عندما يهم الحاج بشق الطريق إلى بيت الله العتيق يضع في اعتباره أمورا كثيرا قد تعترضه ويحتاط لمواجهتها، لكنه مهما اتخذ من احتياطات فسيجد نفسه عرضة للمفاجآت التي قد تبدأ من مطار الجزائر ولا تنتهي في مكة! وإذا كانت رحلة "غسل العظام" كما يعبر عنها الجزائريون هي رحلة العمر كله فإن كل غسيل لابد له من "عصر" وإن البعثة الجزائرية للحج تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه فهي "تشلل" و"تعصر" الحاج الجزائري عصرا حتى لا يبقى من درنه شيء وتنقيه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس!! قبل أن تحط بنا الطائرة بعشرين دقيقة على مطار الحجاج بجدة كان معظم الحجاج قد ارتدى ملابس الإحرام وبدأ في التلبية "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، كان الجو ايمانيا وروحانيا، خاصة وأصوات الملبين تجوب الآفاق وتشق الطباق وهو احساس لا يطال إلا من هلل وكبر في الجو طائرا بين الأرض والسماء! حطت بنا الطائرة في منتصف ليل كثير الرطوبة بجدة، وتم توزيعنا حسب نوعية جوازات السفر، أما الحجاج العاديون فتم تسريحهم بعد ساعة، من النزول فيما تم حجز أصحاب الجوازات الخاصة (من أعضاء البعثة) أكثر من ثلاث ساعات في بيروقراطية قاتلة تجاوزت غباء بيروقراطية إدارتنا، وقد أسرّ لنا أحد أعضاء البعثة أن وزير الشؤون الدينية والأوقاف نفسه تعرض لنفس الاجراء وتم تأخيره أكثر من ثلاث ساعات أيضا ولم يشفع له أن يكون وزيرا في دولة اسمها الجزائر، بل إن الشرطي صارح معاليه قائلا "سيدي.. أنت هنا حاج كبقية الحجاج". بمجرد أن تم ختم جوازات سفرنا خرجنا إلى بهو المطار، حيث استرجعنا أمتعتنا وهممنا بركوب الحافلة المتوجهة إلى مكة ليفاجئنا أحد أعضاء البعثة قائلا: أنتم "الصحافة" لابد لكم من دفع 630 أورو حقوق النقل والاإقامة في المشاعر المقدسة، ولم تفلح مفاوضات زميلي من جريدة الوطن في اقناع المرشد بأننا مرافقون للبعثة وأن جميع التكاليف قد تكفلت بها الوزارة.. لم نشأ الدخول في جدال عقيم مع المرشد، وضعنا أمتعتنا في الجناح المخصص لحجاج الجزائر مع بقية الحجاج، ورحنا ننتقل من مكتب إلى آخر لدفع "صك التنازل" ولم نفلح في الوصول إلى هدفنا إلا بعد ساعتين لنعود بعدها إلى رفقائنا في الرحلة، وقد نال منا التعب نيلا لنفاجأ مرة أخرى "لا أحد من الحجاج هنا"، سألنا صاحبنا من البعثة الذي كان يغط في نوم عميق "أين الحجاج الجزائريون؟"، نظر إلينا بعينين نصف مغمضتين وقال "أين كنتم.. لقد ذهبوا إلى مكة"، بادره عمي مصطفى من جريدة ليبرتي "وامتعتنا.."، رد عليه وهو يرسل تثاؤبا عميقا "اعلاباليش"! بعد أخذ ورد ولأْي شديد، وجد لنا مرشد البعثة حلا "لا بد لكم من انتظار الرحلة القادمة من الجزائر لتذهبوا معها إلى مكة"، باختصار لابد من انتظار 8 ساعات أخرى.. كاد الإحباط يتسلل إلينا لولا آذان الفجر الذي أوقف مفاوضاتنا مع المرشد، بعد اتمام الصلاة، تشاورنا نحن الثلاثة وقررنا أنه لابد من التنقل إلى مكة، فالطائرة القادمة من الجزائر قد تتأخر ووعوده لنا ستتبخر. عدنا إلى المرشد وكلنا عزم على أن يجد لنا حلا، قلت للمرشد "شوف خويا.. نحن مرافقون للبعثة مثلك، ولدينا أمر بمهمة ممضى من طرف الوزير.. ولقد دفعنا تكاليف النقل.. وأنت مسؤول عن تأخرنا هنا.. ولابد من تحمل المسؤولية"، عض المرشد على شاربيه وغاب عن الأنظار ردحا من الزمن، ثم عاد إلينا مهللا "يا الله.. اتحركوا"، كانت هناك حافلة تقل حجاجا من الصومال صعدنا الحافلة التي لم تنطلق بدورها إلا بعد 3 ساعات، وبعد أن قبض السائق المصري "البقشيش" الذي يكاد يصبح من مناسك الحج لدى سائقي الحافلات! قطعت الحافلة المباركة مسافة ال 75 كلم الفاصلة بين جدةومكةالمكرمة في أكثر من أربع ساعات، حين خفتت أصوات الملبين وكأن البطاريات قد نفدت.. وبمجرد أن لاحت منازل مكة من بعيد حتى خالجنا شعور آخر، إنه انتقال من حال إلى حال.. هي ذي مكة.. البلدة التي شهدت مهبط الوحي، وهي البلدة التي ولد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وترعرع في بيوتها.. ومنها بدأت الدعوة إلى التوحد، ومن أبنائها كان المهاجرون الأوائل، هو إحساس يعتري الحاج إذا لاحت بيوت مكة لعيونه، فالعاطفة تجيش والقلب يهتز والنفس تضطرب فرحا كلما دونت خطوة من بلد الله الحرام. كانت قلوبنا تسبقنا إلى الحرم المكي، لكن للأسف الداخل إلى مكة لا يرى إلا الفنادق الضخمة التي غطت على المسجد الحرام ولا تكاد ترى مئذنة المسجد الحرام إلا على بعد عشرات الأمتار.. جريمة في حق الكعبة علق زميلي! بمجرد نزولنا من الحافلة توجهنا إلى مقر البعثة الوطنية وهي عمارة واقعة بحي غزة جهة "المروة" وهو حي شعبي مزدحم، يحدها مقر البعثة التونسية الفخم بأضوائه المتلألئة، والأعلام المختلفة الأحجام.. ولافتات الترحيب بالحجاج التونسيين.. وليس صعبا أن ترى الفرق بين مقر البعثتين كما الفرق بين دولة عظمى و"دولة عَظْمة".. لا يوحي مقر البعثة الجزائرية بشيء مميز لولا بقايا السجائر "ورفعات" الشمة المرماة ذات اليمين وذات الشمال.. لم يكن الاستقبال يرقى إلى درجة الترحيب بضيوف الرحمان ولا إلى "مرافقين للبعثة" ولا إلى "صحفيين" جاؤوا في مهمة للبعثة.. وصلنا إلى البعثة قبل صلاة الظهر ولم يتم حل مشكل السكن للثلاثة إلا بعد صلاة المغرب! هاتفت "عمي علي" المستشار الاعلامي لجريدة الشروق لأسأل عن أحواله فسبقني إلى الشكوى "ياو الحالة تخلطت"، سألته: كيف، "أجابني "لا وجود لأحد من البعثة، والمصري العامل بالفندق وضع الحجاج والحاجات في غرف مشتركة"، تعجبت وسألته: هذا معقول، اختلاط على بعد أمتار من الكعبة؟ لم يتم حل المشكل إلا بعد تدخل أهل الإيمان والتقوى الذين "خلّصوا" المصري من أيدي بعض الحجاج، حيث كاد يلفظ أنفاسه بين يدي حاج جزائري خنقه بيد واحدة! عند الكعبة دعوت الله أن يذهب عني غيظ نفسي، جددت الوضوء وتحركت مع صاحبي لأداء مناسك العمرة، فقد دخلنا الثلاثة متمتعين بالعمرة والحج. والواقع أنه كلما دنت خطواتنا نحو المسجد الحرام، كلما تسارعت دقات قلوبنا، فللكعبة مهابة خاصة رغم أن بناءها عادي، يتسلل إلى القلب شعور بعظمة هذا البيت وتخشى ألا تكون أهلا للقرب وتكون بدخولك الحرم خائبا ومستحقا للمقت، لكن سرعان ما ينزاح عنك هذا الشعور فتحمد الله أن جعلك من الوافدين عليه وقد اختارك من أكثر من مليار ونصف المليار مسلم لتكون ضيفه. ها نحن الآن أمام بيت الله، الذي طالما منّينا أنفسنا برؤيته، بل وسقناها في كل يوم 5 مرات للتوجه إليه واستقباله، فحصل لنا بالتوجه إليه باستمرار في كل صلاة علم اليقين حتى إذا شاهدناه بناظرينا انقلب علم اليقين عندنا إلى عين اليقين.. والحق الحق أقول، أنك كلما فاضت عليك بركات البيت الحرام وانغمست في نفحاته تكون قد ظفرت برتبة حق اليقين. بدأنا الطواف، وفي ذهننا أقوال وأقوال للعلماء التي تشير إلى مدفن 70 نبيا بالمسجد الحرام وأقوال أخرى لعلماء تشير إلى مدفن إسماعيل وهاجر بحجر إسماعيل أو حجر الكعبة! أحاسيس لا تسعها الكلمات، فالبيت المعمور الذي هو كعبة الملائكة موجود بالسماء السابعة فوق الكعبة عموديا، حيث لو سقط، لسقط فوق الكعبة كما يشير العلماء وبالتالي فالطواف سبعة أشواط هي رقي في السماء وكلما أنهيت شوطا، صعدت سماء، حتى إذا بلغت الشوط السابع فكأنك تطوف مع الملائكة حول البيت المعمور. أنهينا الطواف وصلينا ركعتين خلف مقام إبراهيم، ثم "زمزمنا" لنتجه مباشرة إلى الصفا والمروة لنسعى سبعة أشواط، فيما يشبه "البروفة" لحسن التوكل على الله، قلت لصاحبي كما أن هاجر كانت تجري بحثا عن الماء حتى وجدته، فالحاج يضع في رأسه فكرة المغفرة، فيمشي ويهرول وفي كل شوط يسأل: يا رب.. هل غفرت لي؟ وهكذا يواصل السعي بين الصفا والمروة متقلبا بين الخوف والرجاء حتى يتم نسكه! بمجرد خروجك من المروة، يقابلك الحلاقون، فيما يشبه البيع بالمزايدة: صياح ورجاء بأن تحلق رأسك عنده وبمجرّد أن يتم عملية الحلق، يتجاهلك وكأن شيئا لم يكن، ليتجه إلى حاج آخر. حمدنا الله على أن يسّر لنا إتمام العمرة وعدنا إلى مقر البعثة لأخذ قسط من الراحة، فقد مضى علينا قرابة 48 ساعة لم نذق فيها طعم النوم.. والحال أن مقر البعثة لا يوحي بحركية كثيرة عكس مقر البعثة التونسية، حيث المقر كأنه خلية نحل، بل أن بعض العاملين أنفسهم في حاجة إلى إعانة و"نجدة" لتقدمهم في السن، بل أن هناك من أعضاء البعثة نساء حوامل في الشهر التاسع. وقد كنت أظن أن العاملين الذين ابتعثتهم الدولة وعددهم يقارب ال400 ودفعت لهم "الفلوس" بالعملة الصعبة، هم في الحجاج، لكني اكتشفت أن كثيرا منهم جاء لخدمة نفسه، حيث "اختصاصهم" الوقوف أمام الباب أو على المقاعد التي وضعت في بهو المقر لانتظار الوافدين من مسؤولي الدولة والولاة وموظفي العدالة، حيث يتسابق أعضاء البعثة إلى فتح أذرعهم والترحيب بهم دون أن ننسى "القبلات الحارة" على الخدين طبعا، بينما يسارع الآخرون إلى حمل الأمتعة، فيما يتكفل رابعهم بغمزة من مسؤوله. "شوفلوا لافاير" بمعنى غرفة محترمة! لقد كان يسكن في مقر البعثة كما أسر إلينا أحدهم رجال أعمال وتجار ذهب بالجملة لا علاقة لهم بالبعثة، تكرمت البعثة بإيوائهم. أما حجاجنا الميامين الذين تشابهت عليهم القبلة في مكة وتاهوا في شعابها فكأنهم أصبحوا مصدر إزعاج للبعثة، وقد شاهدنا بأم أعيننا "عضوا" في مكتب التائهين يستنطق حاجا في الثمانين من عمره، تاه عن مكان إقامته وكأنه ارتكب جريمة ليختم العضو المحترم كلامه مع الشيخ "هبلتونا.. خلوا جدنا ترانكيل". لم يكن هذا الحادث غريبا هناك، فبعض أعضاء البعثة الشرفاء رووا لنا ما يسيل العرق البارد في عزّ الصيف من مآسي أعضاء البعثة مع الحجاج نفضل عدم ذكرها حتى لا نشوه صورة الحج والحجاج لدى القرّاء. ويتوزع إسكان الحجاج الجزائريين في مكة ما بين غزة من جهة "باب المروة" وبين المسفلة وهي الطريق الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد للدخول منه يوم فتح مكة ومواجهة بعض فتية قريش الذين رفضوا الاستسلام، كما تتوزع بعض الفنادق على طريق أجياد، حيث مستشفى أجياد الشهير والقصور الملكية. ورغم أن كثيرا من الفنادق التي تتعامل معها البعثة الجزائرية هي من فئة ثلاثة نجوم فما فوق، إلا أن تصنيف فنادق مكة بالنجوم، يعتبر من باب المزايدة، إذ اشتكى كثير من الحجاج من عدم توفر المياه للوضوء في فنادق 5 نجوم. إلى مدينة اليوم الواحد! مع إشراقة اليوم الثامن من ذي الحجة، تبدأ أعمال الحج المباشرة ويسمى يوم التروية، حيث يعود الحجاج إلى إحرامهم ويتوجهون إلى منى للمبيت بها قبل التوجه يوم التاسع إلى عرفة. غير أن البعثة الجزائرية تفضل الذهاب بالحجاج مباشرة إلى عرفة يوم الثامن، فتحرم الحجاج الجزائريين من إتيان سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدفع بآلاف الحجاج إلى عدم اتباع البعثة والذهاب كبقية حجاج الدول الأخرى إلى منى للمبيت بها ومع ما يتبع ذلك من تيه عشرات الحجاج وكذا احتلال الخيم من حجاج الدول الأخرى، حتى إذا حضر حجاج البعثة لم يجدوا لهم مكانا بمنى. على كل، أشرقت شمس يوم عرفة وكل الحجاج يقطعون أنفاسهم انتظارا لصلاة الظهر والعصر جمعا وقصرا لبدء الدعاء، والواقع أن موقف عرفة يتحول في هذا اليوم إلى مدينة ليوم واحد تلهج فيها الألسن بالدعاء والتلبية والتهليل لأكثر من 17 ساعة متواصلة لمن بقي إلى غاية الفجر. والواقع، أن اجتماع أكثر من ثلاثة ملايين حاج، في صعيد واحد وقد ارتفعت إلى الله سبحانه أيديهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم وخضعت له رقابهم تكاد تجزم أن الله لن يخيب أملهم ويضيع سعيهم. ولقد مرّ يوم عرفة سريعا حتى لكأنك تحس أنها ساعة من الزمن، فما أوفيت اليوم حقه من الدعاء والدموع وقد كان بجانبي شيخ فتح الله عليه بأنواع من الدعاء يقف لها الشعر ومما حفظت منه قوله: "اللهم يا خير مقصود، وأكرم مسؤول، أعطني اليوم أفضل ما أعطيت أحدا من خلقك وحجاج بيتك يا أرحم الراحمين، اللهم أخرست المعاصي لساني فما لي وسيلة من عمل، ولا شفيع سوى الأمل، اللهم إن لم أكن أهلا أن أبلغ رحمتك، فإن رحمتك أهل أن تبلغني ورحمتك وسعت كل شيء.. وأنا شيء.. إلهي إن ذنوبي وإن كانت عظاما ولكنها صغار في جنب عفوك فاغفرها لي يا كريم.. اللهم إنك أحببت التقرّب إليك بعتق ما ملكت أيماننا، ونحن عبيدك وأنت أولى بالتفضل فاعتقنا، وإنك أمرت أن نتصدق على فقرائنا ونحن فقراؤك، فتصدق علينا، وأوصيتنا بالعفو عمن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا وأنت أحق بالكرم، فاعف عنا". وهكذا أسكت هذا الشيخ كل داع من حوله وقد انخرط في بكاء كمن فقد عزيزا عليه، لينضم إليه عشرات الحجاج في موقف مؤثر رهيب. ما إن غابت شمس يوم عرفة، حتى تحركنا نحو مزدلفة للمبيت بها، كانت مسافة 9 كلم قطعناها مشيا على الأقدام ولدى وصولنا كانت مزدلفة تعج بالحجاج وقد بدأوا جمع حصيات جمرة العقبة.. قضينا الليلة بمزدلفة وقد فاجأني أحد الإخوة ونحن نبيت بالعراء: كم هو عدد نجوم فندقك؟ قلت: 4. قال لي: أنظر إلى السماء الصافية، وعدّ نجوم فندق مزدلفة. بعد صلاة الفجر، توجهنا نحو الجمرات، حيث خلا الجسر من التزاحم والتدافع، بل انتقل التدافع هذه المرة إلى مطاعم الوجبات الساخنة المنتشرة بالقرب من الجمرات، حيث تدافع عشاق الحلويات الشامية بعد المشوار الثلاثي الطويل بين عرفات ومزدلفة ومنى، فالجمرات. بينما سرى الرمي بكل سيولة ومن لطائف الرمي أن امرأة هجمت على الشاهد، حيث يرمي الحجاج في هستيريا مصوبة نعلها نحو "الشيطان"، متابعة ذلك بسيل من الشتائم "ينعل جدك.. أنت الذي خربت بيتي ودخلت بيني وبين زوجي فطلقني". وغير بعيد عنها، كان شيخ آخر من عين الدفلة، يخبئ تحته "صاشي" مليء بالحجارة ليرمي به دفعة واحدة، فيما يشبه القصف وعيناه جاحظتان؛ بينما يفضل آخرون الرمي بالأخشاب والعصي وقارورات المياه، فيما قالت إمرأة أخرى أنها أعطته "طريحة" ولن يعيد النزغ بها ولا الوسوسة بمنكر!! أتممنا طواف الإفاضة وقفلنا راجعين في المساء إلى مدينة الخيم "منى" للمبيت بها، كان جناح الجزائر يشبه بغداد بعد سقوطها، فأعضاء البعثة فضلوا نزع بذلاتهم التي تميزهم كمنظمين وذابوا وسط الحجاج، فيما بقي الحجاج في مواجهة الفوضى و"محتلي" الخيم، مناظر تزعج الخاطر وعلم جزائر العزة والكرامة علق فوق مزابل منى، بينما افترش الشيوخ "الكرطون" وسط الطريق، فيما بقيت العجائز يصرخن ويبكين؛ كرامة أهدرت وشرف استبيح في أقدس أرض الله، لم يجد بعض الحجاج من مكان للنوم سوى قلب الثلاجات على جنبها واتخاذها "سريرا"، بينما افترش حاج من المنيعة "فرنا". أما الآخرون، فقد قضوا ليالي بيضاء رافعين أيديهم إلى السماء يدعون على أعضاء البعثة ولله الملجأ!! لم تكن هذه المناظر المؤلمة وحدها المسيطرة على صورة الحجاج في منى، حيث عرف التضامن من بين الجزائريين أرقى صوره حين تطوّع الشباب بفرض بعض النظام وإخلاء المخيمات من "المحتلين من حجاج الدول الأخرى" وإيواء "الحاجات"، بينما تبخرت آمال الحجاج في وعود البعثة بتوزيع الأغذية عليهم، إذ تعرّض كثير منهم فعلا إلى عملية تجويع ولا ندري إلى الآن أي وجهة اتخذتها الوجبات التي تكلفت أكثر من 13 مليارا ومن التهمها؟ باختصار، في منى لم تحقق المنى وظهرت عيوب البعثة لكل ذي عينين والأدهى والأمر من ذلك، أن مسؤولي بعثتنا الموقرة، اعتبروا ما حدث عاديا، فكل شيء "نورمال" وحين واجهناهم بالحقائق ضربوا على ممثلي 05 جرائد وطنية حصارا رهيبا حتى يثنوهم عن نقل ما عايشه الحجاج واعتبروا ذلك من الفسوق والجدال الذي يقدح في حج الصحفيين.. ولابد هنا للدولة أن تقف موقفا واضحا من هذه الممارسات التي تسيء إلى الجزائر والجزائريين وأن لا تتستر على المتخاذلين والمرجفين الذين ساموا الحجاج أنواع العذاب ليكون النتيجة 1700 أورو لكل عضو فاسد في البعثة مع تنويهنا بالشرفاء منهم ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد! ..وللحجاج نصيبهم! ليست البعثة الوطنية للحج وحدها المسؤولة عن تردي أوضاع الحج وسوء الخدمات.. فإن لحجاجنا أيضا نصيبهم الأوفر في ذلك، وإذا كان السعوديون يعتبرون الحاج الجزائري هو أصعب الحجاج "إدارة وتوجيها" وأكثرهم نرفزة واستعمالا للعضلات في حل المشاكل، فإن الجهل بمناسك الحج ومعانيه يصعب مهمة أي "إنسان" كائنا من كانت أعصابه جامدة. وإذا كان الجزائري لا تفوته شاردة ولا واردة في أمور البزنسة والتجارة وجميع المعاملات الدنيوية، فإنه يبخس نفسه في التفقه في دينه رغم أن الأقدمين قالوا "إسأل عن دينك حتى يقال مهبول"؛ وإن كنت أنسى، فلا أنسى أبدا مشهدا مزّق قلبي أثناء الطواف، حيث المبتهل الداعي والساجد الباكي والذاكر الخاشع ولا صوت يعلو فوق صوت التسبيح والتهليل، حيث الجميع منقطع عن شواغل الدنيا، لتخترق فجأة رنات الهاتف النقال أذني لينقلني والحضور من حال إلى حال.. موسيقى نانسي عجرم، عفوا "مجرم" تطوف بالبيت وتخترق الحرم المكي بنغماتها دون استئذان ليخرج، صاحب الهاتف من عبادته مسرعا للرد على الهاتف ويلحق بالمكالمة! وغير بعيد عنه، كان "جاك برال" يغطي على أصوات الداعين بأغنية "Ne me quitte pas"، فأي جرم نرتكبه في حق البيت وربّ البيت وحجاج البيت؟ ألم يقل تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب« ألا ليت قومي يعلمون! مبعوث الشروق إلى البقاع المقدسة: رشيد فضيل