انتهى لقاء موسكو بين الأطراف المتنازعة في ليبيا بتوقيع حكومة السراج على اتفاقية وقف إطلاق النار، في حين غادر حفتر موسكو دون أن يوقّع، ليضع الطرف الروسي الداعم له وبقية حلفائه في أوروبا في حرج كبير أياما قليلة قبل انعقاد مؤتمر برلين، وقد يفقد بذلك فرصة الحضور في اللقاء، كما قد يحرم الداعمين له من فرص المناورة واستعادة المبادرة. الظاهر أنه، لا حفتر ولا الدول الداعمة له، قد قرأت المشهد قراءة سليمة، وقد أربكهم التدخُّل التركي المؤيَّد أمريكيا المستفيد من تفهُّم روسي محسوب، ومن موقف جزائري قوي، ساعد الروسَ والأتراك على التسريع بمبادرة الدعوة إلى وقف إطلاق النار، الذي يبشِّر بحصول توافق روسي أمريكي على غلق ملف النزاع الليبي كما حصل في الملف السوري، بتحييد اللاعبين الأوروبيين ووكلائهم من العرب. وفي تحرُّكٍ استباقي لنتائج لقاء موسكو، أوفد رئيس الجمهورية وزيرَ الخارجية إلى الإمارات والسعودية محمَّلا برسالة تنقل إلى هذه الأطراف مضمون التحذير الجزائري القوي، الذي اعتبر طرابلس “خطا أحمر” كان قد نقل بوضوح إلى الطرف التركي الذي قرأ ما أضمره التحذير من تداعيات، كما يكون الطرف الروسي قد استوعبه بسرعة، إن لم يكن قد وجد فيه فرصة للتنصُّل الآمن من تورطه إلى جانب حفتر، وتقدير ما قد تخسره روسيا إقليميا مع حليف تاريخي في المنطقة. مغادرة حفتر لموسكو دون التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار، في وقتٍ كانت أغلب الأطراف الدولية النافذة قد باركت المبادرة الروسية التركية، يشي بقدر كبير من التخبُّط في تقديرات الفريق الداعم له، وعلى رأسه فرنسا، التي أفقدتها المناورة التركية خيوط اللعبة، وأربكتها كما أربكت مصر والإمارات، ولم تتوقف كثيرا عند الضوء الأخضر الأمريكي للتدخل التركي، ربما يكون قد سبقه تفاهمٌ روسي أمريكي يريد غلق ملف النزاع الليبي بعد سحب المبادرة من الثنائي الأوروبي: فرنسا وإيطاليا، وتفويض ألمانيا لقيادة الدور الأوروبي القادم في إدارة الملف الليبي. وكما سبق أن استبعِد اللاعبون الأوروبيون والخليجيون من الملف السوري، ولعب الأتراك دور الوكيل المفوَّض عن الجانب الأمريكي في إدارة الملف في تفاصيله النهائية، فإنَّ الفرصة باتت قائمة لتسوية مماثلة في ليبيا، يتولى فيها الأتراك تمثيل المصالح الأمريكية بعيدا عن العبث الفرنسي، الذي دخل في أكثر من ساحة في مواجهة غير متكافئة مع الرئيس ترامب سواء داخل حلف النيتو، أم في الملف النووي الإيراني، أم في ساحة دول الساحل. وفي كل الأحوال، فإن امتناع حفتر عن توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار لن يعطل بالضرورة انعقاد مؤتمر برلين القادم في التاسع عشر من هذا الشهر بين الدول المعنية بالملف الليبي ومنها دول الجوار، مدعوما بهذا التوافق الروسي الأمريكي، وبحاجة الدول الأوروبية إلى تسوية أزمةٍ كانت مرشحة لتدويلٍ غير قابل للإدارة الآمنة، لم تعد الأطراف الأوروبية (فرنسا وإيطاليا) تمتلك وسائله على الأرض، وقد منحت مهلة تسعة أشهر كاملة، فشلت فيها قوات حفتر في تحقيق الحسم العسكري. ما يعنينا كدولةٍ جارة لليبيا، مهدَّدة في أمنها القومي، أنَّ المبادرة الروسية التركية قد قيَّدت التدخل العسكري التركي المزعج، وأعادت روسيا إلى دورها التقليدي المتقاطع مع الموقف الجزائري حيال احترام سيادة الدول، وجرّدت فرنسا وحلفاءها في المنطقة من أي دور قادم في إدارة النزاع، كما ساعدت على عودة الجزائر إلى أداء دورها الإقليمي في الملف الليبي كما في ملف الساحل، الذي تسعى فيه فرنسا إلى التعويض عن هزيمتها المنكرة في ليبيا بالمبادرة أمس الأول إلى بناء تحالفٍ عسكري مشبوه مع دول الساحل الخمس. وفي الوقت الذي تستعدُّ فيه الجزائر لصياغة تعديل واسع للدستور، تملي علنا الأزمة الليبية وتداعياتُها المستقبلية، والوضع المتفجِّر في عموم دول الساحل، واجب مراجعة القيود الدستورية التي تعطل اليوم دعم مواقفنا الدبلوماسية بما تراكم من قوة ردع للجيش الوطني الشعبي، هي اليوم جاهزةٌ للتوظيف في الدفاع عن مصالح الجزائر في الإقليم وفي الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط.