أي دروس ينبغي أن نستخلصها من نتائج الانتخابات التونسية، وأي إشارات حاملة للمستقبل ينبغي أن نلتقطها منها بنظرة استشرافية بعيدة المدى انطلاقا من معطيات الواقع الذي نعيش والحقائق السياسية والاقتصادية والجيواستراتيجية التي يعرفها بلدنا؟ وهل الرهانات في تونس هي ذاتها في الجزائر؟ هي ذي الأسئلة التي تبادرت إلى ذهني وأنا أتابع بإمعان سير ونتائج الانتخابات في تونس، وأردت بدل أن أجيب على السؤال التقليدي الذي يتبادر إلى الذهن: هل خسرت النهضة أم ربحت؟ وهل تسير تونس في طريق الأمان أم أنها ستعرف هي الأخرى مرحلة تقلبات وعدم استقرار بسبب طبيعة النتائج التي تحققت في التشريعيات الحالية؟ فضلت أن أترك هذه الأسئلة للتونسيين يجيبون عنها بأنفسهم لأنها تعنيهم أكثر، أما ما يعنيني وما يعني كافة الجزائريين هو تلك الأسئلة الأخرى التي لها علاقة بمستقبل بلدنا؟ وكيف يمكن أن يقرأ التجربة التونسية وأن يتفاعل معها... * لقد ألغَت التجربة التونسية من قاموس خطابها السياسي مصطلح التزوير، وملء صناديق الاقتراع أو تضخيم القوائم الانتخابية أو غيرها من أساليب الغش والخداع المفضوحة. 1 وأول ما بدت لي أهمية تسجيله بالنسبة لنا هو أن المتابع لنتائج الانتخابات ومواقف الأحزاب السياسية والقوى المختلفة، والتعاليق التي صدرت عنها، لا يمكنه أن يُسجل عبارة واحدة تتعلق بالتخوين أو التزوير من قبل هذا أو ذاك. الجميع متفق على أنها كانت انتخابات شفّافة ونزيهة ومطابقة للقانون الساري المفعول. الجميع يعتبر أن تجربة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات هي تجربة ناجحة سواء من حيث الطريقة التي تم تشكيلها بها، أو من حيث توزيع المهام بين أعضائها، أو من حيث العمل الكبير الذي قامت به قبل الانتخابات والذي تقوم به الآن وستقوم به بعد الانتخابات. لقد ألغَت التجربة التونسية من قاموس خطابها السياسي مصطلح التزوير، وملء صناديق الاقتراع أو تضخيم القوائم الانتخابية أو غيرها من أساليب الغش والخداع المفضوحة... لم نعد نسمع في الخطاب التونسي مثل هذه المصطلحات، وإن بَقي الحديث عن شراء الذمم ودور المال الفاسد والأجنبي في العملية الانتخابية وغيرها من الأساليب التي تحتاج إلى وقت أكبر لتصبح منافية للتقاليد الانتخابية في هذه البلد. هي ذي نتيجة أولى ينبغي أن نضع تحتها خط للاستفادة والإفادة. 2 ثاني ما بدا لي مهما تسجيله هو أن الانتخابات التونسية لأول مرة في التاريخ العربي المعاصر تنقل حزبا وصل إلى السلطة من خلال الصندوق، إلى المعارضة ومن خلال الصندوق أيضا... لم يسبق في التاريخ العربي المعاصر أن تمكن حزب معارض من الحصول على أغلبية في البرلمان بواسطة الصندوق ثم تمت الإطاحة به ونُزعت منه الأغلبية بواسطة الصندوق.. والتجربة المصرية مازالت ماثلة أمامنا حيث تمت الإطاحة بأغلبية برلمانية منتخبة بواسطة الدبابة والقمع والسجن والتعذيب على شاكلة أساليب دكتاتوريات القرون الغابرة. كما أننا مازلنا نذكر التجربة التي مر بها بلدنا حيث تمت الإطاحة بأغلبية بات وشيكا فقط أن تصل إلى البرلمان بواسطة الصندوق أي لم تصل حتى... ناهيك عن تجارب بلدان عربية أخرى حيث مجرد تفكير المعارضة في الحكم يستدعي القتل والسجن والنفي واستخدام كافة الأساليب الوحشية التي لم تعرفها الإنسانية من قبل كما حدث مع المعارضة المغربية والمعارضة التونسية سابقا والليبية والسعودية والعراقية ناهيك عن السورية التي تتحدث الأخبار عن أهوالها التي لا تذكر. كل هذا تم تجاوزه في تونس: وصلت المعارضة إلى الحكم بواسطة الصندوق وتمت الإطاحة بها بواسطة الصندوق بغض النظر عن خلفيات الصعود أو الإطاحة، وبغض النظر عن دور اللعبة الدولية والظرف الدولي في ذلك. ما يهمنا نحن من خلال هذه التجربة أنها سجلت ما ينبغي أن نُسمّيه باسمه الحقيقي التداول السلمي على السلطة من دون إراقة دماء ولا قتل ولا سجون أو تعذيب أو حكم قهري بوليسي وما إلى ذلك. وهي النتيجة الثانية التي ينبغي أن نضع تحتها خطا لنستفيد ونفيد. 3 ثالث ما ينبغي أن نسجله أن الشعب التونسي رغم إدراكه لطبيعة مختلف القوى السياسية، لم يوزع أصواته على الجميع، بل عكس حقيقة مجتمعية هي واقع تعيشه جميع البلدان العربية والإسلامية مافتئت الكثير من التحاليل تثيره دون أن ينبته إليها أحد، وهذه اليوم إشارة حاملة لخطورة مستقبلية ينبغي تسجيلها ووضع خط أحمر تحتها لأنها ستكون سبب صراعات كبرى في المستقبل إذا لم يتم التكيف معها بالسرعة الكافية من الآن. ماذا تقول هذه الإشارة؟ إنها تقول بوضوح تام أن هناك مجتمعين في البلاد العربية والإسلامية وهناك منهجين متصارعين لا أكثر، وأنه لا يمكن التوفيق بينهما إلا من خلال عمل كبير وبعيد المدى تتكفل به مؤسسات الدولة، ومن خلال مشروع مستقبلي متكامل لبلداننا وإلا فإنه سيؤدي إلى الانفجار والانقسام الأكيد في يوم من الأيام. هذان المنهجان هما المنهج الإسلامي بجميع تفرعاته وتجلياته بما في ذلك الوطنية والمنهج الغربي بجميع تفرعاته وتجلياته بما في ذلك الأجنبية. ولذا فإنه لا يمكننا أن نعيش تعددية حقيقية ما لم يتم حل هذا الإشكال بين هذين المنهجين. وإذا ما كان من أمر خطير قد حدث في تونس هو أن نزاهة الانتخابات أفرزت هذه الحقيقة. لقد انقسم المجتمع إلى مجموعة تساند المنهجي الغربي الذي أعطى لنفسه رمز نداء تونس ولَفَّ نفسه برداء الديمقراطية واللائكية وما إلى ذلك، ومجموعة أخرى تساند المنهج الإسلامي الذي جسدته حركة النهضة وإن حاولت أن تبدو في ثوب الديمقراطي المنفتح على الغرب القابل للتنازل إلى أقصى الحدود. وتجلت بهذا الانقسام حقيقة الثنائية الفكرية والحضارية السائدة في مجتمعاتنا، وبات واضحا وهم إمكانية وجود تعددية حقيقية في نطاق وحدة الفكر والمنهج و الحضارة كما في الغرب. وتأكد لنا من خلال التجربة التونسية صعوبة صناعة تعددية حقيقية في بلداننا على الطريقة الغربية، باعتبار الخلاف الجوهري بيننا والغرب، حيث الاختلاف هناك ضمن الإطار الحضاري الواحد أما الاختلاف عندنا فيعود بنا إلى خلفية صراع بين حضارتين هما الغرب والإسلام. * لم يسبق في التاريخ العربي المعاصر أن تمكن حزب معارض من الحصول على أغلبية في البرلمان بواسطة الصندوق ثم تمت الإطاحة به ونُزعت منه الأغلبية بواسطة الصندوق. هذه هي المشكلة العويصة التي لاحت في الأفق اليوم أمامنا ونحن نتابع ما يجري من انتخابات في تونس، أي أنها انتخابات، إذْ مكنتنا من اكتشاف أهمية الحرية والشفافية والتداول على السلطة، كشفت لنا حقيقة صعبة ينبغي ألا تبقى خفية على أعيننا، متمثلة في أننا مازلنا مجتمعات لا نعرف وحدة المنهج ولا نتحرك ضمن إطار حضاري مستقل، كما المجتمعات الغربية، وفي ذات الوقت نريد من الديمقراطية أن تحل لنا هذا الإشكال. ينبغي أن ندرك أنها لن تستطيع ما لم تواكَب بصياغة عميقة للتكوين في مختلف أطواره ومراحله لتشكيل عقول تلغي من شعورها ومن لا شعورها أن هناك مجتمعين يعيشان في مجتمع واحد وأحيانا في رأس واحدة، في بلادنا. 4 أما الدرس الرابع والأخير وهو محل أمل هذه المرة أن التجربة التونسية الأخيرة قدَّمت للعالم الديمقراطي الحر مثالا حيًّا على السلوك الحضاري للتيار الإسلامي في بلد عربي، وأن هذا الإسلام لا يمكن أن يكون باستمرار رافضا للآخر، معترفا فقط بالعنف للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها (رغم أنه لم يصل). لقد قالت النهضة للعالم: ها نحن نصل إلى السلطة ونخرج منها من غير عنف. خطوة كبيرة باتجاه التأثير في رأي عام عالمي يحتكر صناعة الرأي العام فيه صناع داعش والقاعدة وفرق ضالة لا أول لها ولا آخر... لكنها تبقى خطوة غير كافية إذا لم تعزز بخطوات أخرى في بلدان تعرف ديناميكية تحول هي الأخرى مثل الجزائر أو مصر أو المملكة العربية السعودية حيث مازال العام ينظر لها كدول تمثل ركائز في العالم العربي والإسلامي. هل تستفيد هذه الدول من هذه الدروس الأربعة؟ ننتظر مؤشرات قادمة لنحكم....