مثل معظم الشباب الذين اتخذوا من البحر السبيل الوحيد لبلوغ الصفة الأخرى، أخذ عبد الحق من الهجرة السرية الملجأ والطريق الأمثل للهروب من مرارة العيش وقسوة الحياة، ليحقق أحلامه التي راودته منذ أمد بعيد، فما كان عليه سوى إنتظار أول فرصة ليركب فيها قوارب النجاج حسب ظنه، ليشق رحلته إلى إسبانيا، قبل أن يتحول إلى مطرب "للحمراوة و الحراڤة". عبد الحق ندير من مواليد 15 أوت 1984 بحي الحمري العتيق، تخلى عن مقاعد الدراسة في سن مبكرة، ليلج بعدها أبواب الحياة العملية ويكسب قوته من بيع الملابس عله يوفر قسطا من المال يمكنه من تحقيق هدفه المنشود، ويحذو حذو من سبقوه في الترشح للهجرة، فبات الأمر هاجسا لابد من تحقيقه، وبعد فترة تمكن من جمع المال المطلوب للقيام بأول مغامرة بالنسبة له، والتي انتظرها كثيرا حسب ما أورده، فكانت وجهته إلى "الغزوات" بداية لأول حلقة من مسلسل "الهدّة"، حدث ذلك في أوائل شهر رمضان من السنة الفارطة، إذ التقى "عبد الحق" بالوسيط رفقة عدة شبان لإعطائه المبلغ المطلوب، فكلفه ذلك 6 ملايين سنتيم على متن "بوطي" وهو زورق يتسع ل 8 أشخاص على الأكثر. ورغم المخاوف والأحاسيس المقلقة التي انتابته، غير أنه بات مصرا في أن لا رجعة من ذلك، بعد أن ضمن لهم "الوسيط" حسب قوله الوصول في أمان وأقنعنم بأن "الدليل" يعرف كل أسرار البحر، ويعي جيدا الطريق الذي سيشقه. يُغمى على أحدهم من فرط الفزع...! يقول عبد الحق، ما هي إلا لحظات من شقنا أمواج البحر، حتى بدت تقاسيم الخوف والفزع جلية، مما أثر على ردة فعلهم حين رأوا الأمواج تلتطم بمركبتهم وبقوة، ناهيك عن الظلام الحالك والدامس، فلم يعد بمقدوره رؤية حتى من هم بجانبه، وهذا ما تسبب في إغماء أحد الشبان المرشحين للهجرة السرية، بعدها قرروا العودة إلى الشاطئ بحجة أن الظرف الطبيعي غير مناسب وأن القارب قد لا يقوى على تحمل الأمواج العاتية لهشاشته وصغر حجمه، فكان لزاما على متحدثنا الرضوخ لرغبتهم في العودة! فشعر بالأسى والشؤم، وقرر أن يعيد الكرة مرة ثانية، فقام ببيع كل ما يملكه، واشترط هذه المرة أن تكون رحلته على متن زورق أكثر أمان وضمان حتى لا يُضطر للعودة.. كما فكر في أن تكون الانطلاقة من شواطئ وهران المعزولة التي ظلت وجهة معروفة لدى الشباب الراغبين في التوجه إلى إسبانيا عن طريق الهجرة السرية، ذاكرا أن عزيمته هذه المرة أقوى في تقحيق ذلك، لأنه تعرّف على أشخاص من مدينته يمكن الوثوق بقدراتهم على مواجهة الظروف القاهرة واعتبرهم من ذوي تجربة ودراية بما يخفيه البحر من مخاطر. "الزودياك" ب 18 مليونا "للتذكرة" وبعد أسبوعين تم اختيار شاطئ "عين فرانين" الذي يبعد حوالي 15 كلم عن وهران، وحددوا الوقت المناسب والمركبة المناسبة لهذا الغرض، وكانت هذه المرة رحلته في زورق من نوع زودياك، ورغم كونه يتطلب أموالا من ذي قبل، إذ يذكر أنه كلما كانت الوسيلة المستعملة كبيرة ومجهزة، كانت المصاريف أكثر، وقد تفوق ال 18 مليونا في حال استعمال "الزوارق النصف الصلبة" فتأكد أن وصوله إلى إسبانيا سيكون سهلا هذه المرة وبأقل الضرر، بحيث كانت الظروف الطبيعية جيدة ومشجعة على الانطلاق والسير في عرض البحر لمدة ساعتين دون أية مشاكل، إلا أن العقبة هذه المرة تمثلت في عطب ميكانيي بالمحرك أدى إلى نفاد الوقود، وبالتالي تبخر أحلامه وأحلام من رافقوه، إذ راح يثور ويصرخ عن الحظ الذي لم يحالفه في بلوغ الشواطئ الإسبانية. مرحلة اليأس.. واليأس من المرحلة يسرد لنا عبد الحق أنه كلما حاول اقناع نفسه بعدم المغامرة أكثر من ذلك فإنه يلقى ظروف اليأس والملل التي يعيشها المواطن ببلاده، تزيد من عزيمته في عدم البقاء والرحيل بعيدا عن هذا المكان حسب قوله، فإن الشبان يعانون من البطالة والحڤرة والرشوة التي تعد من جملة الأسباب والدوافع الرئيسية للترشح "للحرڤة" كما يضيف أن من سنحت له الفرصة للذهاب الوصول إلى إسبانيا فإنه سوف ينسى كل المعاناة ويعود بأموال قد تنزع الغبن عن عائلته، وتحقق له الحياة المستقبلية الأكثر رفاهية، مما دفع به إلى إعادة التجربة للمرة الثالثة. المحاولة الثالثة والأخيرة!؟ يضيف متحدثنا أنه قرر الذهاب رفقة صديقه من الحي و3 أشخاص من بجاية و 2 من مستغانم و 4 من المغرب وشخص من تموشنت، وكان عبد الحق أصغرهم سنا، إذ تتراوح أعمارهم بين 29 و49 سنة من مختلف شرائح المجتمع، فبعضهم إطارات بمؤسسات وطنية، والآخرون من خريجي الجامعة، ويقول أن الروح الاندفاعية كانت تغمرنا لبلوغ التراب الإسباني، فكانت انطلاقته هذه المرة قبل 03 أسابيع من شاطئ "أولاد بن عايد" والمعروف ب "البحيرة" عند أهل المنطقة والذي يبعد بحوالي 45 كلم عن مدينة "مغنية" بولاية تلمسان، وكان إقلاعهم في غضون الساعة 10 ليلا، فبمجرد أن أبحروا لمسافة 03 كلم حتى رأواء أضواء بعيدة في عرض البحر وبدأت تقترب شيئا فشيئا، حينها أدركوا بأنها مركبة تابعة لحراس السوائل وأنها ستكون لهم بالمرصاد، فلا مخرج لهم سوى العودة من حيث انطلقوا، وأثناء العودة يصف لنا الحالة المزرية التي كانوا يعيشونها عندما شاهدوا الأسماك المتشوقة لتقطيعهم وأكلهم، تحوم من حولهم، إذ يكمل عبد الحق كلامه قائلا "حينها أدركت بشاعة أن تموت في وسط المياه الباردة، وتمزق إلى قطع"، وهذا ما حدث مع العديد من الذين كان مصيرهم الموت المحتم، ويروي لنا مأساوية الحوادث العنيفة التي تسببت في موت أصدقائه وجيرانه، إذ عاد إلى الشاطئ بعد جهد جهيد في حالة من الجوع والعطش، ليعود مع بزوغ الفجر إلى مدينته، ويفكر في الاستقرار قرب والديه والاعتناء بهما بدلا من ارتكابه حماقة أخرى قد تؤدي به إلى إلى ما لا يحمد عقباه، ويلفظه البحر جثة هامدة على حد تعبيره. من قال أن "مطرب الحي" لا يغنّي؟ ومن خلال ما مر به وعاناه في تجاربه العديدة "للحرڤة"، جاءت الفرصة مواتية "لإبن الحمري" في الإفصاح عن موهبته التي رافقته منذ صغره والمتمثلة في أداء الأغاني الرياضية "للحمراوة"، فإن هذا قد يشعره بالرضا والسعادة إلى أن لقي استحسانا وتشجيعا من قبل الأشخاص الذين ساندوه ليخرج أشرطة ناجحة، واتخذ من تجربته القاسية ومعاناته الشخصية سندا لتسجيل أغنية عن "الحرڤة و"الحراڤة" كما يقول في مقاطع من أغنيته التي يوصيهم فيها بكل صدق وتأثر بعدم الإقبال على هذا العمل الجنوني والتجربة التي يكون مصيرها إلى المجهول. لا فيزا لا بوطي غي هنا ونڤابل قيميت الغربة مرة ڤالوها ناس بكري ALLEZ ALLEZ VIVE L'ALGERIE يأكلني الدود وما يأكلنيش الحوت و "ريسك" البوطي ما يعرفه غي لّي ضايق فيه هكذا يختم الشاب عبد الحق قصته وذكراه المؤلمة حول الهجرة السرية، ويعبر عن سعادته في نقل مأساته لتكون عبرة ودرسا لكل الشباب قصد التأثير في رغبتهم "للحرڤة" التي كانت تجربتها قاسية ومريرة على حد قوله، بدلا من البعض الذي كان يتهافت على إخراج أغاني تحث على "الحرڤة" وانتهاج السلوك الانتحاري، ذكر عبد الحق أن جملة أغانيه ستكون ردا عن الذين قالوا: نعطيها في البوطي ولي فيها فيها ياكلني الحوت وما ياكلنيش الدود مابقات ڤعدة في بلادي الهدة لإسبانيا... ويَعد بأن ألبومه الجديدة بعنوان "لافيزا لا بوطي" سوف يكون له بعد آخر، يكون إجتماعيا بالدرجة الأولى، ويضيف أنه لا يغني من أجل الغناء فقط، وإنما لمحاكاة ومعالجة مشاكل هذه الفئة المحرومة. حاوره: يعقيل كمال كشف لنا العديد من مسيري ومالكي مقاهي الأنترنيت بدائرة عين الترك عن ظاهرة لاحظوها كثيرا في الفترة الأخيرة تتمثل في طلب مواقع "الأحوال الجوية" وحالة البحر الأبيض المتوسط على شبكة الأنترنيت. هاته الظاهرة بدت غير عادية حيث يستمر بعض الشباب في التركيز على نشرة الأحوال الجوية لفترات طويلة ولم يسبق من قبل أن طرح مثل هذا الطلب من طرف الزبائن؛ لذلك تتجه أكثر التقديرات كون هؤلاء الشباب يخططون "للحرڤة" ويعدون لها جيدا بناء على ترصد الأحوال الجوية ومتغيرات الطقس المستقبلية وتقصي حالة البحر واتجاه الرياح قبل وأثناء الرحلة، وتتضاعف هاته الاحتياطات خصوصا بعد الحوادث المؤلمة التي راح ضحيتها الكثير من المهاجرين السريين عبر قوارب الموت المتجهة نحو بوابة أوروبا "إسبانيا" التي لا تبعد عن الحدود الجزائريةالغربية سوى ب 75 كلم، حيث أدى سوء الأحوال الجوية وهيجان البحر في عديد المرات إلى قلب القارب بمن فيه في عرض البحر، فلا ينجو من الموت إلا ذا حظ عظيم، وإذا كتبت له النجاة فإنه يحال على العدالة، وقد كانت آخر عملية نفذت من شاطئ "كوراليز" أسفرت عن وفاة 9 أشخاص عثر على جثثهم بعرض البحر، فيما بقي 4 آخرون مجهولي المصير إثر انقلاب قاربهم. "كواليز"، "كاب فلكون"، "كابلاس"، "كاب بلون" وغيرها أصبحت بمثابة شواطئ تبدأ منها رحلة "الموت غرقا"، ولعل انتقاء هاته الشواطئ بالذات راجع إلى قرب المسافة بينها وبين سواحل اسبانيا، ومن جانب آخر غير مراقبة كليا و يمكن التسلل من خلالها إلى عرض البحر، خصوصا في الفترة الليلية، ويصعب على حراس الشواطئ مراقبة كل السواحل الغربية (مستغانم، أرزيو، وهران، بني صاف) حسب المكلف بالإعلام بالحماية المدنية. وفي الوقت ذاته، ينشط كثير من البحارين في مجال تهريب الجماعات وتصدير قوارب الموت مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين 10 إلى 15 مليون سنتيم للفرد الواحد، في حين تكون الخدمة المقدمة عبارة عن قارب صغير غير مهيأ لنقل أكثر من خمسة أشخاص ومحرك لا يطيق المسافات البعيدة وتلاطم الأمواج وبوصلة تحدد الجهة المناسبة "للموت"... ف. ش. صالح محمد وعبد القادر شابان وابني عم، يقطنان بحي الصنوبر بوهران، لكل منهما حياته الخاصة، لكن هدفهما واحد ومشترك.. إنه »الحرڤة« ولا شيء غيرها، حتى ولو كان ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة أو انتحار بطريقة أخرى، لكنه يبقى أملهم الوحيد مثل كثير من الشباب الجزائري للخروج من »حياة الميزيرية« كما يصفونها. 23 سنة.. هو عمر الشابين، محمد كان له السبق في خوض تجربة الهجرة غير الشرعية، ففي 26 جويلية الماضي في تمام الواحدة صباحا وتحديدا من شاطئ كوراليز بوهران إنطلق محمد نحو المجهول بعد أن جمع الغالي والنفيس وقدم 7 ملايين مقابل سفريته الموعودة، يقول محمد "لم يعد هناك من حل سوى الهجرة، فمشاكل العائلة وضيق المسكن بالإضافة إلى موت الوالدة.. أمور جعلت الحياة سوداء أمامي، أرى نفسي ضائعا بين 10 أشخاص يشغلون 3 غرف بدون عمل قار ولا مستقبل واضح.. هذه الأسباب -يضيف محمد- وأخرى جعلته يتفق مع عشرة شبان في عمره ويجمعون الأموال لشراء زورق ب 26 مليونا والمحرك القوي الذي سيضمن لهم الوصول بعد 8 ساعات حسبما كان يردده من نجح من أصدقائهم في قطع سبيل الموت إلى الجنة الموعودة، لتتحقق مقولة "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، إذ وبعد 14 ساعة من الإبحار نفذ الوقود وتوقف الزورق على بعد 12 كلم من شواطئ إسبانيا التي أصبحت أمام مرأى الأعين، عندها سلم "الحراڤة" بالأمر الواقع وجلسوا ينتظرون الموت التي أخبرهم عنه الدليل المرافق لهم بأنه سيكون سهلا وسريعا؟! حينها أغمي على بعضهم في حين تجمد الدم في عروق الآخرين، ولولا لطف الله لحدثت نفس الكارثة، إذ سبق لحي الصنوبر قبل سفرهم أن فقد تسعة من أبنائه، وبالرغم من ذلك آثر هؤلاء الموت على العيش في وطنهم، وإذا بعلم فرنسا يرفرف على سطح إحدى البواخر الحربية التي أنقذتهم من موت حقيقي، ولم يعودوا إلى الجزائر سوى بعد مضي أربعين يوما، في حين إستطاع بعضهم البقاء بعد أن قدم نفسه على أنه مغربي الجنسية. أما عبد القادر فلم يجد وقتا للتفكير في الهجرة إلا بعد أن تزوج وأنجب ابنا، وقد علل ذلك بكون المستوى المعيشي لا يسمح له بتربية ابنه كما يريد له أن يتربى، لذا فكر في "الحرڤة" بالرغم مما تمثله من مخاطر، حتى لا يعيش ابنه نفس الميزيرية التي عاشها هو، ويضيف "أملك طاولة لبيع الخضر رزقها غير مضمون، وأكبر مشكل أعيشه هو انعدام مسكن يأويني أنا وعائلتي الصغيرة، فإلى متى سأبقى تحت كنف والدي، أليس من حقي أن أمتلك الحد الأدنى من متطلبات الحياة وأعيش كأي شاب في وطن لم أعرف فيه سوى الكآبة" وفي معرض حديثنا مع عبد القادر حاولنا إقناعه بأن ابنه بحاجة إليه أكثر مما هو بحاجة للأموال، كما أنه بهجرته سيتخلى عن مسؤوليته كأب وربما سييتم طفلا لم يبلغ الثانية من العمر، إلا أنه كان في كل مرة يقابلنا بقصص عن أصدقائه كتب لهم النجاح وهم في أحسن حال، وأضاف أن أساليب الحرڤة تطورت وأضحى شراء البحر بدفع رشاوي لحراس الشواطئ أمرا معروفا، ولو أننا نعتبر ذلك ليس دليلا، حيث لم يثبت قطعا أن هناك حراسا يسهلون عبور الحراڤة. قصة محمد وعبد القادر قد تكون غيضا من فيض، ولكن ما لاحظناه من إصرار ونحن ننهي حديثنا في أعينهما أكد لنا أن الأمر لم يعد نسبيا، بل أصبحت الحرڤة جزءا من حياة شبابنا، وفي الوقت الذي تتكدس فيه الأموال في خزائن الدولة يموت شبابنا ويكدسون في بواخر لتشحن جثثهم ليتباكى عليها أولياؤهم أو ليتركوا طعاما لأسماك القرش والسردين، فلا حول ولا قوة إلا بالله. محمد الأمين بوحارة