ومن الأدلّة على استقلالية الجزائر في سياستها الخارجيّة وارتباطها الشّكلي بالخلافة العثمانيّة كما هو حال دول الكومنولث اليوم وبريطانيا على سبيل المقارنة، أنّ معاهدات السلام والاتفاقيات التجارية مع الدول الكبرى آنذاك والتي تجاوز عددها المائة (منها حوالي سبعين مع فرنسا، و18 مع انكلترا) لم تكن تُبرم، خلافا للولايات العثمانيّة الأخرى، بترخيص مسبق من الباب العالي أو تُنفّذ بعد تصديقه عليها. إنّ الدِّيوان (وهو مجلس الشّورى) كان "يتّخذ القرارات بكلّ سيادة، فيعلن الحرب ويعقد السّلم ويمضي معاهدات ويقيم أحلافا بدون أن يتساءل عمّا إذا كانت تلك القرارات المتّخذة موافقة أو غير موافقة لسياسة الباب العالي" (1). وفي النصف الثّاني من القرن السابع عشر، كانت المعاهدات المبرمة مع فرنسا تُمضى بعنوان مملكة الجزائر (معاهدة سلام بين مملكة فرنسا ومدينة الجزائر ومملكتها في 17 مايو 1666) * وفي القرن الموالي أُمضيت أيضا مع دول أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكية باسم جمهورية الجزائر؛ ولو لم تكن الدّولة الجزائريّة قائمة الذّات ككيان مستقلّ، لما كانت في مقدِّمة الدّول الّتي اعترفت على التّّوالي بجمهوريّة الولايات المتّحدة الأمريكيّة في 1776 وعقدت معها معاهدة سلم وصداقة في 1795، وبالجمهوريّة الفرنسيّة الأولى في 1793 وجدّدت معها صلاحية المعاهدات السّابقة كما منحتها قرضا ومعونة غذائيّة لدفع البؤس والمجاعة عنها ومساعدتها على فكّ الحصار الّذي ضربته عليها جاراتها خوفا من انتقال عدوى الثورة على الإقطاع إليها. * إنّ هذا الواقع دفع بوزير الحرب الفرنسي كليرمو طونيرفي تقرير بتاريخ 14 أكتوبر 1827، أي قبيل الغزو بثلاث سنوات، إلى الاستنتاج ب "أن الدّاي لا يمثّل اليوم بالنسبة للسّلطان، سوى تابع كبير له من الاستقلال ما يجعل معاهداتنا مع الباب العالي تمنحنا حقّ إعلان الحرب على هذا الدّاي دون أن يرى الباب العالي في ذلك استفزازا له، أو يشعر بواجب التحرك لنصرته" (2)، وهي نفس النّتيجة التّي توصّل إليها المورِّخ الألماني سيميونوف حين كتب: "إنّ دايات الجزائر لم يكونوا ملوكا وراثييّن، بل كانوا رؤساء جمهوريّة عسكريّة لم يبق لها قبل آخر عهدها إلاّ مجرّد علاقة اسميّة بإسطنبول" (3)، وهذا الرّأي أخذ به بعض المعاصرين الآخرين ممّن رأوا "أنّ الجزائر كانت دولة مستقلّة سنة 1830، وأن تبعيّتها للإمبراطورية العثمانية، وإن كانت نظرية صرفة،إلاّ أنّها لم تعد تتماشى مع الواقع" (4)، وجزم آخرون: "إنّ الجزائر كانت دولة بحدود واضحة، تتمتّّع بالسيادة، وكانت لها حياة وطنية ودولية معترفا بها منذ مدّة طويلة من طرف عدّة دول". (5) * بالنظر إلى ما تقدّم من أطروحات لم نكتف فيها بالمصادر الفرنسية لافتقار أغلبيتها الساحقة إلى عنصر الموضوعية، يتجلّى بأن الغزو العسكري الذي تعرضت له الجزائر سنة 1830 كان عدوانا مسلّحا متبوعا باحتلال عسكري على دولة مستقلة، ذات سيادة ومعترف بها؛ ومن هذه الزاوية، يكون الحديث عن بعث الدولة في الاستقلال، على نحو ما جاء على لسان الرئيس الفرنسي السّابق جاك شيراك في مارس 2003 بمناسبة زيارته الرسمية للجزائر، تكرارا لنكران نبّه إليه بيان أوّل نوفمبر، قبل أزيد من خمسين سنة خلت،عندما رسم رجاله كهدف تاريخي للثّورة المسلّحة، "إعادة بناء الدولة الجزائرية السيدة" (6)؛ وكان الأجدر بالضيف، الحديث عن "إعادة بعث الدولة الجزائرية" إلى الحياة الدولية، كما حصل مع بولونيا التي استعادت سيادتها سنة 1918 بعد أن ظلّت ممزّقة بين جيرانها طيلة 123 سنة. * 2) السّبب الثّاني: الغزو بالقوّة والإدارة بالعنف * - إن ما ينطبق على فرنسا ينطبق أيضا على الدول الاستعمارية الأوروبية الأخرى التي "يستحيل أن تبقى مالكة لمستعمراتها سنةًًً واحدة، كما كتب أحد المؤرِّخين، لو أفرغتها من جيوشها"، وهنا يبرز الرّبط الذي أقامه "فيكتور هيغو" صاحب كتاب البؤساء: "كان غزو الجزائر عنيفا جدا، وكانت وحشيته شبيهة بسلوك الإنكليز في الهند، أي أنها تجاوزت كلّ تحضّر". * - وقد وردت قصص هذه الوحشية في مراسلات، وشهادات تباهى بسردها ضبّاط سامون في جيش الاحتلال تنافسوا على إبادة السّكان من كلّ الأعمار بطرائق مختلفة كالقتل اختناقا في مغارات تُسدّ مخارجُها، أو إحراق جثث الموتى بدل دفنها، أو حرمان السّكان من حقّهم في الحياة بنزع ممتلكاتهم وتهجيرهم وتدمير مصادر رزقهم أو محاربتهم في دينهم ولغتهم وانتمائهم الحضاري. * - ويتعجّب المرء اليوم كيف أنّ مثقّّفين وسياسييّن من نّزعات متباينة في فرنسا لم يتورّعوا عن تبرير هذه الجرائم التي فاقت في بشاعتها الجرائم النازية، بل يمكن القول إنّ ما عُرف عن النّازية من فظائع، وممارسات عنصرية كان إفرازا طبيعيا لحركة الغزو الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر، وترتيب مُنظِّريها للجنس البشري إلى أربعة أصناف أسماها الجنس الأبيض الّذي منح نفسه حق السيطرة والاستعباد، وأدناها الجنس الأسود، وبينهما يقع الجنسان الأصفر والأحمر. إنّ أحد هؤلاء المثقّفين انتهى به مسارّه المهني وزيرا للخارجيّة وهو الدّاعية إلى اللّيبيرليّة الدّيمقراطيّة أليكسيس دي طوكفيل، فهو ُمعجِب بالديمقراطية الأمريكية ولكنّه من أنصار احتلال الجزائر، وكأنّ أهلها لا يستحقّون تلك الحريات الّتي أشاد بها في أمريكا؛ ولذلك، وكما برّر إبادة الهنود الحمر، اعتَبِر جرائم جيش الاحتلال مجرّد "ضرورات مزعجة"، وصف جانبا منها في إحدى رحلتيه إلى الجزائر سنة 1841: * "نحن نخوض الحرب بهمجية تفوق همجية العرب أنفسهم... وحاليا، فإنّ الحضارة هي من جانبهم"، وكان قد التقى الجنرال "بيجو" حامل الدّعوة إلى إبادة السكان، "إن لم يكن بالقوة، فبالتجويع، وأشكال البؤس الأخرى"؛ وصاحب الوصيّة أيضا إلى ضبّاطه: "أَخنِقوهم بالدخّان مثل الثّعالب". وسبق لسلفه دي روفيغو أن أمر جنوده بأن يأتوا إليه بالرّؤوس: "إليّ بالرّؤوس، سَدّوا قنوات المياه المعطوبة بواسطة رأس أوّل بَدوِيّ تقع عليه أيديكم".(7) * - على أنّ هذه الوحشية، لم تزُل بتطبيق ما سُمِّي بسياسة "إقرار السلم" حين وطّد الاستعمار نفوذه نتيجة عجز المقاومة الوطنية عن توحيد صفوفها وخيانة بعض الزّعامات المحليّة، وكدليل على ذلك ما وقع أثناء احتلال واحة الزعاطشة سنة 1853: * "هنا يمرح الجندي بتقطيع ثدي امرأة مسكينة تستصرخه أن يجهز عليها، فتموت بالآلام بعد فترة؛ وهناك جندي يعلق طفلا من رجليه، ويضرب برأسه عرض الحائط فينفجر مخه؛ وفي مكان آخر، كانت هناك مشاهد لا يفهمها إلاّ إنسان منحطّ سافل، ولا يستطيع لسان أمين أن يرويَها" (8). * وبعد أقلّ من قرن، يعرض شاهد صورة من مجازر قالمة في ماي 1945 قائلا: * "في كل صباح ومساء وطيلة عشرة أيام بدون انقطاع، تُكدّس جثث المعدومين أكواما أكواما فترشّ بالجير وتحرق؛ كانت الرائحة المنبعثة من جميع الجهات لا تطاق". * - استمرّ العمل بهذه الوسائل اللإّإنسانية التي عُرفت في بداية الغزو إذ "اعتمدت حملات الجيش الفرنسي من سنة 1956 إلى 1962 نفس الإستراتيجية وطبّقت نفس المناهج تحت غطاء ما يُسمّى بعمليات إقرار السِلم، ولكنَ بأساليب أكثر تطوّرا بالنسبة لتلك الّتي طُبِّقت أثناء الاحتلال" (9)، ويسرد المؤرخ الفرنسي جيل مانسرون في كتابه Marianne et ses colonies، أمثلة وقعت سنة 1957 عن حالات تعرض المعتقلين للحجز والموت اختناقا في أقبية لحفظ الخمر، كما اعترف الجيش الفرنسي منذ سنوات، على لسان بعض جنرالاته المتقاعدين (10)، بأنّه مارس بصفة آلية التّعذيب على عشرات الآلاف من الجزائريين أثناء حرب التحرير ومات من جرّاء ذلك عدد كبير منهم، أو تمّ الإجهاز عليهم لمحو آثار التّعذيب. * - هل بالإمكان اليوم، تقديم حصيلة الخسائر لهذا الغزو العسكري الذي استغرق أكثر من خمسين سنة قبل أن يرسّخ الاستعمار أقدامه إلى حين ؟ * - من الصعب إعطاء أرقام دقيقة عن حجم الخسائر البشرية لأن تقيّيد النفوس، أو نظام الحالة المدنية لم يكن معمولا به آنذاك؛ فكانت الولادات والوفيات لا تٌسجّل كما هو الحال اليوم في البلدية؛ ويصطدم المرء بهذه الحقيقة عندما يحاول مثلا تقدير عدد سكان الجزائر في بداية الاحتلال سنة 1830، فهذا العدد يتراوح بين عشرة ملايين نسمة، كما ورد في كتاب "المرآة" لحمدان خوجة، وهو الجزائري الوحيد الذي عاش تلك الفترة وكتب عنها، وبين أربعة إلى ثمانية ملايين وفق تقديرات الجنرال بيجو، بينما تشير الإحصائيات التي نشرتها مصلحة "المكاتب العربية" إلى بلوغ عدد السكان بتاريخ 31 ديسمبر 1854، مليونين و162 ألف نسمة؛ وليس من قبيل المبالغة القول هنا بأنّ مصلحة أنصار إبادة الجنس البشري تقتضي التّقليل من العدد، وتلك عادة متأصِّلة في الاستعمار بكلّ جنسيّاته. * - وتعترض نفس الصعوبة الباحث عن عدد ضحايا المجاعة الكبرى التي عرفتها البلاد في الفترة ما بين 1866 و1868: من ثلث السكان، حسب المؤرخ محمد شريف ساحلي، إلى ما لا يقل عن 20٪ منهم حسب أني راي غولدزيغر، بينما يؤكد أندري نوشي أن "عدد سكان الجزائر المسلمين انخفض ب607799 نسمة في الفترة ما بين 1861 و1871 وزاد عدد الأوروبييّن في نفس الوقت ب86945"؛ (11) تُرى ما هي، في هذه الحالة، المرجعية الواجب اعتمادها لمعرفة الحقيقة سواء في تعداد السّكان، أو في تكوين صورة عن قتلاهم أو في إحصاء وفياتهم جرّاء الأوبئة؟ إنّ الثّابت هو أنّ الخسائر البشرية للجزائرييّن في العقود الخمسة الأولى من الغزو لم تُقيَّد، بينما سجّلت خسائر جيش الاحتلال بدقّّة في الدفاتر، وحجمها بلغ "في الفترة ما بين 1830 و1875، 117630 جندي قتلوا في المعارك، أوهلكوا متأثرين بجروحهم أو بسبب أمراض" (12)، ويقدّر ذات المرجع عدد القتلى الجزائرييّن في تلك الفترة ب "825 ألف، وهي الخلاصة التي أمكن وضعها اعتمادا على مقارنة المعطيات المتوفرة". * - أمّا عن إجمالي الضّحايا بسبب الحرب طيلة فترة الاحتلال، فأدنى التّقديرات التي وضعها مؤرِّخون جزائريون تُعطي ما يقارب المليوني قتيل مقابل 700 ألف في أعلى تقديرات المؤرِّخين الفرنسييّن؛ وإذا حصرنا البحث في مرحلة التّحرير (1954 - 1962) حيث يتجاوز عدد الشّهداء المليون، فإنّ هذا الرّقم لا يتعدّى في حدّه الأقصى في المراجع الاستعمارية 400 ألف فقط بين قتيل ومفقود؛ وتضيف المصادر الفرنسيّة إلى قتلاها من الجيش (وعددهم 29300)، "عشرات الآلاف من الحركى الذّين أُعدموا وفُقدوا سنة 1962" (وهم الخونة الّذين تعاونوا مع سلطات الاحتلال ضدّ شعبهم). * - ********** * إنّ إقصاء الجزائر من السّاحة الدولية وإنزال أفدح الخسائر بشعبها ليسا السّببين الوحيدين لتأسيس حقِّها في المطالبة بالاعتذار، فهناك سببان آخران سيكونان، بإذن الله، موضوع حلقة الأسبوع القادم. * * * يتبع * * الأمين العام لحزب الحريّة والعدالة (غير المعتمد بعدُ) * mosaidbel@live.fr * * المراجع: * * 1)- Ed. Jourdain Alger 1885, H.de Grammont: Histoire d'Alger sous la domination turque * 2)- M.Kaddache: L'Algérie et les Algériens, EDIF Alger 2000 p44. * 3) - نقلا عن مولود قاسم،ج1 ص83 * 4)- Y. Lacoste, A.Nouschi,.Prenant: L'Algérie, passé et présent, Ed. Sociales, Paris 1960, p180 * 5)- C.F.Jeanson: l'Algérie hors-la-loi, Ed. ANEP, Alger 2006, p. 28 * 6) - فرانسوا ماسبيرو: سانت آرنو أو الشّرف الضّائع، دار القصبة للنّشر الجزائر 2005 ص 7 * 7) - ذكره المؤرِّخ الفرنسي شارل أندري جوليان في كتاب جماعي بعنوان:la question algérienne, Editions de Minuit, Paris 1964 p.40 * 8) - فرانسوا ماسبيرو المرجع السّابق ص9. * 9) - الجنرال الجلاّد بول أوساريس اعترف بذلك في كتابين متتاليين، كما اعترف بقتل أحد كبار قادة الثّورة الشّهيد العربي بن مهيدي شنقا خلافا لرواية الانتحار الّتي روّجت لها سلطات الاحتلال آنذاك؛ "لقد قيّدناه وشنقناه بطريقة توحي وكأنّه انتحر". * 10) - نقله عن المؤرّخ الفرنسي أندري نوشي زميله شارل أندري جوليان في:Etudes maghrébines mélanges, PUF, Paris 1964 p.200 * 11) - ويُضاف إلى هذه الخسائر ضحايا المجاعةKamel Kateb : Européens, Indigènes et Juifs en Algérie, éd. INED Paris 2001 p.46