يقدم الدكتور بحري صابر من جامعة سطيف، رئيس تحرير مجلة العلوم الاجتماعية الصادرة عن المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية ببرلين، في هذا الحوار رؤيته وتحليله لواقع التدوين الأكاديمي في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية، والمشاكل المتعددة والمتراكمة التي تعترض الباحث الجزائري في أداء رسالته. ألا ترى أن الكتابة العلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية في الفضاء العربي أصبحت تعاني من انعكاسات وضعية العلوم في حد ذاتها في هذا النطاق المتشبع بالإيديولوجية؟ الكتابة في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية تنطلق أساسا من مكانة هذه العلوم ودورها الذي تلعبه في محيطها الاجتماعي والسياسي وحتى الثقافي، فلا يمكن أن نتصور هذه العلوم تكتب بعيدا عن إيديولوجياتها المختلفة، حيث يكون لإيديولوجية الباحث والمشتغل في هذه الحقول دور في إبراز تلك الشخصية العلمية لصاحبها، وهذا ما يؤكد أن الإشكالية في واقع الأمر لا تخص فقط الفضاء العربي بل الفضاء العالمي بمختلف أوجهه، حيث لا يمكن معالجة القضايا الاجتماعية والإنسانية بعيدا عن إيديولوجيات معينة أو إيديولوجيات محيطة ومرافقة، ولعل هذه الإيديولوجيات ساهمت بشكل إيجابي في تعزيز المعارف الإنسانية والاجتماعية بما يخدم الإنسان ويؤسس لمعرفة متباينة ومختلفة ونسبية إلى أقصى الحدود. لكن، إن تكلمنا عن وضعيتها في بلدنا الجزائر فهي للأسف لا تزال تراوح مكانها لأسباب عديدة خاصة بعد الرعيل الأول للدارسين الذين كانوا يدافعون عن إيديولوجية دفاعا مستميتا، وفي بعض الأحيان للأسف يكون ذلك خاليا من الحجج والبراهين العلمية بل يلحق بالتعصب الفكري والعلمي. في تصورك، هل تقدم المؤسسات البحثية الناطقة بالعربية في الفضاءات الغربية مميزات أخرى أفضل للبحث؟ ما رأيك؟ المؤسسات البحثية الناطقة بالعربية في العالم الغربي، توفر مميزات أفضل بكثير منها للبحث في بلادنا، وهي ليست مميزات مادية كما يعتقد الكثير بل إنها توفر أكثر من المال إنها توفر الاعتراف بقيمة الباحث وبمجهوده البحثي، أي إنها توفر شيئا معنويا وقيميا لا توفره للأسف مؤسساتنا البحثية الحكومية، فالباحث حينما يجد الاعتراف بالتميز والإبداع من طرف تلك المؤسسات الغربية فإنه يستمر في عطائه العلمي والبحثي، وعلى العكس فإن مؤسساتنا البحثية تقتل فيك روح البحث ومن تجربتي المتواضعة أؤكد أن الفضاءات الغربية وفرت لي ما عجزت عنه مؤسسات حكومية بحثية قائمة بذاتها، لأنها تؤمن بالإنسان وبالباحث كجوهر للعملية المعرفية وأساسها. في المقابل، بم يتصف النشر في المجلات العلمية الوطنية والعربية؟ وما هي المعوقات الملحوظة في هذا الصدد؟ دعونا أولا نوضح للقارئ أن النشر العلمي هو الأمر الذي يتم من خلاله قياس تطور المجتمعات البحثية وبه يتم تصنيف تطور الجامعات وتقدمها ولعل عدم تسجيل أي جامعة جزائرية ضمن أي تصنيف عالمي دليل على أننا بعيدون كل البعد عن ثقافة النشر العلمي العالمي، وحتى العربي، وفي واقع الأمر إن الحديث عن النشر العلمي في الجزائر يجرنا إلى الحديث عن واقع جامعاتنا للأسف التي تبقى دون المستوى الذي يذكر، فالجامعة الجزائرية تعاني صراحة من البريكولاج، والإصلاحات لم تحقق أي شيء يذكر في مجال التنمية الاقتصادية، وفي الجهة المقابلة فإن النشر العلمي يتبع لا محالة السياسة المتبعة في الجامعة على مختلف الأصعدة، وهنا يمكن القول إن النشر العلمي في بلادنا يتميز بالاعتباطية والارتجالية فهو مبني في الكثير من الأحيان على جملة من العلاقات الشخصية إن لم نقل المصلحية، فكلما كانت لديك علاقات عامة وطيدة كان لك الحظ في النشر العلمي والعكس. هل سبب هذه الارتجالية تعاقب وزراء مختلفين ومعهم تبعا أساليب تسيير مختلفة انعكست على أداء الكتابة الأكاديمية المحكمة؟ لكل وزير يقدم للبحث العلمي سياسته الخاصة التي تنعكس على البحث العلمي رغم أنه كان من المهم ألا تتأثر سياسة الوزارة بالأشخاص بقدر ما تسير وفق رؤية مستقبلية استشرافية لتطوير الواقع وتحسينه نحو الأفضل، وبقدر ما يخدم البحث العلمي فهو يقدم إضافة للجامعة التي ينتمي إليها الباحث، وهنا يمكن الجزم بأن جميع الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة البحث العلمي لم يقدموا أي إضافة تذكر للجامعة على وجه العموم ولتحسين النشر العلمي وتطويره على وجه الخصوص، ومن لا يستطيع أن يقدم إضافة كان الأحرى به أن يجلس في بيته… ما يمكن تأكيده في هذا المقام أن النشر العلمي يتميز في المجلات العربية عن مجلاتنا الجزائرية، ذلك أن الدول العربية أضحت تحترم نفسها في مجال النشر العلمي حتى إنها أضحت مصدرا للثروة المعرفية وللبحوث المتقدمة حيث يمكن الاطلاع عليها من خلالها، وهو ما يؤكد تلك الدقة والموضوعية في معالجة النشر عكس ما يحدث في مجلاتنا، فيكفي فقط هنا أن أضرب مثلا أن المجلات الفلسطينية هي أجود وأحسن بكثير من المجلات الجزائرية، وهذا المثال يكفينا لنعرف واقع البحوث والمنشورات وواقع البحث العلمي في بلادنا. ولا يتوقف الأمر هنا فهذا في جانب وصف عملية النشر، أما عن المعوقات الملحوظة فهي كثيرة ومتعددة ومتشعبة ومتباينة ومختلفة، منها معيقات تتعلق بالباحث في حد ذاته من حيث ضعف تكوينه الذي ينعكس سلبا على مدى تحكمه في أبجديات النشر العلمي، مع أن ذلك يمكن تطويره عن طريق الممارسة والاستمرارية، لذا من المهم التكوين الجيد للباحث في مجال النشر العلمي لتطوير الجامعة الجزائرية والمضي بها قدما نحو التصنيف العالمي الذي يبقى أمل كل باحث حر غيور على الجامعة الجزائرية التي لابد من أن تلعب دورها العالمي ولا تبقى مجرد هيكل للتدريس فقط، وهناك معيقات أخرى تتعلق بالجامعة التي لا توفر أي شيء للباحث فالمشاكل الاجتماعية التي لا أحبذ أن أذكرها في هذا الحال تنعكس بصورة سلبية على عملية النشر العلمي للباحث وهنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نطالب الأستاذ الباحث بالإنتاج العلمي وسط العراقيل الإدارية والاجتماعية التي تضعها الجامعات في سبيل عدم الرقي بالبحث العلمي، ففاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه سلفا وحتما، ويكفي هنا أن نضرب مثلا عن أجر الأستاذ، عدم توفر السكن، عدم توفر فضاء حر للبحث وغيرها من المشاكل التي تؤرق الباحث وتدعوه إلى التفكير في كل شيء إلا البحث العلمي وهو ما انعكس على إنتاجه، وفي هذا المقام أنا لا ألوم الأستاذ الباحث بقدر ما أتفهم الوضعية التي يمر بها وهو واقع ننادي لتغييره إلى الأفضل رغم أنه لا حياة لمن تنادي في الواقع. وبالإضافة إلى ذلك هناك الكثير من المعيقات المرتبطة ارتباطا وثيقا في حقيقة الأمر بواقع النشر العلمي وطبيعة المجلات العلمية الوطنية ومن يدير هذه المجلات، فحين يكون الإداري هو من يدير المجلة العلمية، وحينما يكون شرط النشر العلمي هو الولاءات فهنا لن نخطو أي خطوة إلى الإمام.. ولأن تشخيص الداء هو الدواء فإن النشر العملي في جامعاتنا مريض ويحتاج إلى جراحات متخصصة ومتعددة لعلاج الورم الخبيث الذي نخر جسد الجامعة الجزائرية، فلا يمكن أن نحقق أي شيء في النشر العلمي إذا لم نغير ذهنيات المسئول في الجامعة الجزائرية التي تحولت إلى مملكات وغيتوهات، خاصة وفق ولاءات معينة وهو ما أزم واقعنا البحثي. هل من مقترحات يمكن أن ترفعها من منبر “الشروق اليومي” لإصلاح وترقية التدوين العلمي في ميدان العلوم الاجتماعية في الجزائر؟ عملية النشر العلمي في واقع الأمر في بلادنا تحتاج الكثير والكثير.. من تضافر للجهود للرقي بها في ميدان العلوم الاجتماعية، وهو أمر ليس صعبا أي إنه أمر يمكن تحقيقه ما إن توافرت الإرادة الحقيقية في ذلك، فمربط الفرس في العملية هو المسؤول الذي يريد أن يكتب اسمه بأحرف من ذهب في سماء البحث العلمي الذي سيشهد له التاريخ بالتغيير، وحين تتوافر الإرادة سيرافق ذلك التغيير الكثير من المخلصين لهذا الوطن للتغيير الجذري، وهنا يمكن أن نقدم مجموعة من المقترحات، تتعلق أولا بتحرير النشر العلمي من الإدارة فلا يعقل أن تبقى المجلات العلمية في أيدي الإداريين يتصرفون بها كيفما شاؤوا، وهو ما ينافي العلمية والموضوعية لأن بقاء النشر في أيدي الإداريين يجعل النشر يخضع لنزوات هؤلاء دون أي اعتبار للبحث العلمي، وأعتقد أن عملية تحرير المجلات من أيدي هؤلاء هو واجب وطني، وهنا لابد من أن أشير إلى وجود عدد من المجلات الجزائرية المحترمة التي يقودها رؤساء تحرير نزهاء لهم سمعتهم الوطنية التي تؤكد مسار تلك المجلة التي في الحقيقة هي فرصة للباحثين لتشجيع النشر العلمي الجاد. كما أن توفير المناخ المناسب للباحث الجزائري كي يبحث شرط جد ضروري للرقي بالنشر العلمي لأن مناخنا الجامعي للأسف يتميز بالعنف بكل أشكاله المفروض على الأستاذ الباحث وهو ما يحط من عزيمة الأستاذ ويجعله يبتعد عن الإنتاج العلمي، فلا يمكن للباحث أن ينتج في محيط يمارس عليه كل أشكال العنف. ولعل تثمين مجهودات الباحثين من الناحية المادية والمعنوية أي تقدير المجهودات من شأنه تعزيز مكانة الجامعات الجزائرية مع نظيرتها العلمية، لأن عملية التثمين مسألة مهمة لأي باحث وهو ما نفتقده في جامعاتنا التي لا تقدم أي شيء للباحث. أعتقد أن مسألة دمقرطة الجامعة الجزائرية هي أيضا الحل للقضاء على الديكتاتويريات التي تم خلقها في الجامعات التي تحول الكثير منها إلى مملكات خاصة بأصحابها وهو ما جعل الباحثين الجزائريين ينفرون منها إلى بلدان أخرى عربية وغربية بحثا عن قيمة الإنسان والوجود في حد ذاته، وهو ما سيعيد للنشر العلمي قيمته. كما أن تكوين الأساتذة في مجال النشر العلمي وفي مجال اللغات خاصة أمر هام للغاية فالوزارة تصرف سنويا ميزانية ضخمة في تلك التربصات العلمية فعوضا عن صرف أموال في تلك التربصات التي يقوم بها الباحث سواء طويلة المدى أم قصيرة المدى التي بينت فشلها في تطوير الجامعة، لا بد من صرف هذه المخصصات المالية بالعملة الصعبة في تكوين الأساتذة في اللغات خاصة الإنجليزية وهي اللغة العالمية الوحيدة في مجال البحث العلمي، وهو ما سينعكس بصورة ملموسة على الجامعة وعلى البحث العلمي. وجب أيضا الإشارة إلى أنه للرقي بالنشر العلمي لا بد من طبع أطروحات الدكتوراه في شكل كتب لأن ذلك من شأنه تقليل حدة عدم وجود الكتاب الأكاديمي وهو ما سيخلق ثروة علمية ومصادر للمعرفة للطلبة وهنا سيتم حل إشكالية كبيرة يعاني منها الطلبة والباحثون، وقد سلكت الكثير من الدول العربية هذا المجال وهو ما سيخفض ميزانية استيراد الكتاب. كما أن عملية تشجيع الأساتذة الشباب الباحثين بإنشاء مخابر علمية وإعطائهم فرصة لذلك بعيدا عن الإدارات الجامعية حيث يكون الأمر مركزيا وفق معايير علمية موضوعية لتشجيع البحث العلمي وتثمينه، وإعادة النظر في طريقة تسيير الكثير من هذه المؤسسات البحثية لتصحيح مسارها الذي هو خدمة الباحث بالدرجة الأولى وليس فئة معينة دون غيرها. ومن المهم جدا تشبيب القطاع في كل مستوياته خاصة الإدارية منها من أجل ضخ دماء جديدة من الجيل الجديد لإعطائه فرصة يمكن من خلالها تطوير الجامعة خاصة أن الجيل الماضي نسبيا تأكد فشله في النهوض بالقطاع للأمثل. ولا بد من أن تعمل الوزارة الوصية على إنشاء جوائز خاصة بالنشر العلمي لتشجيع البحث العلمي ومرافقة الباحثين لتجسيد مشاريعهم البحثية بتوفير كل الإمكانيات اللازمة. إضافة إلى العمل على إزالة العراقيل الإدارية والبيروقراطية التي تقف حائلا دون تطوير البحث العلمي التي لا تشجع الباحث للمضي قدما نحو تطوير نفسه.