على امتداد 1361 كيلومتر تلتقي الجزائر عبر ولاية تمنراست بدولتي النيجر ومالي لتكون بذلك أكبر بوابة للمهاجرين غير الشرعيين الوافدين من الدول الإفريقية، وخلال السنوات الأخيرة تحولت إلى قبلة للمهاجرين الوافدين من الدول الأسيوية، و تشكّل الحدود المترامية مع دولتي مالي والنيجر و شساعة الصحراء، جنة للمهاجرين و للمهربين الذين يخرجون بوقود السيارات ليدخلوا بالسجائر. مكافحة الهجرة غير الشرعية في الجزائر تتم عبر عدة خطوط انطلاقا من الشريط الحدودي حيث تنتشر المراكز المتقدمة إلى غاية عاصمة ولاية تمنراست، كما أن باقي الطرق المؤدية إلى الولايات الشمالية خاضعة للرقابة سواء من طرف فرق الدرك أو قوات الأمن. ومنذ بداية عام 2006 استحدثت قيادة الدرك طريقة عمل جديدة لمكافحة ظاهرتي الهجرة غير الشرعية والتهريب، بحيث ترتكز حسب العميد طاهر عثماني قائد القيادة الجهوية السادسة للدرك الوطني على "تغطية الإقليم بدوريات بالسيارات أو سيرا على الأقدام في ضواحي التجمعات السكانية خاصة في الليل، وذلك بهدف إشعار المواطنين بالأمان زيادة على نصب الكمائن بالممرات التي يتسلل منها المهاجرون و المهربون، كما ارتأت قيادة الدرك الوطني خلال السنوات القليلة الماضية توظيف أبناء المنطقة للاستفادة من معرفتهم الجيدة بها " وقد أتت هذه الخطة ثمارها، بحيث تراجع عدد قضايا الهجرة غير الشرعية إلى 413 خلال 2006 أوقفت على إثرها الدرك الوطني 1469 مهاجر في حين وصل عدد القضايا المعالجة لسنة 2005 إلى 1603. طيلة أسبوع كامل، غاصت "الشروق" في أعماق مدينة تمنراست عبر الشريط الحدودي مع النيجر، رافقت فرق الدرك الوطني والجمارك لمعرفة الطريقة التي تعالج بها مشكلتا الهجرة غير الشرعية والتهريب بولاية يصفها الجميع "بالحساسة"، كما توغلت في الأحياء التي يعمرها هؤلاء المهاجرون للتعرف أكثر عن الأسباب التي دفعتهم لهجرة أهلهم وذويهم، وكذلك للتعرف على خطواتهم الأولى في طريق الهجرة المجهول، وهل حقيقة ينوون مواصلة طريقهم إلى "الإلدورادو"الأوروبي أم ينوون الإقامة في الجزائر؟ وإن كان الأمر كذلك؛ فهل تضيف إقامتهم بالجزائر شيئا أم أنّهم يشكلون خطرا يهدد أركان البنية الاجتماعية والآداب العامة. دورية "قارة النص"..للصحراء عيون.. الساعة تشير إلى الخامسة والنصف من صباح يوم الأحد (التاريخ) ماي بمقر الكتيبة الإقليمية للدرك الوطني، كل الطاقم المبرمج لهذه الدورية على أتم الاستعداد، الجنود متجمعون بمحاذاة سياراتهم الرباعية الدفع يتجاذبون أطراف الحديث ويترقبون الأمر بالانطلاق، بالنسبة إليهم العمل في الصحراء يسير بشكل آلي بمجرد مرور الشهر الأول الذي يشعر فيه المرء القادم من ولايات الشمال بالفرق ومدى صعوبة العمل في الصحراء. الملازم الأول كمال يتنقل بين السيارات، يحرص على مراقبة فرقته بعناية وإعطاء التعليمات حول الدورية للمرة الأخيرة "ستكون دورية للمراقبة، خاصة المهربين الذين تمكنوا من الفرار من الدوريات التي مشّطت الجهة الجنوبية خلال الليل" يفسر الملازم الأول كمال، الهدف الرئيسي من مثل هذه الدوريات هو مراقبة الطريق الوطني وزرع الشعور بوجود رقابة"فالصحراء لها عيون والجميع فيها يتناقلون عند التقائهم ببعضهم البعض أخبار الطريق". دقائق فقط حتى أعطى الملازم الأول إشارة الانطلاق ليهرع الجميع إلى السيارات كل يعرف مكانه ويحفظ عن ظهر قلب المهمة الموكلة إليه. خرجت السيارات الواحدة تلو الأخرى باتجاه عين قزام وبالضبط نحو "قارة النص" التي تبعد عن الولاية ب 230 كلم حيث تلتقي الدوريتان؛ الأولى التي خرجت من تمنراست و الأخرى القادمة من عين قزام."لا أتوقع التقائنا بمهاجرين غير شرعيين فهم يفضلون الخروج ليلا لسهولة اختبائهم ولانخفاض درجة الحرارة" يقول قائد الدورية، كمال هو شاب في مقتبل العمر يقضي عامه الثاني في الصحراء الأمر الذي أكسبه خبرة في عمله لكن معرفته بالصحراء لا تزال متواضعة كما يصفها "فالصحراء التي تمتد مساحتها على مد البصر لا يعرفها إلا من ولد فيها وترعرع في أحضانها". كيلومترات قليلة حتى توقفت الدورية عند المكان المحدد للالتقاء بالمرشد "في الصحراء لا يخاطر أي أحد بالخروج بدون مرشد حتى ولو كانت المسافة قصيرة". عمي أحمد طويل القامة وقوي البنية في "بازانه" الأزرق وشاشه الملفوف حول رأسه وعنقه، ولا يترك سوى بعض تفاصيل وجهه في متناول الأنظار، يلتحق بأول سيارة في الدورية، في يده دلو الماء الملفوف بالكيس القماشي وفي الأخرى كيس أو "العمارة" التي بها لوازم تحضير الشاي الترقي، مباشرة إلى مقعده خلف السائق يلقي السلام على الركاب ليتبادل الجميع التحيات والاستفسار عن حال بعضهم البعض. في عامه السادس والأربعين يعمل عمي أحمد مرشدا منذ أزيد من عشرة سنوات، سبعة منها مع الدرك الوطني مقابل راتب شهري يعيل به عائلته التي التحق ابنها البكر هو الآخر بصفوف الدرك، خلال كل هذه السنوات أرشد عمي أحمد مئات السائقين، يلمسهم على كتفهم الأيمن للانعطاف نحو اليمين وعلى الأيسر للانعطاف يسارا، مئات السائقين تعلموا من عمي أحمد بعض خدع الصحراء ومنهم من وصل إلى درجة من الخبرة تمكنه من تحدي بعض العشرات من الكيلومترات قبل العودة من جديد إلى استشارة المرشد، لكن لا أحد منهم يتجرأ على تحضير الشاي في حضرته.. بعض العشرات من الكيلومترات وانتهت الطريق المعبدة لتبدأ بعدها صعوبات الصحراء الحقيقية، خلال أشجار الطلح ونباتات "الكرنكر" تتداخل عشرات الدروب، ومن لا يعرف يظن ان جميعها تنتهي في نفس المكان، كل الدروب تبدو وكأنها متوازية لكنها على العكس من ذلك فالطريقان اللذان يلتقيان في مكان ما قد يصل البعد بينهما بعد مسيرة نصف ساعة إلى ثلاثين كيلومتر، قد تبدو هذه المسافة كبيرة إلى درجة تمكن السائق من الانتباه إليها، لكن هذه المسافة لا قيمة لها خاصة في وديان الصحراء أو "البلاطو" التي لا يُعرف طولها من عرضها بل كل أبعاده تلتقي مع الأفق، لكن بالنسبة لعمي أحمد السير في الطريق الصحيح خلال النهار تحدده معالم واضحة، قد تكون صخورا أو أشجارا معينة، أما معرفة الطريق في الليل، فذلك حديث آخر.. إلى غاية" واد أنفج" الذي يبعد عن مدينة تمنراست ب120 كيلومتر عبر طريق ملتوية ومُحدودِبة، كان موعدنا مع أول سيارة تويوتا من طراز "أف جي 79" والمعروفة بالستايشن، أشار إليها عمي أحمد وهي على بعد يقارب خمسة كيلومترات من جهة الجنوب "عرفتُ من خلال اهتزازها أنها تسير بسرعة قد تصل إلى 120 كلم في الساعة"، بمجرد ما رأى صاحب السيارة انعطاف دورية الدرك باتجاهه حتى ضاعف من سرعته ليضاعف على إثرها المسافة التي تفصله عن الدورية خلال ثوان، ولم يبق وراء السيارة سوى خطوط الغبار التي سرعان ما اقترنت بالأفق. الدورية لاحقت السيارة المشبوهة لمسافة لم تتعد خمسة كيلومترات قبل أن يوقفها الملازم الأول كمال قائد الدورية "القانون يمنعنا من المطاردة لمسافة طويلة وكذا استعمال الرصاص في مثل هذه الحالات، فهؤلاء المهربون متهورون.. راهنوا منذ البداية بحياتهم مقابل السجائر أو الوقود، أما أنا فمسؤول على سلامة أفراد الدورية كما أنني مسؤول على سلامة عتاد المؤسسة". "الستايشن" طائرة الصحراء بعدما مُنع هذا الطراز من السير على تراب الولاية في عهد الجنرال بن قردوح قائد الناحية العسكرية السادسة الأسبق، عادت سيارة تويوتا "ستايشن" لتحتل صدارة المبيعات في ولاية تمنراست، حيث تشهد مؤسسة حفناوي محمد ممثل شركة تويوتا بالولاية ازدهارا في تجارتها "نبيع كل أنواع السيارات، الهايلوكس بشتى أنواعها وكذا الطرازات الأخرى" غير ان سيارة "لاند كروز اف جي 79" تتصدر قائمة المبيعات حيث وصل عدد الطلبات خلال شهر أفريل 50 طلبا وهو الرقم الذي يصفه الوكيل "بالجيد" مقارنة بسعرها الذي يصل إلى 236 مليون سنتيم. مقارنة بسيارات "لاند كروزر ديازيل" التي تمتلكها فرق الدرك يكون اللحاق بسيارة "ستايشن" في ارض مبسوطة تمتد على مد البصر مهمة مستحيلة، فهذا الطراز يمتاز بمحرك قوي ونفاث بالإضافة إلى خفتها، الأمر الذي يسهل عليها التنقل بسرعة خيالية.و زيادة على عدم التكافؤ في الإمكانيات، تعمل القيادة الجهوية للدرك الوطني على تغطية تمنراست كلها ب 16 فرقة اقليمة، وأمام شساعة الولاية التي تقارب مساحتها ضعف مساحة فرنسا، تكون كل فرقة ملزمة بتغطية مساحة تفوق 34 ألف كيلومتر مربع وبالرغم من ذلك يرى العقيد عثماني طاهر القائد الجهوي أن النتائج المحققة إيجابية رغم دهاء المهربين الذين يلجؤون زيادة على معرفتهم الجيدة بالميدان إلى استحداث تقنيات جديدة لتفادي التوقيف، آخرها استعمال أطفال قصر لا تزيد أعمارهم عن 17 سنة لتضليل المراقبين بالإضافة إلى تجنب المسؤولية الجنائية، فقد تمكنت فرق الدرك خلال الثلاثي الأول من العام الجاري من تسجيل 22 قضية تهريب بينما سجلت 79 قضية خلال العام 2006 في حين كان عدد القضايا التي نفذتها فرق الدرك خلال العام الذي سبقه 71 قضية. بعد تمكن سيارة الستايشن من الفرار، واصلت الدورية مسيرتها نحو "قارة النص" خلال واد أنفج الكبير الدورية، واستمرّت في عملها الروتيني، و ما هي إلا دقائق حتى أطلّت على "جبل 160" والذي يعني أن الدورية أوشكت على نهاية مرحلة الذهاب، و قد سمحت حالة الهدوء للجميع بتبادل حكاياهم عن الصحراء وتجاربهم معها في انتظار الوصول الى "قارة النص" حيث سيلتقي الطرفان وتتبادل الضفتان الشمالية والجنوبية أخبارهما. تجارة المقايضة والخارجون عن القانون واد انفج يشكل إحدى أهم المراحل في طريق الوحدة الإفريقية الذي استأنفت أشغاله، بحيث يرتقب أن يسلم شطره الرابط بين عين قزام وقارة النص خلال شهر سبتمبر المقبل، الجميع يرتقب إنجاز هذا المشروع الذي من شانه فك العزلة عن أقصى الجنوب الجزائري وانتعاش التجارة بهذه المنطقة الأمر الذي سيحفز الكثير من سكان المنطقة الذين يمتهنون التهريب على الخروج عن اللاشرعية، لكن إلى ذلك يبقى واد انفج من بين أفضل الأماكن الذي يلتقي فيه تجار المقايضة وهو الطابع التجاري الذي أقرته الجزائر مع دول الساحل عام 1991 وقد تم تجديدها عام 1994 وذلك قصد تموين سكان الجنوب الذين اعتادوا الترحال بالمواد الأساسية، وينحصر هذا النوع من التجارة في دولتي مالي والنيجر، كما أن السلع التي يتم إدخالها من هاتين الدولتين لا يسمح القانون بمرورهما نحو ولايات الشمال الجزائري. و يكون ترخيص التجار المعنيين بالمقايضة من طرف الوالي كما ان أموال هذه التجارة تتم عبر حساب مالي خاص بها. المواد المسموح بها في تجارة المقايضة السلع الجزائرية: الخردوات والقضبان والصفائح الحديدية، الدهن، الافرشة الرغوية، عربات اليد،النفايات الحديدية، قارورات غاز البوطان 13 كلغ فارغة او مملوءة، العجائن الغذائية، مسحوق الصابون، مواد البناء، الثلاجات والات الطبخ المسطحة، الالبسة الجاهزة بمختلف انواعها، المواد النسيجية ماعدا الحريرية والصوفية، مواد التجميل والتنظيف البدني بمختلف انواعها. الملح المنزلي والتمور العادية السلع المستوردة من مالي والنيجر: الفول السوداني، الأناناس وجوز الهند، الخضر، السكر المخروط، أكواب وأباريق الشاي، الخشب الأحمر وخشب البطانة، الجلود المعالجة ومنتوجات الدباغة، منتوجات الصناعات التقليدية، تغذية الأنعام، الذرة، منتوجات الألبسة ذات الطراز الترقي، الماشية (الكباش المعروفة باسم سيدوان) بالإضافة إلى التوابل والشاي الأخضر. مصالح الجمارك بولاية تمنراست تتكفل بالدرجة الأولى بمراقبة هذا النوع من التجارة، بحيث يمر هؤلاء التجار عبر المعبر الحدودي الوحيد بين النيجر والجزائر الكائن بعين قزام في انتظار تدشين المركز الجديد قبل حلول عام 2010 بعين ازاوة التي تبعد عن عين قزام ب300 كلم. زيادة على ذلك تتكفل مصالح الجمارك بمحاربة المهربين الذين غالبا ما يصدرون الوقود مقابل السجائر خاصة من نوع "ليجند". وقد سجلت مصالح الجمارك بعين قزام خلال عام 2004، 36 قضية تهريب اغلبها سجائر في حين ارتفع العدد إلى 51 قضية 90 بالمائة منها متعلقة بتهريب البنزين وقد بلغت قيمة الغرامة لهذه المحجوزات 107 مليون دينار وخلال الثلاثي الأول من العام الجاري وصل عدد القضايا إلى 12 حصيلة غراماتها 9 ملايين دينار، ويفسر سعدي رضا رئيس مفتشية أقسام الجمارك بعين قزام أن هذا الارتفاع راجع إلى إلغاء "المصالحة" المعمول بها قبل 28 أوت 2006 والتي كانت تعطي "للمهرب الصغير" فرصة دفع الجباية قصد تفادي المتابعة القضائية. غير أن إلغاء بند المصالحة ساوى بين ما كان يعرف فيما سبق بالمهرب الصغير والكبير. بالإضافة إلى تعديل القانون، تعمل مصالح الجمارك على محاربة التهريب هي الأخرى من خلال دوريات تمشط مساحات كبيرة لمدة أيام تتجاوز الأسبوع ، ونصب الكمائن في أماكن يتوقع أنها ممرات للمهربين " إذا كنا نملك المعلومات فإننا ننصب الكمين حسب المعطيات التي نملكها وإذا لم تكن لدينا معلومات فإننا نحدد مواقع محتملة بالإضافة إلى الدوريات الاستطلاعية التي نقوم بها انطلاقا من مدينة تمنراست نحو الأماكن الداخلية، هذا إلى جانب دوريات الدرك الوطني التي تمشط المناطق الحدودية". بعد قرابة ست ساعات وصلت دورية تمنراست إلى قارة النص التي تفصل بين بلديتي تمنراست وعين قزام، الدورية استقرت على الصخرة العريضة التي تتوسط مساحة شاسعة من الرمال الصفراء التي يكسر لونها سواد الصخور المتناثرة في كل مكان، مرت الدقائق الأولى على الصخرة تحت شمس تلفح الوجوه في انتظار الدورية الثانية لكن لا شيء في الأفق "يبدو أن الانتظار سيطول بعض الشيء" العبارة التي بدأت تنتقل بين أفراد الدورية بينما شرع فريق منهم في إعداد وجبة خفيفة لكسر الجوع الذي اجتاح البطون خلال الساعات الست السابقة، سلطة وجبن، الجميع التهم نصيبه بسرعة قبل الاستمتاع بقسط من الراحة تحت بقع الظل الصغيرة. بعد ما يقارب ساعة من الزمن وصلت دورية عين قزام، الجميع على الصخرة وقفوا لاستقبال زملائهم، من يتعارف فيما بينهم ومنهم من سيلتقي زملائه للمرة الأولى. لحظات بعد وصولهم اختلط أفراد الدوريتين كل يسلم على من يعرفه ويستفسر عن أصدقاء له في الجهة الأخرى من الصحراء، الملازم الأول كمال التحق بالنقيب سمير روابح قائد الكتيبة الإقليمية للدرك بعين قزام، القائدان جنحا إلى مكان ظليل لاستلام وتسليم المهام وتبادل المعلومات حول الطريق كذلك المرشد عمي احمد جنح هو الآخر إلى زاوية رفقة عمي عابدين دليل دورية عين قزام لتبادل أطراف الحديث قبل العودة إلى ديارهما. بعد دقائق، أعطى القائدان إشارة الانطلاق، كل دورية ستعود أدراجها. أربع ساعات في صحراء الرمال والصخور تشتد حرارتها كل كيلومتر إلى الأمام كانت رحلتنا نحو مدينة عين قزام الحدودية التي تبعد عن مدينة أسماقة النيجيرية حيث يتجمع المهاجرون غير الشرعيين بأقل من ثلاثين كيلومتر. عين قزام بمجرد الدخول إلى عين قزام تلفت الانتباه الديار القديمة على محيط المدينة وقد التهمتها الرمال في هدوء، أغنام "سيدوان" القادمة من دول الساحل تتقاسم الطرقات والأرصفة مع الناس، لكن الحال الذي أصبحت عليه المدينة هو أفضل بكثير مما كانت عليه حسب النقيب سمير "عين قزام تطورت كثيرا خلال السنوات الخمسة الماضية، فهناك العديد من المشاريع التنموية، فيما سبق لم تكن هناك طرقات ولا أرصفة كما أن المدينة لم تكن موصلة بالكهرباء أما خطوط الهاتف فكانت موصولة بثكنات الجيش والدرك الوطني" اليوم أصبحت عين قزام تأوي عشرات التجار الوافدين من الولايات الشمالية الذين فضلوا افتتاح مطاعم ومقاهي بهذه المنطقة العسكرية التي لم يكن فيها من قبل أي شيء. في الليل، عندما تغرق المدينة في سباتها يمتد طابور سيارات تويوتا "ستايشن 45" على متنها عشرات الدلاء أمام محطة التزويد بالوقود في انتظار قدوم شاحنة التعبئة، وفي النهار يحتشد العشرات أمام ذات المحطة حاملين الدلاء بالسعات الكبيرة.. لأول وهلة يتضح أن المهربين في هذه المدينة يتحدون أعوان الأمن لكنهم في الحقيقة موالون مثلما أوضح رضا مفتش الجمارك "أغلب هؤلاء مربو مواشي قادمين من مناطق بعيدة تصل في بعض الأحيان إلى 600 كيلومتر، لكنهم مرخصون من طرف الإدارة لتعبئة كميات كبيرة من الوقود وهناك نسخة عن هذه التراخيص لدى الجمارك والدرك" لكن من أين يأتي المهربون بالوقود الذي يهرب نحو النيجر ومالي؟ أكيد ليس من عين قزام فالولاية كبيرة جدا حسب احد التجار القادمين من الشمال "زيادة على ذلك هل يعقل أن يبقى المهربون الذين يجنون أموالا طائلة في وسط هذه المدينة ليتقاسموا الطرقات مع الماعز؟؟". الليل في عين قزام يغوص أكثر فأكثر بعد كل ساعة في الهدوء والسكينة لتليه شمس صباح سرعان ما تشتد حرارتها، أما الحركة في المدينة فترتكز حول محطة البنزين أو في السوق البلدي. لكن بالنسبة للدرك، فالنهار سيكون متعبا، و على الدوريات أن تخرج لتمشيط الصحراء التي تصل حرارتها صيفا إلى 58 درجة. دورية نحو الجنوب على الساعة العاشرة والنصف بمقر الكتيبة الإقليمية للدرك، حسين نويشي قائد الكتيبة الخاصة بالجنوب يقف على آخر التحضيرات قبل الخروج في الدورية اليومية أما الوقت فليس محدد حسب النقيب سمير روابح "هناك برنامج شهري نتبعه يتم تحديده على مستوى القيادة الجهوية حسب الإمكانيات البشرية والمادية، بالإضافة إلى ذلك هناك دوريات أخرى وكمائن نسطرها على مستوى القيادة الإقليمية حسب المعلومات المتوفرة لدينا". في تمام الساعة الحادية عشرة خرجت الدورية، الوجهة الأولى منزل عمي عابدين المرشد "أقضي عامي الثالث في هذه الصحراء وتعلمت منها الكثير لكنني لا اخرج أبدا من غير المرشد والماء" يقول حسين قبل أن يشرح المنحى الذي ستتبعه الدورية "سنخرج عبر طريق جنان امبارك باتجاه الجبال ومنها ستعود الدورية عبر غابة الحاج بويا". بعد التحاق عمي عابدين بالركب تحركت الدورية على المنحى الذي حدده القائد. الوجهة الأولى كانت الجنان ومنه إلى جبال تيمغاس نيدي والتي تعني بالترقية "ضروس الكلب" خلال الطريق أوقفت الدورية السيارتين التي تقاطعت معهما لمراقبة الوثائق وخاصة التراخيص الخاصة بنقل البنزين "كل شيء على ما يرام" يقول حسين "هؤلاء مربو جمال متجهون نحو المدينة من اجل البنزين". الدورية واصلت طريقها باتجاه الخنقة بالجبال "سميت كذلك لأنها مكان يضيق فيه الممر عبر الجبال وعادة ما ننصب فيها كمينا لأنها ممر معتاد للمهربين وكل من يصل هذه النقطة يخفض من سرعته" لكن هذه الدورية لم يكن لها موعد مع المهربين "هذا الطريق معهود في الليل أما في النهار فالمهربون يمرون عبر الوديان أو البلاطو كما أنهم يقصدون الطرقات القريبة من منابع الماء". دورية فرقة الجنوب التي مشطت خلال خرجتها أكثر من ثمانين كيلومترا لم تصطد شيئا، لكن أهم نتيجة حققتها هي الاستطلاع والأكثر من ذلك هو "خبر خروج الدرك الذي سينتشر في هذه البراري.. الصحراء لها عيون". أول مركز يحمي الجزائر من الجنوب في المساء كان الموعد مع دورية حرس الحدود التي يقودها الملازم الأول محمد بودواية قائد الكتيبة المتحركة هي الأخرى لا تغامر بالخروج في الصحراء دون المرشد بالإضافة إلى المنظار "لان العمل سيكون في مساحات شاسعة على الشريط الحدودي"،بعد معاينتها من طرف الرائد بوعفاس طاهر قائد المجموعة الرابعة لحرس الحدود انطلقت الدورية نحو وجهتها الأولى، المركز المتقدم حاسي تيقرت الواقع في قلب الصحراء على بعد أربعين كيلومترا من عين قزام، الوصول إلى المركز يقتضي المرور عبر واد يمتد على طول الشريط الحدودي ، بمجرد وصولنا كان فريق المركز المتقدم على أهبة الاستعداد "حتى وان كانت السيارات تابعة للدرك فيجب علينا أن نتوقع أي شيء، فهذا هو أول مركز يحمي الجزائر من الجنوب وسقوطه سيكلف الكثير" يقول الملازم الأول الذي يتولى القيادة. المركز المتقدم يقع على هضبة تمكن من مراقبة المحيط، البيوت الجاهزة الأربعة بالمركز بها كل ما يمكن أن يحتاج إليه هؤلاء الدركيون لكنهم ملزمون في هذا المكان البعيد على إعداد كل شيء بمفردهم، فهم الذين يطبخون ويغسلون بالإضافة إلى مهمتهم الرئيسية؛ المراقبة والإبلاغ كل شيء يتم رصده من هذا المركز نبلغ عنه حتى ولو كانت سيارة واحدة. الحياة في هذا المركز صعبة جدا، فالكهرباء يوفرها المولد خلال وجبة العشاء قبل أن تطفأ كل الأنوار. بالإضافة إلى ذلك، الظروف الطبيعية هي الأخرى قاسية جدا، فالجميع يترقب نهاية الصيف حيث تبدأ "النقوية" وهي أشد من العواصف الرملية بحيث تأتي من الجنوب عندما تتساقط الأمطار بالنيجر وكأنها جدار من تراب شديد الظلمة "عندما تبدأ النقوية كل شيء يتوقف وقد تدوم ساعات كما يمكنها أن تدوم لأيام" زيادة على النقوية يكون أعوان الدرك على موعد منذ بداية فصل الصيف مع "البوقة" وهي حشرة صغيرة لسعتها أشد قساوة من لسعات البعوض،هي الأخرى تأتي عندما يبدأ موسم الأمطار في دول الساحل. لكن رغم كل هذه القساوة فإن "نزلاء" مركز حاسي تيقرت يفضلون عدم الخوض في معاناتهم بل يفضلون التذكير بالمراكز الأخرى المتناثرة في الصحراء كمركز عين أزاوة الذي يبعد 300 كلم أو مركز تيريرين الذي يبعد 400 كلم حيث لايوجد أي بشر سوى فرق حرس الحدود "على الأقل نحن قريبون من عين قزام ولدينا التغطية بشبكة موبيليس" يقول الملازم الأول وهو يشير إلى أحد أفراد طاقمه في الزي المدني داخل مركز الحراسة القديم "المكان الوحيد الذي يمكن منه استعمال الهاتف والاتصال بالأهل". بعد الاطلاع على أحوال المركز المتقدم واصل الفريق دوريته الاستطلاعية قبل حلول الظلام حيث يرتقب أن تنصب كمينا بجنان الحاج بويا الواقع على مشارف مدينة عين قزام، الدورية لم تسلك الطريق مباشرة حيث كانت تتوقف في كل مرة أو تسلك طرق ملتوية بين التلال "الهدف من كل هذا هو التظليل، فإذا كنا مراقبين فلن يعرفوا أي مكان نقصد". في كل مرة كانت تتوقف الدورية كان أعضاؤها ينتشرون ويطوقون محيطها في استعداد تام ففي مثل هذه المواضع تكون الدورية في مرمى جماعة بلعور الذي يتنقل عبر الحدود مجهزا بأسلحة ثقيلة يصل مداها إلى 3.5 كيلومتر، وبينما ينتشر الجنود في استعداد يجدد الملازم الأول تعليماته "في حالة حدوث أمر طارئ يجب حماية وسائل النقل أولا بإبعادها إلى مكان آمن". " وبالنجم هم يهتدون" الملازم الأول محمد، يقضي عامه الثالث في الصحراء بعد ثمانية سنوات قضاها في محاربة الإرهاب، سنواته الثلاثة في الصحراء أكسبته خبرة كبيرة فهو يعرف الكثير عنها، فباستطاعته اليوم أن يعرف نوع السيارة واتجاهها والوقت الذي سارت فيه بمجرد النظر إلى أثرها "هذه آثار لسيارة رباعية الدفع متجهة نحو النيجر محملة بالوقود لآن أثرها عميق..لقد مرّت ليلا دون أن تشعل أنوارها، أنظروا لقد اصطدم بهذا الحجر". في انتظار تحضير الكمين أخذ عمي صطافي، مرشد الدورية، يشرح كيفية التعرف على الطريق في الصحراء باستعمال النجوم، أولها نجمة "بلهادي" التي تدل على الشمال "إذا كنت تريد الذهاب نحو تنمراست فضعها بين عينيك أما إذا كنت تريد جانت فضعها على عينك اليسرى، أما باتجاه عين صالح فضعها على عينك اليمنى" بالإضافة إليها توجد نجمة "الراجل المشبوح" وهي ثلاثة نجوم متجاورة تدل على جهة الغرب، وحسب الاعتقاد المحلي فقد سميت كذلك ظنا منهم أنه رجل عصى أمه فحل به غضب الله "هو اليوم في ضيق في السماء حتى تقوم القيامة". ليست كل النجوم مرشدة، فمنها نجمة "الصرية" التي تغيب في الأول من ماي لأربعين يوما "عندما تغيب هذه النجمة ينقطع نوم الإنسان من شدة العطش فهذه الأيام هي الأشد حرارة، وبمجرد عودتها تبشر بقدوم المطر فيبدأ الناس في ضرب الأرض". الكمين على بعد أربعة كيلومترات من غابة الحاج بويا توقفت الدورية والتفّت حول القائد الذي شرع في التحضير للكمين، فريقان على متن السيارات مكلفان بالمحاصرة والدعم في حين يتولى فريق الراجلين المداهمة. اختيار الغابة لم يكن اعتباطيا، فالدورية خلال جولتها الاستطلاعية وجدت أثارا لأقدام يرجح أن تكون لمهاجرين غير شرعيين، أما الغابة فهي المكان الذي غالبا ما يقضي فيه المهاجرون غير الشرعيين ليلتهم الأولى قبل التعرف على مرشد يدبر لهم طريقة للوصول إلى تمنراست. دقائق وكل شيء كان جاهزا، لكن بالنسبة لمحمد، أمر واحد يصر عليه "إذا دخل المهاجرون المدينة لا تلحقوا بهم حتى لا ننشر الذعر بين الناس فهناك أسلاك أمنية أخرى تتولى ملاحقتهم بالداخل". في انتظار وقت المداهمة السكون خيم على مدخل الغابة، الجميع جالس، عين تمشط المحيط والأخرى تنتظر إشارة القائد. دقائق حتى جاءت الإشارة، الجميع انتشر حول الغابة كل خطوة إلى الأمام يشتد معها الحصار. الجميع واصل تقدمه في هدوء حذر حتى لمح أحد أعضاء الفريق حركة داخل الغابة، بلغة الإشارات كان المكان قد طوق بشكل تام ولحظات حتى زال الهدوء المجموعة انقضت على سيارة تويوتا 45 كانت تحاول الفرار وبعد لحظات انقضت المجموعة الثانية على سيارة تويوتا أخرى من طراز 79 فر صاحبها بمجرد رأيته الدرك، وبعد إجراءات المراقبة تبين أن السيارتين في وضع قانوني "السيارة الأولى أفرغ صاحبها البنزين الذي كان على متنها لكننا لا نملك الدليل لإيقافه" لكن السيارة الثانية هي المفاجئة، فصاحبها أنكر تماما أنه فرّ ولم يجد مبررا سوى "انه بصدد تجريب السيارة". مثل هذه المواقف ألفتها فرق الدرك بعين قزام، ففرار هؤلاء حسب الرائد بوعفاس راجع لكونهم مهربين سابقين كما قد يكونون بعيدين تماما عن هذا العمل "لكن هؤلاء يفضلون البقاء بعيدا عن حتى لا نعلم عنهم أي شيء وبالنسبة للكثير منهم الخروج بطريقة غير قانونية لا يعني لهم شيئا فقد اعتادوا على السفر نحو أقربائهم أو للرعي بمالي والنيجر، لكننا نسعى لتغيير هذا المفهوم الخاطئ، فقد ارتأت القيادة تنظيم أبواب مفتوحة للمرة الأولى بعين قزام وكذا بالبلديات النائية، خلال هذه السنة". بعد التأكد من الوضعية القانونية للسيارتين، اجتمع الفريق من جديد للعودة إلى الثكنة وسط الحديث عن مهمة الغد التي يجزمون أنها ستكون مثمرة "لان الوقود وزع في تلك الصبيحة عبر كامل المحطات" أما المهاجرون فلم يبق منهم سوى أثرهم أما هم فقد تلاشوا في الصحراء قبل أن يبدؤوا مغامرتهم الثانية في تمنراست ومنها إلى الشمال قبل الالتحاق بأوروبا. مبعوث الشروق إلى تمنراست:حمزة بحري