تتوفر بلدية آقني قغران الواقعة جنوب ولاية تيزي وزو، على مواقع طبيعية خلابة، جعلت منها أهم القبلات السياحية في زمن مضى، حيث زادها الإرث التاريخي والثقافي استقطابا لزوارها، الذين تضاءلوا ليختفوا بشكل كلي تقريبا، في السنوات الأخيرة، رغم تواجد كل المؤهلات الطبيعية والتراثية التي تسمح لها لترقى إلى مصاف القبلات السياحية الكبيرة عبر الوطن وعلى امتداد فصول السنة. آقني قغران التي تعرف لدى الأقلية بغناها الطبيعي، معروفة لدى العامة بكونها مسقط رأس أيقونة الأغنية القبائلية وأحد أعمدتها الراسية الراحل “سليمان عازم”، تعد من بين المناطق التي أنصفتها الطبيعة من حيث المواقع الخلابة وخذلتها السلطات بالتهميش والإهمال، لتكون اليوم منطقة ذات ماض لامع وحاضر مزر تصنع نقائصه يوميات السكان. زائر المنطقة ولو في جولة خاطفة وغير مبرمجة، يقف مذهولا أمام مؤهلاتها السياحية وإمكانياتها الطبيعية، التي لا تزال بعيدة كل البعد عن الاستغلال الأمثل، حيث يسمح لها هذا الغنى الطبيعي المتاخم لجبال جرجرة والتراث العريق، الإرث الثقافي والتاريخي بأن تكون منطقة سياحية تستقطب الزوار من داخل وخارج الوطن، لتوفرها على كل مقومات المجتمع الأمازيغي الجدير بالاهتمام. قرية آيت القائد.. أطلال تقليدية ترحل في صمت صارخ من بين الأماكن الكثيرة الكفيلة بالاهتمام بآقني قغران تتواجد قرية آيت القائد المصنفة ضمن التراث الوطني منذ سنة 2003، لاعتبارها القرية الوحيدة المحتفظة بالنمط العمراني القبائلي التقليدي، حيث تتواجد بها عشرات السكنات التقليدية المبنية بالحجارة، بنيت بسواعد رجال ونساء أمّيين تقف اليوم الهندسة المعمارية عاجزة أمام عملهم المتقن وتقاسيم المنزل التي تجمع كل تفاصيل ومكونات البيوت العصرية في غرفة قد لا تتجاوز 20 مترا مربعا. ولأن رياح العصرنة أتت على هذه السكنات في أغلب القرى والأعراش بالمنطقة، تم تصنيف آيت القائد كقرية قائمة تحمي تراثا وتروي حكاية أجيال وحضارة مرت من هنا يوما. لم يكن الوصول إلى قرية آيت القايد المتواجدة بأعالي جبال جرجرة صعبا، رغم بعد المسافة التي قطعناها، فجمال آقني قغران ومغازلة جبال جرجرة لزوارها، يتولى مهمة تذليل الصعاب، حيث تقبع القرية على ربوة بنيت من أعلاها إلى سفوحها بالطريقة التقليدية القبائلية بواسطة الحجارة وتتوسطها مسالك صخرية صعبة لغير المتعود على سلكها، كما تتوسط القرية جبال جرجرة التي يبدو أنها كانت مصدر إلهام للكثير من كتاب وشعراء وفناني المنطقة. ما إن تطأ قدمك مدخل القرية التي يخيم عليها الهدوء، إلا ويكسر عبق الماضي صمت جدران قائمة تصارع من أجل البقاء، وتحاول جاهدة الصمود في وجه النسيان والجحود الممارس ضدها وكأن الحاضر فيها أعلن حربه على ماضيها. تصنيف القرية ضمن التراث الوطني والمواقع الواجب حمايتها منذ سنة 2003، لم يشفع لها ولا احتفظ بها، حيث انهارت أغلبية المنازل بعدما هجرها أهلها بحثا عن ظروف معيشية أفضل وطالها الإهمال في صورة جلية جعلت من القرية أطلالا، تحاكي قصة أجيال مرت من هنا يوما، ومورثا تاريخيا وثقافيا وحضاريا يستغيث ويندثر في صمت صارخ أمام أعين مسؤولين فضلوا التزام دور المتفرج. تنقلنا بين أزقة ومسالك القرية التي اختفت أغلبية معالمها، بعدما انهارت أسقف وجدران السكنات، العاجزة عن الصمود أمام تقلبات الطبيعة وهدمها من طرف أصحابها لاستعمال حجارتها في سكنات حديثة، لنصل أخيرا إلى بيت صغير لا تزال الحياة تنبض فيه بربة بيت اختصرت فيها القرية بتاريخها، ماضيها وحاضرها. كل منزل تقليدي في القرية يصوّر تحفة معمارية، تقف الهندسة الحديثة عاجزة أمامها، فالبيت التقليدي قديما تقابله الشقق ذات ال4 غرف اليوم أو أكثر، في كل زاوية من زواياها تنبض الحياة وتبعث على التأمل والتفاؤل. في منزل واحد كانت الغلة تخزّن لمواسم الشتاء والزرع، وتنام المواشي، وكل أفراد الأسرة، الفرن التقليدي يزين الزاوية المقابلة للباب الخارجي ووسطه تحيط به براميل طينية مخصصة لتخزين المؤونة أو ما يعرف محليا بإيكوفان، وبها سلالم صغيرة تؤدي إلى الغرفة العلوية التي غالبا ما تخصص للكنة، وقبالتها الجزء المخصص لنوم الأطفال وهو سقف يعلو مرقد الحيوانات. أسر كاملة كانت تعيش وتأوي إلى مسكن لا تتجاوز مساحته 20 مترا مربعا، ويتوفر على كل أجزاء وتفاصيل المنزل المطلوبة، من مطبخ، حمام، غرف نوم، مخزن للمؤونة والغلة، إسطبل، وغرفة طعام. المنازل المتهاوية اليوم تندثر بسقوط كل حجرة من زواياها رائحة من عبق الماضي الجميل، والتراث القبائلي الأصيل، في كل جانب من جوانب المنازل وأزقة القرية، حكاية تحوم بالمكان وتأبى الرحيل. التواجد وسط قرية آيت القايد يتجاوز كونه زيارة إلى أحد المعالم التقليدية، بل يروي حكاية تراث يستغيث وتاريخ يندثر وثقافة قد يغيبها التجاهل في حال ما لم تتحرك الجهات المعنية لإنقاذها. وسط هذه اللوحة الفنية المتقنة قديما وتعمل رياح العصرنة على اقتلاعها من الجذور حديثا، لم يتبق في آيت القايد التي هجرها أهلها بسبب النقائص وصعوبة العيش فيها، سوى ثلاث عائلات جددت اثنتان منها منازلها ووسعتها، وأبت “نا تسعديث” إلا أن تبقى على منزلها تقليديا كما بني قبل عقود. “نا تسعديت” آخر سكان القرية بعطر ماض يندثر العجوز الفاقدة للبصر مؤخرا فتحت لنا باب منزلها رغم جهلها لهويتنا، كنا لديها زوارا تعجز عن ردهم كسابق عهدها، وأنت تدخل هذا التحفة التقليدية، يلقي الماضي الجميل بظلاله عليك، وترحل بك زواياه إلى زمن مضى لكن عبق رائحته يخيم على المكان. الحنين يراود كل من عاش في منازل مماثلة قديما والرغبة في معايشتها ولو للحظات، تنتاب المتعرف عليها حديثا عبر هذا المنزل الصغير في أرجائه والكبير في رمزيته. العجوز وأنت تجالسها تعود بك إلى عقود من الزمن، بذاكرة قوية تستحضر بها كل محطات حياتها وحياة القرية التي ما فتئت تنطفئ إلى أن أبقت عليها الحياة آخر سكانها، بنبرة حزينة ترثي حال القرية وتستعيد جميع ذكرياتها فيها، فهي تعتبر مثالا للمرأة القبائلية النشيطة التي لا تعرف التعب ولا الملل، كثيرا ما مارست حرفا يدوية كهواية موروثة عن أمها كغيرها من قريناتها، غير أن الأقدار أبت إلا أن تجعلها شاهد عيان على زوال تدريجي لمسقط رأسها وموطنها. رغم فقدانها البصر وخطورة المسالك الحجرية والمنحدرات الوعرة التي تسلكها باستمرار، إلا أنها تحفظ كل خطوات وزوايا القرية، تتنقل بمفردها مستعينة بعكازها، تحاور الجدران المتهاوية وترثى حال جيل رمى عن عاتقه مسؤولية الحفاظ على ذاكرة أجداده. مأساة العجوز البالغة من العمر 74 سنة، لم تتوقف عند انهيار القرية وانطفائها تدريجيا كبصرها، بل زادها إهمال السلطات عمقا، حيث تجف حنفية منزلها طيلة أيام الأسبوع ويتولى ابنها مهمة جلب المياه من مسافات بعيدة خارج القرية وسط مشقة الطريق. غير بعيد عن هذه القرية الأسطورة، تتواجد بقايا غرفة ولد بها ابن المنطقة أيقونة الأغنية القبائلية “سليمان عازم”، حيث لم يتبق منها سوى بضع حجارة من جدران فقدت سقفها وتآكلت أجزاؤها مع الزمن. مؤهلات طبيعية هائلة تصطدم بالنقائص المادية
أسفل قرية آيت القايد بقليل يتواجد أحد المواقع الطبيعية، الذي لا يزال استغلاله في المجال السياحي بعيدا كل البعد، وهو “ثامدة اوسرغي” شلالات مياه عذبة تروي عطش الظمآن وتقلل حر الصيف على القادمين إليها من أجل الاستحمام. استراق ليلة من ليالي الزمن الجميل في هذه القرية والاستحمام في شلالات “ثامدة اوسرغي” والخلود لقيلولة قصيرة بمغارة “انو” الدافئة شتاء الباردة صيفا، قد لا يتوانى الراغب في تجربتها عن دفع أموال طائلة، لو قامت السلطات بترميمها ووضعها في قالبها الصحيح قصد استغلالها سياحيا واستقطاب عشاق التراث ومدمني الحياة التقليدية. مؤهلات آقني قغران لا تتوقف عند محطاتنا الخاطفة، حيث تتوفر على إمكانيات طبيعية تسمح لها بأن تكون قبلة للسياحة الجبلية على مدار فصول السنة، فمنطقة آيت رقان المترامية وسط جبال جرجرة تمتاز بمناظر طبيعية خلابة، تصنعها الحلة البيضاء شتاء ما يسمح باستغلالها في التزحلق وغيرها من الأنشطة الرياضية والترفيهية التي من شأنها إعطاء نفس قوي للقرى المنغمسة في ظلام التهميش. شباب المنطقة وفي حديثنا معهم عن الركود التنموي الذي تعرفه البلدية وانعدام المبادرات الرامية لاستثمار إمكانياتها الهائلة التي تسمح بجعلها أحد الأقطاب السياحية الواعدة بالوطن، أكدوا أن الخلافات والحسابات السياسية الضيقة كثيرا ما سادت في البلدية على حساب المصلحة العامة. التهميش واللامبالاة جعلت حياتهم تتمحور على المطالبة بتوفير أدنى ظروف العيش الكريم، حيث تصنع النقائص يومياتهم بشكل يجعل تفكيرهم بعيدا عن استغلال الجانب السياحي في المنطقة، رغم أنها كانت في الماضي القريب معروفة بذلك، حيث مارس أغلبية السكان مهمة الدليل السياحي للزوار وأغلبهم أجانب تستهويهم رياضة تسلق الجبال وغيرها من الأنشطة التي تتكرم الجبال وبسخاء توفيرها. إلا أن الحياة العصرية ومتطلباتها أتت مع الزمن على كل ما هو تقليدي، بدءا من اختفاء صناعة الفخار وغيرها من الحرف اليدوية التي كانت تصنع خصوصية وجمالية المنطقة، لتتحول اليوم من قطب سياحي يأسر الناظرين إلى عنوان للتهميش والحرمان الذي تتقاسمه أغلبية القرى.