من المغالطات التاريخية -بذلك النَّفَس الفرنكوفوني- مقولة: أنّ الأمير عبد القادر هو مؤسّس الدولة الجزائرية، ومقولة: حصول (وليس استرجاع) الجزائر للاستقلال سنة 1962م، في محاولةٍ يائسة لإنكار الوجود الجزائري كدولةٍ وأمّة قبل الاحتلال الفرنسي. ولقد كان للدكتور أبو القاسم سعد الله حُكمٌ قاسيٌّ على العهد العثماني في الجزائر، إلى الدرجة التي قال فيها: "إنّ ما وقع سنة 1830م في الجزائر ليس احتلال فرنسا للجزائر هكذا، بل هو احتلالُ العصر الحديث للعصر الوسيط أو احتلالُ التقدّم للتخلّف". وهو رأيٌّ قديمٌ له، وقد عاد وأنصف هذا العهد العثماني، معترفًا بفضله في بعث الدولة الجزائرية من جديد، فقال وهو يتحدّث عن أهميته: "الجزائر الحالية في الواقع قد تشكّلت تقريبًا خلال هذه الفترة: سياسيًّا واجتماعيًّا وشعوريًّا، ففكرة الدولة ظهرت خلال هذه الفترة بكل مقوّماتها: من حكم مركزي وحكّام أقاليم وإدارة محلية واقتصاد متكامل ودبلوماسية نشطة، تشمل توقيع المعاهدات وفتح القنصليات وتبادل الأسرى ووجود أسطول يرهب عدو الله وعدو البلاد، وعملة ثابتة ومتنوّعة وراية خاصّة ومراسيم سيادية عديدة." (حاطب أوراق، ص 120). ويقول الدكتور أرزقي فرّاد في مقالٍ له في جريدة "الشّروق اليومي" بتاريخ 03 مارس 2018م: "وهكذا فإنّ الفضل يعود إلى العثمانيين، في تأسيس دولة مركزية قويّة في العصر الحديث باسم الدولة الجزائرية، فرَضَت هيبتها على الأوروبيين عن طريق سيطرتها على الحوض الغربي للبحر المتوسط، في إطار الغزو البحري الذي يُعدّ امتدادًا للحروب الصّليبية، وليس قرصنة كما يدّعي الغرب". وبالرّغم من ارتباط الجزائر بالخلافة العثمانية رسميًّا ابتداءً من سنة 1516م إلى غاية 1830م إلاّ أنّ العلاقة بها تميّزت بعدّة مراحل، ولم تكن تبعيةً مطلقة، فقد كانت تبعية حكّام الجزائر للسّلطان العثماني شبه مطلقة خلال فترة البيلر بايات (1520م– 1587م) وفترة الباشاوات )1587م– 1659م)، إذ كانوا يُعيّنون من طرف السّلطان العثماني مباشرة، فيرسل الأمر إلى العلماء والقضاة والأعيان وسادات الجزائر وجميع السّكان لمبايعته والامتثال له بحكم الرّابطة الدّينية بالخلافة، مسبّبًا ذلك التعيين ومعلّلاً له بكمال الفراسة والشّجاعة وحسن الدّيانة والعدالة، غير أنّ الوضع تغيّر في عهد الأغاوات (1659م– 1671م)، وزاد فكّ الارتباط بين الجزائر والدولة العثمانية خلال عهد الدّايات (1710م– 1718م). وبالرّغم من تلك التبعية، إلاّ أنّ ذلك التعيين لم يكن استبداديًّا أو استعلائيًّا، إذ لا يتمّ إلاّ وفق شروطٍ ومواصفات، وبعد مبايعةٍ من العلماء والقضاة والسّادات وجميع السّكان، كما كانت هذه السّلطة المركزية كذلك شديدةً في العزل والمعاقبة أيضًا لكلّ من ثبُت في حقّه التقصير أو الفساد أو الخيانة أو غيرها من مظاهر التعفّن السّياسي والإداري، سواء من موظّفي الإدارة (الديوان) أو من العسكر، مثل اختلاس الأموال والاستحواذ على الممتلكات بغير حقّ واستغلال المناصب لأغراض شخصية وإهمال المصلحة العامّة وشؤون الرّعية، ويمكن الرّجوع في ذلك إلى الوثائق والمراسلات والسّجلات والفرمانات بين الباب العالي وإيالة الجزائر إلى المركز الوطني للأرشيف الجزائري للتدليل على ذلك. ومع ذلك، فقد كانت الدولة الجزائرية العثمانية متميّزةً في مكانتها وسيادتها داخل الخلافة العثمانية، يقول مولود قاسم في كتابه "شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830م"، ج 2، ص 80، في فصل: العلاقات مع الخلافة العثمانية: (تميّزت العلاقات بين الجزائر والخلافة العثمانية بطابعين اثنين: 1- علاقات التعاون والمساعدة المتبادلة بدافع التضامن في الجهاد، لا كقوّتين متضامنتين بل كوَحدة متراصّة أمام كتلةٍ أخرى كانت دائمًا هي البادئة بالعدوان، وهي أوروبا في مجموعها ككتلةٍ نصرانية، يوحّدها دائمًا البابا بإعلانه كلّ مرّة حربًا صليبية جديدة. 2- والطابع الثاني هو استقلال الجزائر استقلالاً تامًا، وسيادتُها سيادةً كاملة، ومن هنا نرى الجمهورية الجزائرية، وهذا كان اسمها الرّسمي في غالب نصوص المعاهدات وفي المراسلات التي كانت بينها وبين الدول الأخرى..). ثم يقول: "وهكذا، فبينما كانت الدول الشقيقة إذ ذاك كالعراق ومصر وليبيا وغيرها لا تستطيع عقد أي معاهدةٍ إلا برخصةٍ كتابية من الباب العالي وتمضي المعاهدة باسم الخليفة العثماني، كانت الجزائر تعلن الحرب وتعقد السّلم وتجري المفاوضات وتمضي المعاهدات باسمها، وباسمها لا غير..". ثم نقل شهاداتٍ من مؤرّخين غربيين تؤكد هذه الاستقلالية وهذه السّيادة، أمثال المؤرّخ الفرنسي: "دي غرامون" و"إدوارد كاط" و"غارو"، والمؤرخ الألماني سيمونوف، والمؤرخ الأمريكي "إيروين" و"سبنسر"، الذي يقول: "إنّ الاعتماد المتبادل بين الباب العالي ورؤساء الدولة الجزائريين ربما يصوّره بوضوحٍ أكثر التدعيم الذي يعطيه كلٌّ منهما للآخر في ظروف الشّدة". ويقول المؤرّخ "دى غرامون"، وهو يتحدّث عن الطبيعة الدّينية لذلك الصّراع الدولي، وفي نفس الوقت يتحدّث عن الجزائر وقوّتها خلال العهد العثماني كسيدةٍ للبحر الأبيض المتوسط، بذلك الإشعاع العالمي وبتلك الشخصية البارزة وبذلك الوجود الكوني المتميز وبتلك الهيبة المهيمنة: "لقد ظلّت الجزائر طيلة ثلاثة قرون رعبَ النصرانية وكارثتها، ولم تنجُ واحدةٌ من المجموعات الأوروبية من البحّارة الجزائريين الجريئين، بل وأخضعت الجزائر زيادة على ذلك لمهانة الضّريبة السّنوية ثلاثة أرباع أوروبا، بل وحتى الولاياتالمتحدةالأمريكية.". ويقول مولود قاسم: "في ذلك الوقت كان ملوك فرنسا من لويس الرّابع عشر حتى شارل العاشر مرورًا بنابليون بونابارت نفسه يعنونون رسائلهم إلى دايات الجزائر: إلى السّادة الأمجاد العظام، بل يضيفون إليها مثلاً: إلى سيدي حسن، الصّديق الحليف القديم للأمة الفرنسية.."، بل كانت الجزائر في علاقاتها الديبلوماسية وفي معاهداتها مع الدول الأوروبية والأمريكية توقّع باسم الجزائر والجزائر فقط، وبهذا الإمضاء: "الجزائر المجاهِدة"، و"الجزائر المحروسة"، و"الجزائرالقاهرة". ويقول الشّيخ مبارك الميلي في كتابه: (تاريخ الجزائر القديم والحديث، ج 3، ص 301): "إنّ إيجاد إدارة مركزية واحدة، وتركيز السّلطات في يد الدّيوان الذي يتولّى تعيين أو انتخاب الدّاي، وتعامل دول أوروبا وأمريكا مع هذا الدّاي، والمعاهدات المبرَمة بينها وبين الجزائر، يدلّ على أنّ الجزائر قد تطوّرت في العهد التركي إلى أن أصبحت لها دولة بالمعنى الحديث للكلمة"، مع تحفّظنا على مصطلح (العهد التركي)، والأصحّ هو (العهد العثماني)، إذ أن هناك فروقاً جوهرية بين العثمانيين والأتراك. ويقول الدكتور ناصر الدّين سعيدوني في كتابه (الجزائر في التاريخ 4: العهد العثماني، ص 14)، وهو يتحدَّث عن تعاقب الأنظمة السياسية على الجزائر خلال العهد العثماني، وعن آخر تلك الأنظمة وأطولها: عهد الدّايات (1617م- 1830م) فيقول: ".. وعرفت فيها الجزائر مقوّمات السّياسة، وتمتّعت بالاستقلال الفعلي عن الدولة العثمانية". ويقول عبد المجيد الشيخي المستشار برئاسة الجمهورية المكلّف بالأرشيف الوطني وبالذاكرة الوطنية: "الجزائر لم تكن ولايةً من ولايات الدولة العثمانية وإنّما كانت شريكًا في السّياسة العثمانية، إذ كانت لها خلال تلك الفترة معاهداتٌ واتفاقيات مع عديد الدول الأخرى، مما يثبت أنّ الجزائر كانت شريكًا للدولة العثمانية ولم تكن ولاية عثمانية فحسب".. وبذلك شكّلت الجزائر طيلة العهد العثماني قاعدةً متقدّمة للجهاد ضدّ القوى المسيحية بالنسبة للدولة العثمانية. وللدلالة على قوّة الدولة الجزائرية العثمانية هو صمودها في وجه العالم الغربي المسيحي طيلة 03 قرون، وقد كانت الحصن المنيع في وجه الصّليبية الزّاحفة على العالم العربي والإسلامي بعد سقوط الأندلس. يقول مولود قاسم: "ولقد شنّت الدول الأوروبية -ثم الأمريكية فيما بعد- حملاتٍ متواصلة وغاراتٍ صليبية متوالية على الجزائر، ابتداءً من الغارة على المرسى الكبير يوم 23 أكتوبر 1505م حتى غارة 27 جوان 1827م التي انتهت إلى الاحتلال الفرنسي للعاصمة يوم 05 جويلية 1830م.". وهو ما يعبّر عن ذلك الحقد الصّليبي البابوي المتأصّل والمتحالف فيما بينه على الجزائر بالذّات، يقول أيضًا: "لم يكن يجمعها إلاّ ذلك الحقد المشترك على الدولة العثمانية والدول المغاربية، وفي الدرجة الأولى على الجزائر، وعلى الجزائر بالذّات..".