لم يكن غودلاك جوناثان طيب الحظ كما يفترض ذلك اسمه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في نيجيريا، بعد أن فقد مقعد الحكم لصالح الرئيس الجديد القديم محمدو بوهاري، غير أن نيجيريا كلها كانت طيبة الحظ عندما جنبها جوناثان إمكانية الانزلاق إلى الفوضى بعد أن هاتف منافسه فور إعلان النتائج، معترفا بالهزيمة وراجيا له التوفيق فيما أخفق فيه هو. ولكن لماذا اختار النيجيريون جنرالا متقاعدا، وقائد انقلاب سابق بدل دكتور ورجل سياسة مدني؟ هل ضاقوا ذرعا بالديمقراطية حديثة العهد بهذه السرعة؟ أم أنهم اشتاقوا لحكم "المطرق"، بدل الحرية التي لم تجلب لهم سوى المزيد من المتاعب الأمنية والاقتصادية؟ في الواقع ليس إرهاب "بوكو حرام" هو أخطر تحدّ يواجه نيجيريا اليوم، إذ أن هذا البلد الذي يعد الأكبر ديمغرافيا في إفريقيا بأكثر من 177 مليون ساكن (2014)، والأول من حيث حجم الاقتصاد (521 مليار دولار عام 2013)، يعاني مشكلة أكبر بكثير، وهي الفساد المنتشر في ثنايا الاقتصاد والسياسة، وقد جاءت نيجيريا في المرتبة 136 (من بين 175 دولة) في مؤشر حجم الفساد في القطاع العمومي خلال العام الماضي. وكان الجنرال محمدو بوهاري قد حكم البلاد قبل أكثر من ثلاثين عاما بعد انقلاب عسكري، في الفترة ما بين عامي 1983 و1985، ولا زال النيجيريون يذكرون تلك الفترة بسبب بعض الاجراءات غير المألوفة التي فرضها بوهاري لمحاربة ما اعتبره آنذاك أكبر مشكل يواجه البلاد: عدم الانضباط. ومن بين التدابير الغريبة التي اعتمدها الرجل: معاقبة كل موظف قدم متأخرا إلى عمله بالإهانة اللفظية وإرغامه على القفز مثل الضفدعة، وذلك تحت إشراف رجال من الجيش. أما الطلبة الذين يضبطون في حالة غش في الامتحان فيحبسون لمدة قد تتجاوز العشرين عاما (نعم .. عشرين عاما)، ولا داعي للحديث عن المخالفات الجنائية، والتي تصل عقوبتها حد الاعدام. أما حربه المعلنة على الفساد والرشوة فقد بلغت مستويات غير مسبوقة، وفي الوقت الذي كان فيه عدد قليل من الناس يتحدثون عن مثل هذه المسائل، كان بوهاري يعتبر الفساد العائق الأكبر أمام نهضة البلاد الاقتصادية والاجتماعية، وبغض النظر عن مدى ملاءمة السياسات التي اعتمدها آنذاك، بلغ به الحزم أنه ألقى في السجن، خلال عشرين شهرا من الحكم، خمسمائة من رجال السياسة والموظفين الحكوميين ورجال الأعمال بتهمة الفساد. ربما زرع سجل بوهاري السابق في النيجيريين أمل الخلاص مما لحق بهم من ظلم وحيف، وقد تلخص خطابه أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة في تخليص النيجيريين من ثنائية اللاأمن والفساد، وعندما أعلن فوز الجنرال بالانتخابات، خرج أنصاره إلى الشوارع حاملين في أيديهم المكانس، في إشارة وعيد للمفسدين بقرب كنسهم من مفاصل النفوذ السياسي والاقتصادي، بعد عقود من الاستئثار بثروة البلاد. إن اختيار النيجيريين لدكتاتور وانقلابي سابق، بطريقة ديمقراطية نالت إعجاب كل المتابعين تفرض علينا التوقف قليلا عند سؤال: ماذا يريد الناس من الديمقراطية؟ أو ما هي الفضائل التي تجعل من الديمقراطية النظام الأفضل للحكم، أو على الأقل، النظام الأقل سوءا من بين الأنظمة الموجودة؟ يبتغي الناس من الديمقراطية ثلاث مسائل جوهرية: الحرية، والمساواة أمام القانون، والرقابة المشتركة على الثروة العامة. ولكن في البيئات المتخلفة سياسيا، تختزل الديمقراطية في العنصر الأول فقط، أو قل على الأصح: في صورة مشوهة عنه. فالدولة تصبح ديمقراطية عندما تقر دستورا تعدديا يتيح "حرية" إنشاء الأحزاب والجمعيات، وحرية الترشح والانتخاب، وحرية التعبير وإبداء الرأي في القضايا العامة وما إلى ذلك. باختصار، عوض أن ينطبق عليك شعار الأنظمة التسلطية: "تهدر تموت"، الأن صار بإمكانك أن "تهدر حتان تموت" ... هذا وفقط. أما أن تنتقل إلى التأثير في السياسات العامة ومحاسبة المسؤولين الفاشلين، وإيصال المرشحين الذين ترغب فيهم فعلا إلى الحكم فذلك، يا صديقي، ضرب من التوهم الذي يحتاج إلى علاج. في دول مثل نيجيريا والجزائر، وبعد عقود طويلة من الكبت والتضييق، احتفى الناس كثيرا عندما رأوا أنفسهم قادرين أخيرا على البوح بما ظل حينا من الدهر يخنق أنفاسهم، لقد صار بإمكانهم نقد الرئيس والوزراء، بل وحتى شتمهم على الملأ، وإطلاق النكات عنهم، وبات بالإمكان الاعتراض على السياسات الحكومية وتنظيم المظاهرات والاضرابات، وإصدار الصحف، والجهر بالانتماء السياسي وأشياء أخرى من هذا القبيل. ولكنهم اكتشفوا بعد مرور الكثير من الوقت ألا شيء جوهري تغير، فحكام الأمس الاستبدادي البعيد هم أنفسهم حكام العهد الديمقراطي الجديد، أما صور الظلم الأخرى، مثل سمو أهل الحظوة على القانون، أو ارتباط الثراء بتقلد المناصب العليا أو الدوران في فلك الحكام، فظلت عملة يومية، بل إن بعضها، مثل التزلف وبيع الذمم، صار رياضة قومية. ما أراد النيجيريون قوله، وربما شاطرهم الجزائريون في ذلك، أنهم سئموا من الديمقراطية المجتزأة، وأنهم يرغبون في أن يكونوا فعلا أحرارا ولكن في دولة يحكمها القانون، وأنهم، إذا اقتضى الأمر، لو خيروا بين فضائل الديمقراطية الثلاث، أيها يضحون بها لصالح الأخريين لاختاروا الحرية، أو جزءا منها على الأقل. إذ ماذا تساوي حرية زائفة في النقد والتجريح في مقابلرؤية مسؤول مقرب نهب الملايير وهو يساق إلى السجن بالسياط ؟ وهل هناك أقر لعين العامة من واجهة زجاجية شفافة تظهر من خلالها أموالهم وهي تسير في مصارفها المختلفة، دون أن يختفي منها فلس واحد عبر قنوات مظلمة لا يدري أحد أين تصب؟ هل يمكن أن يكون ذلك سبب اختيار النيجيريين لمن يعتقدون أنه "مستبد عادل" حتى ولو جعلهم مرة أخرى يقفزون كالضفادع، بدل أن يختاروا "المتحرر الفاسد" الذي لم يطعمهم من جوع ولم يؤمنهم من خوف؟