيقظ سكّان حيّ البيّازين بغرناطة صبيحة الثّاني من جانفي 1492م، كانت رايات قشتالة وأعلام مخلّصها شانت يعقوب – قاتل المسلمين – قد بدأت على التّو ترفرفرعلى أسوار قصر الحمراء رمز عزّتهم ودولتهم. وأمام أبوابها كانت حناجر عساكر حرب الإسترداد تصدح بتسابيح المجد شكرًا للإله الّذي أمكنهم من غرناطة. بعدها بدقائق قليلة خرج محمّد الثّاني عشر من قصر الحمراء وسلّم مفاتيح المدينة. وقبل أن يسلك آخر الملوك المسلمين على أرض إيبيريا طريقه مغادرًا مملكته الى الأبد انهالت عليه سهام الأقاصيص القشتاليّة كعادتها قدحًا وإهانة فجعلته يمرّ بدربٍ لم يمر به البتّة وأسمت الموضع " زفرة العربيّ الأخيرة". ورغم أنّ بنود اتفاقية التّسليم التي وقّع عليها الملكان فرديناند وإيزابيلاَّ بدت سخيّة كثيرا، فضمنت التعايش السّلمي بين السّكان، كما ضمن الملكان لرعاياهم الجدد ممارسة عقائدهم وتجارتهم في حرّية تامّة. كما أمكنا المسلمين في باقي أجزاء اسبانيا التي عادت نصرانية بعد حروب الإسترداد الحفاظ على ديانتهم، إلاَّ أنّ أزقّة غرناطة بقيت في هذا اليوم من السّنة الجديدة خالية. فلا أحد كان قد أعدّ سكّان المدينة المسلمين ليوم الإستسلام هذا. عاش المسلمون والنّصارى واليهود على أرض اسبانيا لمئات السّنين محترمين لعقائد بعضهم ويتزاوجون فيما بينهم، لكن يبدو أنّ هذه القرون السِّمان قد ولّت. وبعد أن تبنّت الدّولة عقيدة " الدّم النّقي ". وصار شرطًا لكلّ مكسب أو وظيفة أو إلتحاق بالجيش أن يكون النّصراني قديما يرجع أباؤه بدينهم الى عهد دولة القوط ، أي أولئك الّذين حافظوا على ديانتهم النّصرانية و لم يغيّروها ولم يكونوا يهودا أو لم يهتدوا إلى الإسلام هم وأباؤهم. كما بُدءَ في تفعيل قانون طُليطلة الصّادر سنة 1449 كوسيلة للتعامل مع النّصارى الجدد (المسلمون المنصّرون) فأصبح التعميد وحده غير كاف لإدماج من كانت في دمه مجرّد قطرة من غير دم النّصارى القدامى في الحياة الإسبانيّة الجديدة. كان اليهود المتحوّلين الى النّصرانيّة (المارانوس) هم أولى ضحايا هذا التّمييز العنصري. فبعد سنة 1485م كانت محاكم التّفتيش قد حكمت على أكثر من ألفين منهم بالحرق أحياء، فرغم تعميدهم وادّعائهم بأنّهم نصارى إلاَّ أنّه ظلَّ يُنظر اليهم أنّهم لايزالون يُمارسون دينهم سرًّا. ومع سقوط غرناطة كانت المأساة قد بلغت أوجها عندما أصدر الملكان قرارهما (قانون غرناطة) في شهر مارس 1492م يطالبان فيه جميع يهود المملكة بمغادرة أرض اسبانيا إن هم لم يتحوّلوا إلى النّصرانيّة. لم يكن حال الموريسكيين (النّصارى الجدد من المسلمين) يختلف كثيرًا عن حال اليهود فقد كانوا هم أيضًا ممقوتين ومنبوذين في المجتمع الإسباني الجديد بعد سنة 1492م وكان يُنظر اليهم بعين الرّيبة فهم ليسوا أقلَّ من " أعداء من الدّاخل " مثلما كتب الكاتب البريطاني ماثيو كار في كتابه الرّائع " دم وايمان "، وكان يُنظر إليهم أنّهم طابور خامس يتعاون مع أعداء اسبانيا من العثمانيين، وقراصنة شمال افريقيا (مجاهدو البحر). وحبّذا لو استعمل التّاج الإسباني كل قسوته وقوته ضدّهم. وبالفعل ففي سنة 1496م طلب الملكان الكاثوليكيان أن يكون طرد كلّ مسلمي البرتغال صداقًا لزواج ابنتهما من ملك البرتغال. أمّا تهجير بقايا المسلمين خارج وطنهم فقد تعامل معه الملكان الكاثوليكيان ايزابيلاَّ وفرديناند بحذر، فاذا كان طرد اليهود الّذين هم من دون وطن سهلا فإنَّ الأمر يختلف مع المسلمين الّذين لهم إخوانهم في شمال افريقيا وباقي البلدان الإسلاميّة ويُمكن أن يتخد الملوك المسلمون نفس الإجراءا في حقّ النّصارى الّذين يقيمون على أراضيهم. مثلما حدث في سنة 1501م عندما بعث السّلطان المملوكي الى بابا روما يهدّده باتخاذ نفس الإجراءات ضدّ نصاراه بعد أن بلغه القهر الّذي يتعرّض له مسلمو غرناطة. لقد وقع الخلاف منذ السّنوات الأولى التي أعقبت سقوط غرناطة بين السّلطات الإسبانيّة في الطّريقة السّليمة للتّعامل مع رعاياها المسلمين، وكان هذا الخلاف متأثّرا بتلك الأجواء السّياسية من التّنافس العالمي. كما ألقت الحروب والمعارك بين العالم الإسلامي والنّصراني بظلالها على القضيّة خلال عقود القرن السّادس عشر كلّه. من جانبٍ آخر سعى الزّعماء السّياسيون لتسوية القضيّة ومفاضّتها. فراهن أوّل حاكم نصرانيّ لغرناطة على الحوار. وتعلّم كبير أحبارها اللّغة العربيّة حتّى يُلقّن المسلمين الوصايا العشرة بلغتهم، وسُمح لهم بممارسة الرقصة الموريسكيّة " الزّمبا " في إحتفالات عيد القربان. إلاَّ أنّ هذا التّعامل اللّين لم يرق لإيزابيلاَّ ورأت أنّه لن يُساعد على إيجاد حلٍّ كافٍ وسريع لإنهاء المسألة. فأمرت مرشدها الدّيني الكاردينال غونزالوسيسنيروس بالذّهاب إلى غرناطة. واجه الرّاهب الفرنسيسكاني المتزمّت في البداية أولئك المارقين من الدّين الّذين اهتدوا إلى الإسلام من النّصارى. وحدث أن ذهب إثنان من شرطته لإحضار إحدى النّساء من حيّ البيّازين المسلم، وفي الطّريق صاحت المرأة تطلب المُساعدة: "إنّهما يطلبان منها أن تتخلّى عن دين مُحمّد". فأسرع كلّ من كان في الدّرب وأمطروهما بالحجارة فقُتل أحدهما وفرّ زميله إلى إحدى الدّور المُسلمة فأخفته احدى النّساء الُمسلمات تحت سريرها حتّى مرّت العاصفة. أجّجت الحادثة أعمال العنف والعنف المُضاد. وسخطت النّفوس في حيّ البيّازين على مبعوث الملكة إيزابيلاّ المتزمّت. كان الملك فرديناند يوهما في إشبيليا، وعندما جاءه خبر أحداث غرناطة استاءت نفسه فبعث إلى قرينته الملكة ايزابيلاّ يُعاتبها على إرسالها لهذا الكاهن، وكان ممّا جاء في رسالته إليها: " لقد أفنت حماقته في ساعات الجهود التي بُذلت في سنوات كثيرة ". لكنّ الرّاهب الأكبر سيسنيروس بقي مُتصلّبًا في موقفه و مضى في قسوته مع الأهالي فلم يقبل العفو عن الثّائرين، اللّهم إلاَّ اذا قبلوا التّعميد. وسارع قساوسة غرناطة في ذلك اليوم بنضح الماء المقدّس (المبارك) باسم المسيح على رؤوس المسلمين جاعات جماعات. وبعد فترة قصيرة أعلنت الملكة إيزابيلاَّ باعتزاز وفخر: " أنّه لم يعد هناك في المدينة إلاَّ النّصارى، وأنَّ المساجد آلت إلى كنائس". لكنَّ الأمر لم يكن إلاّ وهما. فقد ثار المسلمون الّذين يسكنون المدينة وما حولها ضدّ هذا التّعميد القسري، وانطلقت الثّورة في جبال البشرات وخلال ثلاث سنوات كان الآلاف من المسلمين قد قُتلوا أو بيعوا في أسواق العبيد. وفي قرية أندرش وحدها قام الجنود النّصرانيون بحرق المسجد الذي لجأ إليه أكثر من 600 إمرأة وطفل. وأدرك النّاس أنّ الملكين المنتصرين قد غدرا بهم ونقضا العهد الذي أخذاه على نفسيهما. قال أحد وجهاء غرناطة المسلمين: " إذا كان الملك نفسه لم يلتزم بالعهد الّذي أخذه على نفسه فما الّذي يُمكن أن ننتظره ممّن يأتي من بعده من أحفاده". لم تعد الحرية الدينية التي تعهّد بها الملكان إلاَّ اسمًا. لقد انتهى كلّ شيءٍ. فجمعت الآلاف من نسخ القرآن الكريم، ومن الكتب العربية التي أبدع مسلموالأندلس في كتابتها وجمعها خلال ثمانية قرون في ساحة باب الرَّملة في خريف 1501م وأوقدت فيها النيران. كما أجّجت نار الأحقاد في قلوب النّصارى القدامى على المتننّصرين الجدد في كامل الممالك الإيبيريّة. ولم يبق إلاَّ مسلمو الأراغون يتمتّعون بالحماية الأخيرة. بسبب أنَّ هذا الجزء من المملكة في الجهة الشّمالية الشّرقية من شبه الجزيرة الإيبيريّة لم يتعامل بالجدّية الكافية مع مؤسّسات محاكم التّفتيش . كما أنّ الّذين هم في الغالب من النّبلاء الأغنياء بقوا متمسّكين بكلّ امتيازاتهم ومنها بقاء سكّان الآراغون من المسلمين وحمايتهم. لأنّه بهذه الطّريقة فقط يُمكن استغلال العاملين من المسلمين في حقول السّكر والكروم برواتب زهيدة، ممّا جلب عليهم سخط وحسد أسافل النّصارى في المنطقة. انتهى هذا الوضع المميّز سنة 1519م بانتشار وباء الطّاعون ببالنسيا اكبر العواصم في ذلك الزّمن ب45 ألف نسمة. فقد فرّ المحظوظون من الميسورين وتركوا المدينة للفقراء. فاتنهز الملك شارل الخامس ملك اسبانيا وقيصر الامبراطوريّة الرّومانية المقدّسة الفرصة وقرّر أن يُكسّر تلك السياسات القديمة التي كانت تحكم مملكة الآراغون، وسمح للشّعب أن يُؤسّس مجموعات مسلّحة تحت اسم (مجموعات الأخوّة). كانت مهمّة هذه الميليشيات في البداية هي مواجهة القراصنة، ومجاهدو البحر من المسلمين، لكنّها سُرعان ما أعلنت الثّورة على ملاّك الأراضي من الاقطاعيين، وهاجمت الغوغاء قرى المسلمين وسكناتهم تريد قتلهم أو تعميدهم بالقوّة وهي تصيح " الموت للنّبلاء! الموت للمسلمين!". غير أنّ انتصار الحقد تأجّل الى سنة 1526م. ففي هذه السّنة وبعد 800 سنة من وجود الاسلام على ارض اسبانيا لم يعد يُسمع للمؤذّن صوت. لقد ازدادت همجيّة أولئك المتزمّتين ولم يعودوا يعرفون الرّاحة. لقد صار كلّ شيءٍ يذكّر بثقافة المسلمين الفاتحين مثارًا للشّبهة، ويجلب على صاحبه الويلات. إنّ مجرّد وشاية من غير دليل يمكن أن تجلب صاحبها أمام محاكم التّفتيش ممّا يعني التعذيب والموت المؤكّد. إنَّ نظرة الإرتياب نحو أولئك المسلمين الذين تعمّدوا قسرًا واتخذوا النّصرانية بدلاً وغطاءً يتوارون بها عن محاكم التّفتيش وجُنّة يحتمون بها من لهيب نارها وسياطها وما لا يستطعيون عليه صبرًا من العذاب كانت عائقًا أمام ادماجهم في المجتمع الكاثوليكي في الكثير من المقاطعات. إنّ الكثير منهم لا يزال يبحث سرًّا عن خلاص روحه في دينه القديم. ولجأوا إلى مبدأ التّقيّة خاصّة بعد أن أرسل لهم مفتي وهران سنة 1504م يجيز لهم اللّجوء الى اظهار الكفر أمام النّصارى، وليذكروا اسم العذراء مريم أمامهم بدل النبي محمّد واذا اضطرّوا الى أكل لحم الخنزير فليأكلوا ولكن لتبقَ قلوبهم منكرةً لذلك. كما أنَّ الكنيسة لم تكن في مستوى المسؤوليّة التي أنيطت بها لتجعل من كلّ أولئك النّصارى الجدد على الأقلّ 300 ألف انسان نصارى حقيقيين. إنّها تفتقر إلى معلّمي العقيدة وتعوزها وسائل تعليمها. والأسوأ من ذلك أنّ بعض الرّهبان استغلّوا الوضع وصاروا يبتزّون الموريسكيين ويسلبونهم أموالهم. ففي سنة 1570م كتب أحد أحد النّصارى ساخرًا من عمى السُّلطات الدّينية التي بدل أن تُبشّر بالنّصرانية بين الأهالي على أرض اسبانيا نراها ذهبت بعيدًا الى أقاصي الأرض كي تبشّر بها: " إنَّ مثلهم كمثل من ترك بيته مملوءًا بالثّعابين والعقارب فلم يُنظّفه، وذهب الى بلاد افريقيا يصطاد الأسود والنَّعام". في السّابع من نوفمبر 1566م أصدرالملك فيليب الثّاني مرسومًا حجب به كلّ المراسيم السّابقة وممّا جاء فيه:" أنّ كلّ استمراريّة في ممارسة العادات أو التقاليد الإسلاميّة من حديث باللّغةٍ العربيّة الى الخمار الّذي تضعه النّساء على رؤوسهنّ يُعرّض صاحبها الى أقسى عقوبةٍ. لجأ موريسكيو غرناطة الى محاميهم وممثلهم فرانسيسكو نوناز مولاي الّذي حاول أن يدفع هذا المرسوم، فرفع مذكّرة الى السّلطات قال فيها:" إنَّ إجراءّ مثل هذا لا يُمكن تحقيقه على أرض الواقع. فأغلب العادات دافعها بالأخصّ ثقافي وليس ديني. وحتّى النّساء النّصرانيات القديمات لا يزلن الى اليوم يتحجّبن ويسترن رؤوسهنّ … لقد حاول الرّجال في الخمسة والثّلاثين الى الأربعين سنة الأخيرة عندنا هنا تقليد اللّباس القشتالي على أمل أن يلتفت إليهم مولانا الملك ويهبهم بعضًا من الحرية. لكن للأسف لم نحصل على شيءٍ ممّا كنّا نرجوه. إنّ وضعنا يزداد سوءًا مع كلّ يومٍ يمرّ". أمّا السّبب الّذي دفع الملك الى مثل هذه الخطوات القاسية فإنّه يبقى مبهمًا. ولم نعثر إلاَّ على هذه المشورة المُقتضبة التي قدّمها أحد أساتذة اللاّهوت و أحد مستشاري الملك فيليب الثّاني: " إنَّه كلّما مات عدد أكبر من الموريسكيين، كلّما كانت الفائدة أعظم وأعمّ، لأنَّ ساعتها سيكون هناك القليل من المعارضين ". ويبدو أنّ هذه الفتوى قد أفرحت الملك كثيرًا. فالنّتائج الدّمويّة لمثل هذا القانون يبدو أنّها قد أخذت في الحسبان. كان هذا المرسوم هو بداية النّهاية لمسلميّ الأندلس. فبمجرّد صدوره أسرع مسلمو غرناطة الى حمل السّلاح وانطلقت ثورة البشرات التي كانت من أفظع الحروب بأوربّا القرن السّادس عشر، مثلما كتب المؤرّخ البريطاني هنري كامن: فبعد قمع ثورة البشرات سنة 1571م هجّر المنتصرون فيها جميع الموريسكيين. وفي طريق التّرحيل القسري الى قشتالة هلك الكثير من شدّة الجوع وقسوة البرد، فقد ترك غرناطة أكثر من خمسين ألف من سكّانها. حتّى أنَّ بطل هذه الحرب الدّون خوان النّمساوي الأخ غير الشّرعي للملك فيليب الثّاني الّذي كان قبل فترة قصيرة قد حقّق صيتًا عالميّا بانتصاره على العثمانيين في معركة لوبانتو البحريّة، وجد في نفسه أسفًا للمنهزمين فكتب من غرناطة قائلاً: " إنَّ تفريغ مملكةٍ من شعبها لأمر محزنٌ كثيرًا ". لم تحلّ عملية التّرحيل المشكلة،فعشرين سنة بعدها رأى كاردينال باطليوس: "أنَّ سياسة ادماج موريسكيي غرناطة قد فشلت. فهم لا يزالون يتكلّمون لغتهم (عامّيتهم). ويتزاوجون فيما بينهم. وأنّ شبح كارثة ديموغرافيّة ستحلّ باسبانيا اذا بقي أولئك الموريسكيّون يتزوّجون في مقتبل العمر، وينجبون الكثير من الأولاد بعكس الشّعب النّصراني الّذي صار عدد أبنائه يتقلّص بفعل الحروب وعزوبيّة رهبانه التي يفرضها عليهم دينه ". في أفريل من عام 1582م رسم المفتّش العام لمحاكم التّفتيش صورة المؤامرة التّالية التي يحيكها الموريسكيون ضدّ المملكة الاسبانيّة: " إنّ مئتي ألف مقاتل موريسكي يقفون متأهّبين لمساعدة السّلطان العثماني لغزو اسبانيا. إنّه يجب ابادة جميع الموريسكيين. أمّا ترحيلهم فرغم أنّه حلّ فعّال إلاَّ أنّ ثمنه سيكون باهظًا على خزينة الدّولة…. إنّهم خطر على الأمن والإستقرار". لكنّ الإعتراض جاء من سلطات محاكم التّفتيش نفسها، فقد حذّرت سلطات بالنسيا من الإقدام على مثل هذه الخطوات: " إنَّه لا يمكننا أن نرسل الموريسكيين الى أرضٍ غريبة لأنّهم في النّهاية اسبان مثلنا". ومع ذلك فقد بدا الطّرد مسألة وقت فقط. فدائمًا ما كان الكثير من المعاصرين يكتبون بحنقٍ وحقد ضدّ الموريسكيين. كان البعض يريد أن يرسلهم الى العالم الجديد، وآخرون في سفنٍ دون أشرعة ويتركهم للأمواج تتلاعب بهم. غير أنّ جميع هذه الإجراءات لبلدٍ غارق في الحروب مثل اسبانيا بدت مستحيلة ولا تستطيع خزائن الدّولة التي ليس لها من المال ما يكفيها لتطبيقه. فقد حذّر وسط هذه النّقاشات أمين المملكة أنَّ الزّراعة من غير الموريسكيين ستنهار وتتحوّل الأراضي الفلاحيّة الى أراضٍ جرداء و بور. والحقيقة أنّه ليس هناك زاوية من أرض اسبانيا إلاّ ويتقنها الموريسكيون، فهم وحدهم من يعرفون كيف يجعلون الأرض خِصبةً، وأكثر إنتاجًا. بعد فترة وجيزة من هذه النّقاشات تُوفّي الملك فيليب الثّاني وبدأ مع من أتى بعده تراجع قوّة اسبانيا العالميّة. كان الملك فيليب الثّالث انسانًا متعصّبا مثل أبويه فرديناند وإيزابيلاَّ غير أنّه لم يكن له مثل طموحهما السّياسي، فكان يقضي كلّ أوقاته في اللّهو والصّيد، وترك أمور الدَّولة لأصحاب الحظوة والنّفوذ. فساءت الأوضاع الإجتماعيّة والإقتصاديّة بشكلٍ واضح في اسبانيا في بداية القرن السّابع عشر: فقد 600 ألف انسان حياتهم بسبب الطّاعون، وساءت المحاصيل الزّراعية وعصفت المجاعات بالبلد. ثمّ أضيفت اليها الهزائم العسكريّة التي توالت على الدّولة وبسرعةٍ عُثِر على كبش الفداء:"إنّهم الموريسكيّون " أُتُّخذَ قرار التّرحيل في ال30 من جانفي 1608م في جلسة سريّة للحكومة،وقد برّر دوق ليما الحاثّ الأوّل على قرار الطّرد هذا، سبب إختيار هذا التّوقيت بالضّبط بقوله:" أنّ اسبانيا الني انهت الحرب بشرف مع الإنفصاليين الهولنديين صار جنودها وسفنها جاهزين الآن لتفعيل عمليّة الطّرد". كان من الواجب أن تُبلّغ بالقرار جميع مقاطعات اسبانيا، ولكن لأسباب لوجيستيّة أذيع فقط في منطقة الأراغون. ففي صبيحة ال24 من سبتمبر 1609م قرأ المنادي في بالنسيا قرار طرد جميع الموريسكيين بحجّة " الهرطقة والإساءة الى الملك، وسبّ الذّات الإلهية، وأنّ عليهم أن يبقوا في منازلهم ثلاثة أيّام يستعدّون فيها للرَّحيل، ولا يُستثى من هذا الأمر إلاِّ الأطفال الّذين تقلّ أعماهم عن أربع سنوات. كما تُحجز كلّ الأشياء ذات القيمة كانت في أيدي الموريسكيين، وتصير الأراضي التي يملكونها الى كبار ملاَّك الأرض من النّبلاء". ما أن غادرت أولى السّفن المحمّلة بالموريسكيين باتجاه شمال افريقيا حتّى تقدّمت مدينة مورسية القشتالية بالتماس لدى الملك ترجو فيه استثناء موريسكيي مورسية من قرار الطّرد.على اعتبار أنّهم نصارى صالحون وأنّهم أتباع مخلصون وأوفياء للتّاج الملكي". ثمّ تبعتها نداءات أخرى مشابهة في مقاطعات و مدن إسبانية كثيرة. لكنّ تلك النّداءات لم تُكلل جميعها بالنّجاح، فانطلاقًا من جانفي أرسل الموريسكيون من كلّ مقاطعات اسبانيا الى الموانئ الإسبانية. في الطّريق تعرّض الضِّعاف للإبتزاز والسّرقة، والفتيات والنّساء للإغتصاب، كما أنَّ بعض السّفن التي كانت تحملهم لم تصل مُطلقًا الى مرافئها بشمال افريقيا، فقد قَتَل طاقم السّفينة ركّابها ورموا بهم الى البحر. أمّا في شمال افريقيا فقد استمرّ مسلسل الرّعب، مثلما أورد أحمد بن محمّدالمقري التلمساني في كتابه " نفح الطّيب من غُصن الأندلس الرّطيب" أنّ الكثير منهم تعرّض لإعتداء البدو(العربان)، ولم يصل إلاَّ القليل منهم. كما كان على الكثير منهم أن يُظهر علامة الختان كدليل على اسلامه، و تصرّف البعض منهم كنصارى حقيقيين فتردّدوا في تجاوز عتبات أبواب المساجد فلم يدخلوها. ورجم النّاس بعضهم بالحجارة ظانّين أنّهم نصارى اسبان مثلما حدث لإحدى المجموعات بمدينة تيطوان المغربيّة. وعلى الأقلّ أنَّ سدس المرحّلين لم يعش لمصيره، وأنَّ ثلاثة أرباعهم لم ينجحوا في تجاوز عمليّة الطّرد. لقد أرسلت اسبانيا مواطنيها الى الموت جماعات جماعات. كما عانى الأحياء الباقون من ألم الشّوق والحنين الى أوطانهم. فقد كتب أحد موريسكيي لامانشا سنة 1611م رسالة الى سيّده جاء فيها: "ليس هناك يومُ أو ليلة يمرّان علينا ولا نُفكّر فيهما في أرضنا وجيراننا". و كتب أنَّه قرّر العودة الى اسبانيا مهما كلّفه ذلك:" إنَّنا نبكي الدّمع ممزوجًا بالدّم، وسنعود حتّى لو أعدمونا". وبالفعل فقد عاد بعضهم سرّا مثلما حدث في مدينة فيلاروبيا القشتاليّة التي طورد ت بها مجموعة عنيدة من الموريسكيين ثلاث مرّات. كما نجح بعض الموريسكيّين مثلما أوردت بعض المصادر التّاريخية في تزوير شجرة النّسب النّصراني من أجل البقاء في وطنهم القديم. في سنة 1622م وبعد وفاة الملك فيليب الثّاث أكّد وريثه أنّ حجم الخسائر التي تركتها عمليّة طرد الموريسكيين كانت مروّعة وخاصّة في مملكة الأراغون التي عصف بها الخراب بفعل هذا القرار المشؤوم. بعد 350 سنة على هذا القرار عرضت السّلطات الإسبانيّة سنة 1982م على أحفاد اليهود الّذين طُردوا من اسبانيا سنة 1492م،الجنسية الإسبانية واستثنت أحفاذ الموريسكيين من هذا القانون. وعندما أُعلن عن زيارة الملك خوان كارلوس لمدينة تيطوان سنة 2005م طالب تجمّع أحفاذ الموريسكيين هناك باعتذارٍ رسميّ من السّلطات الإسبانيّة واصلاحًا معنويًّا للآم التي عانَوها مثلما قال ناطقهم:" إنّنا نحسّ أنّنا مرتبطون بنفس التّاريخ مع اسبانيا وعاداتها هي عاداتنا".بعد فترة وجيزة أُلغيت زيارة العاهل الإسباني لمدينة تيطوان. (*):المقال مترجم من مجلّة الألمانية Spiegel Geschichte / العدد 1/ 2017