"عملت راعي غنم ومهرجا ومديرا للحملة الانتخابية للوزير الأول الايطالي" إسمه عبد المجيد رايس، ولد بقرية زريبة حامد، بولاية بسكرة.. درس هناك وترعرع بهذه البيئة الصحراوية، قبل أن ينتقل إلى حي بلعيد بلقاسم وسط مدينة عنابة للإقامة رفقة أفراد عائلته، التي يعود أصلها إلى منطقة أولاد عطية بسكيكدة.. يعد من الرعيل الأول لأفواج الحراڤة الجزائريين، ومثال للشاب الجزائري، الذي سدت الأبواب في وجهه، فتحول إلى النجاح والطموح. كما يعتبر الشاب سفيرا بلا منازع للأخلاق والنوايا الحسنة، خرج من الجزائر مجرد حراڤ (زوفري)، وعاد إليها محملا بآلاف الشهادات والأوسمة التي حاز عليها من مختلف الدول الأوربية.. عبر رحلة تحمل الكثير من المغامرات والمفاجآت الشيقة والمثيرة، وعبر مسيرة طويلة من الزمن، لازال عبد المجيد رايس يعتبرها مجرد مرحلة قصيرة، للانطلاق في عالم الشهرة والفكاهة والكوميديا، التي اكتسبها من عمق الثقافة الايطالية، وعراقة أدب دانتي واليساندرو مانزوني، إكتسبها فعلا من معاناة الشارع، وأي شارع، إنها شوارع المافيا الإيطالية. قصة طويلة وعريضة مليئة بالعبر والمواعظ لشاب جزائري، دخل عام 1993 إلى سردينيا الايطالية مجرد حراڤ "هامل"، لا يكاد ينطق لغته العربية الدارجة، إستطاع أن يثبت للأوربيين أن الجزائريين ليسوا إرهابيين كما يتصورون، أو أناسا طفيليين يقصدون البلدان الأوربية، بحثا عن فتاة شقراء تقع في حبهم ومن ثم تتزوجهم وتضمن لهم امكانية الحصول على وثائق الإقامة الشرعية. عبد المجيد رايس، إبن ال36 ربيعا، يستحق بجدارة لقب "سفير الحراڤة الجزائريين والأفارقة".. في هذه الدردشة التي خص بها "الشروق اليومي"، نحاول أن ننقل للقراء، قصة تعد أكثر من عبرة، كونها مثال لمن يطمح في النجاح والتألق، إليكموها بالتفصيل. يقول عبد المجيد رايس: كنت أشغل منصب عون أمن بالمؤسسة الاستشفائية للأمراض العقلية، أبو بكر الرازي بعنابة، في سنوات التسعينيات أحلك سنوات الجمر والنار والدم، وكان لي صديق يسمى كريم، ذهب حراڤا إلى ايطاليا، كنت أتواصل معه، وكان يروي لي حكايات لا تنتهي عنه، كونه يقيم رفقة عشرات الشقراوات، بفيلا بقلب العاصمة الايطالية روما، مدعيا أنه يتقاضى أجرا محترما من الأعمال الكثيرة التي يمارسها -يضيف عبد المجيد-.. فقررت تطليق الجزائروعنابة، نحو ايطاليا بكل الطرق، وسلكت أول قارب حراڤة، إنطلق بنا من شاطئ راس الحمراء بعنابة باتجاه جزيرة سردينيا الايطالية في رحلة مثيرة ومليئة بالكوابيس، وقدر الله لنا أن نصل بأمن وأمان، إلى اليابسة الايطالية مطلع شهر جوان من عام 1993، وهنا تبدأ حكاياتي مع المفاجآت والمغامرات، يقول عبد المجيد: وجدت صديقي كريم مقيما ببراكة "خربة"، رفقة عشرة شبان آخرين، من أبناء مختلف ولايات الوطن، بمدينة نابولي الايطالية، إلى الجنوب من العاصمة روما. .. ولأني كنت متحمسا للعمل وفي حاجة ماسة للمال، رضيت "بالشي الحاضر"، وتنقلت في اليوم الموالي بعد وصولي هناك رفقة كريم ومن معه، إلى العمل بالمزارع وبساتين الخوخ والتفاح، مقابل مبالغ مالية زهيدة للغاية، مقارنة مع الكم الساعي الكبير الذي كنا نقضيه تحت أشعة الشمس الحارة، قائلا بأنهم كانوا يتقاضون 20 ألف ليرة (قبل بدء التعامل باليورو طبعا).. يقول عبد المجيد: قضيت رفقة كريم وعشرة من أصدقائه، أزيد من شهرين، نعاني الأمرين ببراكة تصلح لكل شيء إلا لأن تكون ملجأ لبشر..، قبل أن أقرر الرحيل والاستقلال بمفردي، إذ لجأت إلى إقامة "براكة" أخرى، على ضفاف وادي نابولي، وكان الوقت ساعتها قد قارب دخول أولى أيام فصل الخريف، أين تبدأ فرص العمل في التضاؤل والنقصان، مما أوقعني في فخ البطالة الخانقة التي كنت فارا منها من بلدي الجزائر، وبقيت لحوالي أربعة أشهر من دون عمل، أتسكع في شوارع سردينيا ونابولي، من دون وثائق رسمية، عرضة للحجز والتحويل على مراكز الإيواء، ومن ثم الطرد والترحيل في أية لحظة، ويتم القضاء على حلمي بتحقيق حياة الرفاهية وكسب الأورو. عبد المجيد راعي غنم ومهرب ضمن عصابات المافيا؟! بعد ذلك توجه عبد المجيد رايس، نحو قرى ومداشر نابولي، حيث عمل راعي غنم، لدى أحد الموالين بمنطقة جبلية تقع بأعالي مدينة نابولي، لا تشبه حتى منطقة عين بربر ببلدية سرايدي بعنابة، ولكن ليس بمقابل مادي، وإنما فقط لضمان وجبتي الغذاء والعشاء، بمنزل المعني، وهنا يقول عبد المجيد: تعلمت "مهنة الرعي الحقة"، إذ أصبح بإمكاني أن أحلب النعجة والعنزة بطريقة احترافية وعلى التكنولوجيا الايطالية؟. عمل عبد المجيد هناك، لأزيد من أربعة أشهر، وأمام المقابل المادي الزهيد جدا، الذي كان يمنحه إياه صاحب القطيع، قرر الرحيل، وتطليق العمل كراع، لتصطاده بعد ذلك عصابات المافيا، الناشطة عبر المحور الجنوبي للساحل الايطالي، المتخصصة في مجال تهريب السجائر والمخدرات.. وإن كان عبد المجيد لم يعمل ضمن العصابات الخطيرة المختصة في تهريب الكوكايين وكامل أصناف وأنواع المخدرات، فإنه عمل في مجال تهريب السجائر وتسويقها، بمقابل مادي نوعا ما محترم، مقارنة مع سابقه، وذلك بمدينة "باري" الواقعة بالجنوب الشرقي عن العاصمة الايطالية روما. والغريب في الأمر - حسب رواية عبد المجيد - ، فإن "رب" هذه العصابة هو شاب وهراني من غرب الجزائر، استخدمته عصابات المافيا الايطالية الشهيرة في التقاط "الهمال" الجزائريين الراغبين في الحصول على عمل لا يهم شكله و نوعه.. والمهم أنه يدر عليهم مبالغ مالية محترمة، وبقي عبد المجيد ينشط رفقة أفراد هذه العصابة، قبل أن يتحول إلى مدينة صقلية للعمل في مجال قطف الورود، إلى غاية صدور قانون يقضي بتسوية وضعية الأجانب عام 1996، صادر عن الحكومة الايطالية، وتمت تسوية وضعية عبد المجيد القانونية ليصبح إبتداء من شهر جويلية من ذات السنة مقيما بصفة رسمية وشرعية، على الأراضي الايطالية، وعلى عكس أبناء جلدته من المئات من الجزائريين، الذين اختاروا طريق المال إختار عبد المجيد، طريق الشهرة والنجومية، فكان له ذلك في ظل توفر الموهبة الشخصية والإمكانات المادية، على أرض الواقع، فشارك عبد المجيد رايس في إطار سياسة خاصة للسلطات الايطالية، تهدف إلى إدماج المهاجرين الأجانب في المجتمع الايطالي، في تربص لمدة 6 أشهر، للحصول على شهادة إسمها "الوسيط الثقافي"، وهنا يقول عبد المجيد: بدأت ثورتي على يد أستاذ علم الاجتماع والمخرج المسرحي "روبرتو بينيتي"، الذي أعجب بابتسامتي (التي لم تفارق ثغره منذ بداية حديثنا معه)، وسماها بينيتي "ابتسامة محمد"، ويقصد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. واكتشف فيه المخرج الايطالي مواهب خارقة للعادة في المسرح والتمثيل، فاقترح عليه مشاركته في مسرحياته الشهيرة، وجسد في بداية الأمر، دور مهاجر "حراڤ"، في مسرحية عنوانها "فلاذ المهاجر"، ولقي أداءه استحسان الجمهور والنقاد، ليواصل مجيد في عالم التألق والنجومية، وقام بعد ذلك بعدة ادوار مسرحية، أثناء تعامله مع المخرج "فيتوريو كوسونتينو"، الذي قال بشأنه مجيد: أنه ولج معه عالم الكوميديا من بابها الواسع، إذ أدى معه مسرحية بعنوان ""بينوكيو" دور القط العربي المجيد، وهو الإسم الفني الذي بات يلقب به مجيد، من قبل الصحافة الايطالية، التي أخذ حيزا كبيرا من صفحاتها، فموازاة مع التألق في ميدان المسرح والتمثيل، درس مجيد الأدب واللغة الايطاليتين حتى أصبح يداعب "لغة دانتي"، ويتغنى بأصوات "ادريانو تشيلينتانو"، كأنه ابن اللغة اللاتينية القحة، فكانت له محاولات شعرية نشرت أغلبها في الجريدة الأسبوعية "لا غازيتا دالي ميزو جورنو"، وواصل مجيد عالم الإبداع، مع عشرات المخرجين والممثلين الايطاليين العمالقة، اذ شارك رفقتهم في عرض كامل مسرحيات القصاص والروائي الانجليزي الكبير "شكسبير"، إلى غاية عام 2001، أين عمل مجيد بالشهادة المحصل عليها، كوسيط ثقافي، مع إحدى الجمعيات بمدينة باري جنوب شرق العاصمة روما، وفي هذه السنة بالذات يملك مجيد ابن عنابة ذكرى عزيزة على قلبه، إذ حطت مطلع شهر مارس من نفس العام، باخرة قادمة من الساحل الإفريقي، وعلى متنها أزيد من 500 مهاجر غير شرعي -"حراڤ" - من دول عربية وأخرى إفريقية. من حرّاڤ الى مهرج - يقول مجيد - خطرت في بالي فكرة تقديم اللجوء لهؤلاء الحراڤة، عن طريق عرض مسرحية يكونون هم بدورهم ممثلين فيها، وذلك موازاة مع طلبهم اللجوء الرسمي من السلطات الايطالية، وأطلق على هذه المسرحية اسم "أصوات من البحر"، قاصدا بذلك أصوات الحراڤة الذين لم يبلغوا اليابسة وتوفوا غرقا، وكلهم أمل في بلوغ بر الأمان، وكان يوم العرض مميزا بمركز الحجز على مستوى مدينة "باري"، حضره مئات الايطاليين بما فيهم السلطات المعنية، وحسب مجيد، فقد طرحت هذه المسرحية، عدة تساؤلات، أولاها، عن انقلاب الموازين والمفاهيم، إذ بات الأفارقة يلهثون من أجل بلوغ تراب الدول الأوربية، والسلطات المعنية ترفضهم، في وقت كان فيه الأفارقة عموما والمغاربة والعرب خصوصا، يجلبونهم كعبيد للعمل في أوربا، لكنهم يرفضون. وحسب مجيد، فإن هذه المسرحية أثرت إيجابا على تغيير نظرة الايطاليين اتجاه هؤلاء المهاجرين، مما حدا بالسلطات الايطالية إلى منحهم فور انتهاء العرض أوراق الإقامة، كون ذات المسرحية ناقشت، إشكالية تعامل الإعلام الايطالي، مع أخبار الحراڤة كجريمة وإدراجها ضمن صفحات الإجرام بجرائدها، مما أعطى نظرة مسبقة للايطاليين بالحكم على هؤلاء الحراڤة بأنهم مجرمون. وبعد هذا، اختار مجيد أن يصبح مهرّجا مستقلا بعدما تابع دروسا في فن التهريج وإنجاز الديكورات بالبالونات، فنزل إلى عمق الشارع الايطالي، أين أصبح محبوب الشارع، بلا منازع، ضحك متواصل ومشروع طموح "لابتسامة محمد". وفي خضم هذا التألق والنجاح المتواصلين، أصيب مجيد بانهيار عصبي، كاد يقضي على كل نجاحاته، إذ وقع في حب "فاتنة شقراء" إيطالية، إبنة مدينة "باري" إسمها "أورسولا"، فنانة مسرحية، عرفها أثناء رحلاته الشيقة بشوارع مدن الجنوب، ولأنه "عربي مسلم"، رفض أهلها تزويجها له، مما أصاب مجيد بالإحباط واليأس لأول مرة في حياته، وقرر بعدها، نسيانها ولكن ليس بسلك طريق الانحراف والإدمان على المخدرات والكحول، وإنما بالتوغل في عالم المسرح والتمثيل، والإكثار من العمل والخرجات المسرحية في الشوارع، فاستطاع مجيد في أصعب مرحلة من مراحل حياته أن يؤسس، لما يسمى اليوم "بحوار الأديان"، إذ جمع بين عشرات الأطفال من مختلف الديانات، في تربص مسرحي، على حساب بلدية باري، وهكذا خرج مجيد من محنته هذه بمكاسب طويلة وعريضة، جمهور بالآلاف عبر كامل شوارع ايطاليا، وأموال طائلة، ولم يقتصر عمل مجيد على إيطاليا وحدها، إذ جاب مختلف عواصم الدول الأوربية، حاملا معه العلم الجزائري في يد، والفن والمسرح في يد أخرى، طاف بمئات المؤسسات الاستشفائية والكنائس ودور العجزة، معتزما إرساء ما اصطلح عليه بمشروع "إبتسامة محمد"، ودخل مجيد عام 2005، مرحلة الجد مع حياة العزوبية، بعد تعرفه على الطالبة الجامعية بكلية الاقتصاد بجامعة روما "انطو نيلا"، وبعد مشوار حب طويل انتهى بزواج منها، بعد إسلامها وحملها لإسم "زينة"، عاد بعدها "مجيد" إلى أرض الوطن، فنانا ومسرحيا عالميا شهيرا ومشهورا، له الكثير من عروض العمل ليس بإيطاليا فحسب، وإنما بمختلف الدول الأوربية. ولأن روح الإنسانية تدب وتسري في عروقه، استغل المهرج والمسرحي عبد المجيد رايس، وجوده بالجزائر رفقة زوجته "الشقراء"، لتنشيط عدة عروض مجانية وخرجات ليلية لدور الطفولة المسعفة ومدرس الصم والبكم والمتخلفين عقليا، بولاية عنابة، والشيء نفسه فعله بعدة ولايات جنوب البلاد، بسكرة وورقلة وبشار، هو شاب تملؤه الحيوية والنشاط، تملؤه الفكرة والموهبة ، تملؤه الإنسانية الزائدة والإحساس المرهف، يملؤه حب الوطن والغيرة عليه.. هو "الحراڤ" الجزائري الذي أعطى مثالا عن النجاح الفني والمهني.. يقول "إن الفنان الناجح هو الشخص الذي يعتمد على نفسه وقدراته مهاراته دون انتظار إعانة الدولة"، هو الرجل، الذي يختلف أيما اختلاف عن أبناء هدا الجيل من شباب الجزائر الذين يطلقون الجزائر بالثلاث، نحو البلدان الأوربية وحال وصولهم هناك، أول ما يقدمون عليه هو اصطياد "امرأة" قد تضمن لهم فرصة تسوية وضعية إقامتهم، مما أعطى صورة سيئة عن الجزائريين، يحاول عبد المجيد بفنه وبإبداعاته وبخرجاته المدهشة، تحسينها، وهو المطلب الوحيد الذي أراد أن يوجهه مجيد عبر "الشروق اليومي"، إلى شباب الجزائر قائلا: "حاولوا أن تكونوا أحسن سفراء للجزائر". ويتواجد عبد المجيد، حاليا، بعنابة، بداعي الإصابة بالمرض، إلا أنه لا يكاد يتوقف عن العمل، إذ يتعاون مع جمعيات الأحياء وجمعيات خيرية، كجمعية "السواحل" وجمعية واد الفرشة الرياضية، في خرجات يومية عبر دور الطفولة، ودور الحضانة، في خضم سياسته المتواصلة لإرساء مبدأ الابتسامة. وفي سؤال عن سبب أزمة الجزائر وانتشار الأحقاد والضغائن بين أفراد المجتمع، قال عبد المجيد بأن ذلك راجع "لافتقار الجزائريين لثقافة البسمة"، إذ تغيب الابتسامة عن وجوه الجزائريين عامة. .. هذه هي القصة الكاملة لعميد الحراڤة الجزائريين وأنجحهم، يملك عدة علاقات واتصالات مع مشاهير الساسة والسياسوية، شارك في الحملة الانتخابية للوزير الأول الايطالي الحالي، رومانو برودي، عام 2005 ضد غريمه الأوحد والوحيد "سيلفيو برلسكوني"، وترصع صدره بعشرات الأوسمة والميداليات، التي منحت له من قبل رؤساء بلديات كل من مدينة "باري"، "نابولي"، "روما"، وحتى "مرسيليا" الفرنسية، و "برشلونة" الاسبانية، و"أثينا" اليونانية.. إنه الإنسان الناجح، الذي يعد بمزيد من التألق والنجاحات. الشروق عينه على الأحداث في الجزائر .. قال عن الشروق اليومي، إنها جريدته المفضلة، وأنه بواسطة موقعها الالكتروني، يتواصل مع الجزائر وأخبارها، كما يطلع من خلالها على أخبار الحراڤة العنانبة، الذين أحيوا منذ بداية عام 2007 موجة الهجرة غير الشرعية وغير الأخلاقية بألم وحسرة.. هذه هي قصة حراڤ بدأت بألم وانتهت بأمل. أحمد زقاري