تؤكّد وقائع محاكمة وزير التضامن الأسبق جمال ولد عباس، وقبله أويحيى وسلال وعمار غول وبن يونس ويوسفي وبوشوارب وحفنة من كبار رجال المال، أنّ هؤلاء الفاسدين كانوا مطمئنين تماما إلى أنهم سيفلتون من الحساب والعقاب، وهم يغترفون من المال العامّ كما يحلو لهم، ولم يخطر ببالهم قطّ أنه قد يأتي يومٌ تدور فيه الدنيا ويثور الشعب ويجدون أنفسهم في زنازين ضيِّقة ويحاكَمون بتهم فسادٍ ثقيلة. سيسجّل التاريخ أن جمال ولد عباس الذي يفخر بجهاده ضدّ فرنسا وأنها حكمت عليه بالإعدام خلال الثورة، قد "جاهد" طيلة 10 سنوات من وجوده في وزارة التضامن، في أموال الوزارة وتفنّن في "ابتكار" أفضل الحيل لنهب الملايير وتحويلها إلى حساباته الخاصة، لملء جيوبه بثرواتٍ لا تأكلها النيران، فسطا على أموال الفقراء، من معاقين ويتامى وأرامل، وفئات هشّة أخرى، بلا أيّ وازع ديني أو ضمير، وأسّس ثلاث جمعيات "خيرية" ليحوّل إليها أكثر من 1800 مليار سنتيم باسم المساكين، وحوّل الكثير من حافلات التضامن الخاصة بتلاميذ مناطق الظل في الأرياف إلى الزوايا الطرقية لتكريس ولائها للرئيس بوتفليقة، وشعاره في ذلك "تهادوا تحابّوا" ولم يبالِ الوزيرُ بمنظر الكثير من تلاميذ هذه المناطق وهم يركبون الشاحنات المكشوفة والجرارات وغيرها يوميا وفي ظروف قاسية ليصلوا إلى أماكن دراستهم! سيسجّل التاريخُ أيضاً أن هذا الوزير قد عقد بالتراضي صفقة مع ثلاث مؤسسات لتزويد الوزارة ب1200 حاسوب بقيمة 86 مليار سنتيم، كان من المقرّر أن يستفيد منها الطلبة المتفوّقون في امتحان البكالوريا، لكنّ الوزير آثر في النهاية "إهداءها" لإطاراتٍ سامية في الدولة، وسفارات، ورياضيين، ومراسلين صحفيين، لكسب ودّ الجميع، وشعاره في ذلك "تهادوا تحابّوا".. في استخفافٍ شديد بدين الشعب وأمواله! هو غيضٌ من فيضِ عبث مسؤولي زمرة بوتفليقة والسعيد بالمال العامّ، وخيانتهم للأمانة.. مسؤولون كان القاسم المشترك بينهم هو الفشل المُزمن والإفلاس في التسيير والتفنّن في نهب ثروات الوطن والتصرّف فيها كأملاكهم الشخصية، من دون أيّ اكتراث بالشعب ولا حتى بفئاته الهشّة.. يمكن أن يفهم الشعب منح قروض خيالية لبعض رجال الأعمال المحظوظين، ولكنّه لا يفهم كيف يسطو وزيرٌ يتقاضى مرتّبا ضخما على أموال المعاقين واليتامى والأرامل لملء جيبه وجيوب أبنائه؟! كيف تبلغ النذالة ووضاعة النفس ببعض المسؤولين إلى هذا الحدّ؟! النزرُ اليسير الذي كشفته محاكمة ولد عباس وغيره من المسؤولين في عهد بوتفليقة، يقدّم للجزائريين فكرة عن سبب بلوغ البلاد عتبة الإفلاس برغم أنها جنت في ظرف 15 سنة فقط نحو 1500 مليار دولار من ريع النفط، ويكشف مدى تغوّل الفساد في البلاد وبلوغه مستويات غير معقولة، ما أغرق الشعبَ في الفقر واليأس والبلادَ في التخلّف وفوّت عليها فرصة نادرة للإقلاع الاقتصادي. لذلك نقول مرة أخرى، وبكل هدوءٍ وثقة: لن تنجح البلاد في تحجيم هذه الآفة الخطيرة إلا إذا اتخذت السلطة قرارا شجاعا بالذهاب إلى الديمقراطية الحقيقية كما فعل الأتاتوركيون في تركيا عام 2002 بعد 69 سنة كاملة من الانفراد بالحكم ومنع التغيير، والديمقراطيةُ الحقيقية لا تعني فقط تداول الحكم استنادا إلى الإرادة الشعبية وحدها، بل تعني أيضا إرساء أسس المحاسبة والرقابة والشفافية عن طريق برلمانٍ قوي ينتخبه الشعبُ فعلا، وسلطةٍ قضائية مستقلّة، وصحافة حرّة، ومؤسساتِ رقابةٍ فعّالة وقوية.. الديمقراطية الحقيقية تعني الشفافية وتطبيق القانون على الجميع، وإقامة الحدّ على الشريف والوضيع، وإذا أردنا مكافحة الفساد بجدّية فلا مناص من الذهاب إليها.