تسارعت الأحداث في المشهد الجزائري بعد أن اختار الجيش الميل للحلول الدستورية بأبعادها الحرْفية، دون التعمق في معانيها التي تعيد السلطة والسيادة للقرار الشعبي الواضح في هبَّته الجماعية السلمية، فكيف نقرأ الأحداث؟ وما هو الآتي في زمن وطن الشهداء؟ بصراحة لم أفهم كيف يشكر رئيس الدولة (المعين بقوة الدستور وبرفض شعبي هائل) هذا النظام الفاسد المستبد، ثم يريد أن ينال رضى الشعب الجزائري الأبي الحر؟، فقد قال في خطابه الأول بعد تعيينه بدستور هذه السلطة: “نسدي أبلغ عبارات الشكر والامتنان إلى كل الذين كان لهم الفضل في بذل ما في وسعهم بذله من أجل تمكين أبناء الجزائر وبناتها من التصالح فيما بينهم، ومن التعايش معا في كنف السلام وفي الإسهام في إعمار البلاد عصرية قوية مهابة الجانب بين البلدان”. عن أي جماعات يتحدث هذا الرئيس المرفوض؟ وهل يشكر من أسماهم قائدُ الأركان ب”العصابة”؟ وهل نسي فضلَ الحرس البلدي ورجال المقاومة في محاربة الإرهاب؟ أليس السلم والوئام هو هبَّة الشعب وقراره السيادي؟ وأي إعمار هذا الذي يتغنى به والجميع يعلم بأخبار عصابات السياسة والمال التي أفقرت الجزائر ونهبت أموالها وخيراتها وثرواتها نهبا مجنونا؟ وفي نفس خطاب التاسع من أفريل نقرأ قول السيد بن صالح” :إن مؤسسات البلاد جميعها ستلتزم تمام الالتزام بإطلاق هذا المشروع الوطني الهام، ومرافقته، ووضع لبنتها فيه، خدمة لوطننا ووفاء لشهداء الأمة الأبرار.” فأين أنت هذه المؤسسات منذ سنوات؟ وهل أنجزت الشفافية والنزاهة والديمقراطية في مختلف المواعيد الانتخابية؟ ثم رجاء كفوا عن الحديث باسم الشهداء فقد خنتم أماناتهم وشوّهتم مجدهم وحرّقتم أوراق مبادئ نوفمبر. الشعب يتساءل: أين كانت الشرعية الدستورية عندما أبعد -قبل أشهر- رئيسٌ شرعي للبرلمان وأغلق باب البرلمان الدولة الجزائرية بالأقفال في مشهد كاريكاتوري أضحك علينا كل العالم؟ سيواصل الشعب حراكه ومطالبه في التغيير والتحول والتحرر، وسيواصل صناعة صور التضامن والاحتفال وبناء الوطن، وردّ هيبة الشعب والجزائر بصُورٍ حضارية جمالية، فيها الروح الوطنية التي عادت بعد سنوات من قهر السلطة وبطشها، وفيها الوعي السياسي والدستوري والفكري… خطر الثورة المضادة إن الشرعية لهذا الحراك الشعبي وهو من أعاد هيبة الجزائر الدولة، وقدّم صورا سلمية حضارية جميلة خالدة لكل العالم، وساهم في الدبلوماسية العالمية من دون أموال، عكس دبلوماسية السلطة الفاسدة التي نهبت المال العام وأنفقت الملايير من السنتيمات، ولم تستطع أن تُنعش السياحة، فالقوة للأمر الواقع، أي لهذا الحراك ولهذه الثورة السلمية التي تحترم دستور الصوت الشعبي فقط. وعادت أحزاب التطبيل للنظام لتتفاعل مع تعيين بن صالح رئيسا للدولة، وتساند -كما تعوَّدت- كل مبادرة من النظام، ولم يستغرب الجزائريون مواقف الموالاة هنا، لأنها تدافع عن وجودها الحزبي وعن مصالحها، لكن الشعب سيكنسها ويرميها في مزبلة التاريخ، لأنها تعودت الأكل في جميع موائد السلطان. وفي المقابل نسجل المواقف المشرفة والمنتظرة لأحزاب المعارضة التي اعتبرت تعيين بن صالح مخالفا لإرادة الشعب، ورفضت الاعتراف به رئيسا للدولة، وهو الموقف الذي قدّمته أحزاب “طلائع الحريات”، و”الحرية والعدالة”، و”حركة مجتمع السلم”، و”حركة البناء”، و”الأفافاس”… وقد نبَّه الكثير من خبراء الإعلام وعلم الاجتماع إلى الإشاعات التي تلاحق الحراك وتسعى لخنقه وحصاره… كما نبَّه –مثلا- الباحث السياسي الدكتور حواس تقية في حوار مطول مع جريدة الخبر (8 أفريل 2019) إلى أشكال من الثورة المضادة لثورة الحراك السلمي، وفيها نجد الأشكال التالية للثورة المضادة: -الشكل الأول يتمثل في التحاق مؤسسات وأشخاص النظام بالحراك وتقديم النصائح والانتقاص من المعارضة، أي تشويهه داخليا… -الشكل الثاني هو مسارعة أحزاب الائتلاف الحاكم إلى الإشادة بقرارات الجيش لتنال الرضى وتضمن العودة إلى مؤسسات الدولة. – الشكل الثالث يكون بعد نجاح الحراك في انتخابات قادمة، لافتعال قوى النظام المتبقية أزمات في المواد الاستهلاكية أو البنزين، لتحدث الفوضى الاجتماعية ويتدخل الجيش ويعلن حالة الطوارئ… فانتبه الشباب الثائر في الميدان وأخذ حذره، لكي يحافظ على خروجه السلمي الحضاري البناء، بعيدا عن ممارسات نظام متعفن فاسد، وقريبا من صور وذاكرة شهداء ثورة نوفمبر المجيدة. إنه جيش وطني شعبي بعد مسيرات الجمعة الثامنة للحراك اتضحت الصورة، فالتطبيق الحرفي للمادة 102 من الدستور لا يساهم في تهدئة الجزائريين، بل سيزداد التوتر الشعبي وسيرتفع صوت الرفض ومطالب التغيير كما تجسّد في مسيرات يوم 12 أفريل برغم الثلوج والأمطار في بعض الولايات، وهي رسالة وطنية شعبية سلمية بليغة عميقة الدلالات إلى هذه للسلطة والعالم كله. ندعو- مثل كل أبناء الوطن- قيادة الجيش لتجسيد تعهُّداتها بتطبيق المادتين 7 و8 من الدستور، في سياق التوافق مع القوى السياسية والشعبية، ومرافقة الشعب لتحقيق آمال التغيير الجذري ومحاربة هذه العصابة. وبعد الاستماع لقائد أركان الجيش وحديثه (يوم 10أفريل) عن سعي فرنسا لفرض أشخاص لقيادة الرحلة الانتقالية ومواجهة السارقين وفتح ملفات الفساد، تساءلتُ: أين محلّ رئيس الدولة من الإعراب؟ وما دوره في محاربة الفساد؟ هل قيادة الجيش من يدعو لفتح ملفاته أم الرئيس؟ وأين هي العدالة من كل هذا؟ أين وزير العدل؟ وجاءت الإجابة في جريدة عمومية (الشعب) ليوم 11 أفريل، إذ وضعت صورة مكبّرة للفريق قايد صالح رئيس قيادة الأركان في واجهة الصفحة الأولى، وصورة صغيرة جدا لرئيس الدولة، فعرفت -بفضل القراءة السيميائية لخطاب الصفحة- أن الشعب يمكن أن يحقق كل أهدافه إن واصل تماسكه وشعاره “الجيش.. الشعب.. خاوة.. خاوة”. وتدّعي السلطة أن استمرار المظاهرات يُلحق أضرارا بالاقتصاد وتعمّق الأزمة الاجتماعية ويفتح الباب للتدخّل الخارجي، وهنا نتساءل: أين كان هذا الاقتصاد عندما كانت العصابة تمارس طقوس النهب؟ ومن عمَّق مشاكل ومصائب المجتمع؟ ومن بيده إيقاف التدخل الأجنبي في ارض الشهداء؟ وإذا كان الشعب أعلن رفضه في مسيراته لفرنسا ولروسيا وللإمارات… ولكل تدخل أجنبي قادم مستقبل، فمن يمتلك سلطة مراسلة هذه الدول وتنبيهها؟ سيبقى الشباب الثائر سلميا في ميادين التحرر وفيا لجيشه الوطني، وسيتغنى برجال المؤسسة العسكرية، وفي هذه المرحلة التاريخية سيظل الشعب مخلصا وفيا ومتحضرا، وسيكون حكيما إلى أبعد الحدود، وعلى السلطة –فقط- السماع لصوته وتنفيذ مقترحاته في التحول السياسي، ولن يسمح بأي تهديد لهذه العلاقة الحميمية القوية مع جيشه، لأن هذه العلاقة هي قوته ومستقبله، ولأنها هي جداره الصلب القوي أمام كل التحديات. ولن يحدث عندنا ما حدث عند غيرنا من انقلابات عسكرية، في ظل الثقة المتبادلة بين الجيش والشعب، لأننا نقرأ روح نوفمبر في جيشنا، ولأننا نتأمل عطر الشهداء في جيشنا، ولأننا نعي جيدا أن كلمات ودماء العربي بن مهيدي وزبانا وزيغود يوسف وغيرهم ستوجّه الجيش وقيادته ورجاله لخير هذا الشعب وللتفاعل مع مطالبه مهما طال الزمن، والأيام-أيها الحراك السلمي- بيننا. في الأخير.. يريد الحراك تغييرا للممارسات الاستبدادية، ولا يرد فتح أوراق الانتقام والعداء، ويريد مرحلة انتقالية من دون وجوه هذا النظام، بل بوجوه قريبة من الشعب، فيها المصداقية والكفاءة والنزاهة، لتشكل هيئة رئاسية تضمن التحضير للمواعيد الانتخابية، فهل هذا صعب التحقيق؟ ونختم بهذا الشعر للشاعر الأخضر رحموني: مسيرتنا بانتظام وأمن تضم الحشود كأمواج هادر وهذي الملاحم فخر اتحاد أرى في الميادين نبل الأواصر وصوت الشباب يعانق نصرا ويرفع آمالنا في المنابر وإنا لنرفض أهل الفساد ومن عاث في الحكم وحشا مكابر