رافقناه ثلاثتُنا إلى المستشفى، وكنتُ مطمئنا إلى حد كبير لما رأيتُ على ملامح وجهه من هدوء لا يظهر عليه اضطراب، واستأنستُ من حديثه مرحا لا يدل على خوف، واستنتجتُ من مداعبته لأمّه كأنه يشجعها ألا تهنَ ولا تحزن، شعرتُ وقتها، ونحن على مقربة من دخول المستشفى، بأنه في غاية الشجاعة ورباطة الجأش، وقد يكون حديثُنا معه المطوَّلُ أعطاه جرعةً معنويةً كافية من الاستعداد النفسي في مواجهة ما ينتظره، وقد بدت عليه علاماتُ إقدامٍ قوية، قد تكون أصيلةً فيه بالوراثة من أبيه وقومه، أو مكتسبةً من معاشرة أبيه الذي عرف عنه كيف تمرّد على وضعه فتحدى الصعاب وظفر، وربما عرفه عند وعيه بالحياة واتساع مداركه بالمشاهدة، كيف خاض أبوه معارك الوجود على كل الجبهات فثبت وانتصر، وكيف تصدَّى بشدة وعنفوان لتمزيق الحبائل المنصوبة في طريقه بكل الدقة والاحتيال، والقنابل المزروعة أمامه، والقابلة في كل لحظة للتفجير والتدمير. * * وبعد الإجراءات الإدارية بالمستشفى، صاحبنا نبيل إلى غرفته رقم 404، بالطابق الرابع، جناح البروفسور بارك الذي يُجري له العملية بنفسه، وتناولته الممرضاتُ ذواتُ القمصان البيض، يتهادين كحمائمَ هادلةٍ زاجلةٍ غدوا ورواحا، لا يتكلمن إلا رقةً وهمسا، ولا يمشين إلا خفةً ونشاطا، ولا يعملن إلا دقةً وإتقانا لأوامر الأستاذ الطبيب، والمدوَّنةِ مسبقا على سجِّلٍ بالثواني والدقائق. وتوالت الفحوصُ بمختلف الأجهزة الدقيقة العالية التقنيات لتشخيص أجزاء الجسم من كل أطرافه، وتقييس دقيق لنبضات القلب ودقاته، وتحليل لمناسيب الدم بسكّره ودهونه، ولمدة ثلاثة أيام متتالية، وإخضاع المريض لحمية قاسية طيلة فترة الفحوص، إعدادا مدروسا محسوبا مطلوبا قبل إجراء العملية. وواصلنا زياراتِنا له، وبقاءَنا بجانب سريره، نُضفي عليه من العطف والحنو ما يُشعره بعناية والديْه وعمه، وتأكَّدتُ من قوة صبر نبيل وقدرة تحمله، ورباطة جأشه، خلال تلك المراحل التي كان يخضع فيها لتلك الفحوص المرهقة المتعاقبة، وبعضُها حساسٌ متعبٌ ومؤلم، وبعضها مُتلفٌ للأعصاب ومُقرف، وبعضها مُقلقٌ للنفس ومخيف. * ذهبت عشية العملية، وأخي الطاهر، لمقابلة الأستاذ الطبيب بارك نطمئن منه عن سلامة التشخيص قبل العملية، وإذا به يفاجئنا واجما بخبر مفاجئ نزل علينا كالصاعقة، وهو أن الفحوص أظهرت نقطة سوداء بالكبد، قد تكون ورما خبيثا مسها عن طريق العدوى من ورم المعي الغليظ الذي يستدعي إزالته كاملا، وإذا تأكد من ذلك الورم المحتمل، فلا بد من عملية ثانية، ووعدنا بإخبارنا غدا بعد فحص دقيق لهذه النقطة السوداء التي بانت مغشاة نوعا ما بالكبد. وعدت مع الطاهر أدراجنا أمام الخبر المهول، نتمنى من الله ألا تؤكد الفحوص المنتظرة توقعات الأستاذ الطبيب، واتفقنا على بقاء الخبر سرا بيننا لا نبوح به لنبيل ولا لأمه. وهمست في داخلي مستعظما هذا الخبر الصاعقة، مستجيرا بخالقي مستلطفا، أرجوه الرأفة والرحمة بي وبولدي، أهمهم بدعاء مكبوت، رباه رُحماك ولُطفاك! ولكني لا أستطيع البوح، فلساني لا يطاوعني عن التعبير، وأنفاسي تكاد تنحبس بصدري من شدة الاختناق، ومشيت متأوها كاظما النفس بدون أنين، أكاد أسَّاقط من الفجيعة والمفاجأة معا، فهذه شؤم وتلك نذير، هذه بلوى يبتليني بها دهري في أخريات أيامي، وهذا ابتلاء لأمه الملتاعة فزعا عليه، وهذا مصاب جلل للأهل جميعا، وهذه شقوة شقية للمريض، أخاف أن يكون النبأ وحده بعملية ثانية، ونتيجة ورم خبيث، وهو مقدم على العملية الأولى كافيا لينهار سد المقاومة من قلبه وعقله. لك الله يا بني يا نبيل! * وعُدنا لغرفة المريض، وهو وأمه ينتظران بلهف خبر نتائج الفحوص بعد مقابلتنا مع الأستاذ الطبيب، فبشرناهما بأن الطبيب واثق بأنه يجري العملية بنجاح، وأن حصيلة التشخيص المجمَّعة من مختلف فحوص الأجهزة طيبة للغاية، فهلَّ وجهه بشرا، وتنفَّست أمه الصعداء، وراح يداعبها نوعا من التأنيس لها، وازداد ثقة بنفسه وهو يستعد لإجراء العملية صبيحة الغد، وآنسناه إلى ساعة متقدمة في الليل بعد الغروب، ثم ودعناه على أمل اللقاء به غدا ظهرا، وقد يكون استعاد وعيه بعد العملية الموثوقِ نجاحُها، واستيقظ بعد التخدير. ورجعنا ثلاثتنا إلى الفندق، وكل منا بداخله هاجس وتوجس، لكني أنا، وبمشاعر الأبوة، قضيت ليلة محمومة بغم ثقيل تنوء بحمله الجبال، وأنا على علم بالورم الجديد الخطير، لكن أمه رغم إخفاء الخبر عنها، كأن غريزة الأمومة أوحت لها بما يخبّئه القدر لولدها الأكبر، فكانت مضطربة أكثر من وقت وجودها معه في غرفته بالمستشفى، وكنت أعرف عادتها في النوم المبكر، ظانا أن مغالبة النعاس تختصر لها ساعات الحيرة والقلق على ولدها، لكن الكرى هجر جفنيها ونأى، وراح القلق يساورها أكثر من ذي قبل، وحاولت طمأنتها بكل ما لدي من تجارب مع العمليات الجراحية، مذكرا إياها بالتجربتين اللتين مرَّ بهما عماه الطاهر وأحمد، لنفس المرض، وفي نفس المستشفى، ومع نفس الطبيب، فبدا عليها من ملامح وجهها أنها تسمعني شاردة الذهن، وأن كلامي لا يتجاوز مسمعيها إلى قلبها وعقلها، وكأن هاجسا بداخلها يقول لها: أن اسأليه، فهو يكتم عنك خبرا جللا يتعلق بصحة نبيل، وقضت ليلتها متقلبة ساهرة ساهدة، لا يقر لها قرار على أي جنب يمكن أن تستريح لتنام، ثم تركت السرير وجلست بأرضية الغرفة، وبيديها المصحف الشريف تقرأ منه سورا وآيات، ثم تقوم للصلاة متنفلة بخشوع، تطيل الذكر في كل ركوع وسجود، كأنها في صلاة قنوت، ثم ترفع يديها بعد كل صلاة نحو السماء متضرعة تهمهم بدعاء طويل طويل، كأنها تستغيث بآية من الذكر الحكيم القائلة: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان، ادعوني أستجب لكم"، وكم دعت المسكينة في ليلتها تلك دعاءَ المستجير وتضرعت، وكم تنهَّدت الملتاعة زفيرا متحشرجا بصدرها وتأوهت، وبدوري قاسمتها السهاد وهجران النوم، لكن بقيت متماسكا أهدئ من روعها، وأخفف ما أحسه من خوالج تضطرب بين جوانحها، حتى بزغ الفجر مبشرا بقرب زوال الديجور من الكون، وطلع الصبح يطارد جحافل الظلام في تلك المنطقة من المعمور، وأشرقت الشمس ترسل أشعتها الفضية من خلال زجاج النافذة تتسلل بدفئها إلى النفوس الساهرة الحائرة مثلي ومثل أم البنين علّها تخفف من وطأة الترقب والاضطراب، ولتكن علامة نهاية ليل أليل ثقيل قضيناه سهارى بين الرجاء والخوف، رجاء في نجاح العملية لإنقاذ الوليد من براثن الموت، وخوف من مفاجآت غير منتظرة، واثقين في خالقنا المولى جلت قدرته، وقد دعوناه متضرعين خاشعين ألا يصيبنا بلاء، وقد شربنا من كؤوس البلايا العلقم والحنظل، وكان الصبح وضحاه وزواله بطيء الثواني والدقائق، متثاقلا دورانه حول أفلاكه على غير المعتاد، لأننا علمنا من الأستاذ الطبيب بالأمس أن نبيل ينقل لغرفة العمليات على السابعة صباحا، ويمكن زيارته ظهرا في حدود الثانية، وانتقلنا ثلاثتنا نحو المستشفى لاهثين نسارع الخطى عند الوصول إليه، ونبضات القلوب تزداد خفقانا واضطرابا، والهواجس تتزاحم في الصدور وتتصادم، كلما قرّبنا من غرفة المريض، ودخلنا الغرفة متزاحمين، كأن كل واحد منا يسابق أن يرى المريض خرج من هول العملية سالما، حتى تطمئن النفوس وتهدأ، وكانت مفاجأتنا كبيرة، لما وجدنا الغرفة خاليه من نبيل، وأنه لم يعد بعد العملية كل ذلك الوقت المتأخر، وقد قِيدَ نبيل من غرفته محمولا على سريره إلى غرفة العمليات السابعة صباحا. أمعقول أن تستغرق العملية سبع ساعات كاملة؟ ويلتي أوقع مكروه للوليد، وهمهمت: رباه أتوسل إليك ألا تفجعنا بوقع ما لا نترقب أو نتوقع. وهرعنا للممرضات نسألهن عن كل هذا الوقت الطويل، والمريض لم يعد بعدُ من غرفة العمليات، وتطوَّعت من أرادت طمأنتَنا بأن العملية تمت بنجاح، وأن المريض ما زال بغرفة الإنعاش حتى يستعيد وعيه رويدا، ويستفيق من جرعة التخدير العام، وذاك يتطلب بعض الوقت للإفاقة، فلا داعي للانزعاج. * واتجهنا نحو مقهى المستشفى بالطابق الأرضي تمضية لوقت الإحراج والارتجاج، وكل منا يسبح في مشاعر الاضطراب من الارتقاب، حتى يفيقنا الطاهر بطمأنة الحاجة تهوينا عليها، مذكرا بأنه مكث وقتا طويلا عندما أجريت له العملية، ولم يرجعوه إلى غرفته إلا في حدود الخامسة مساء، وهو وقت معقول فلا مثار للقلق، وراح يشرح لوالدته مجريات العملية ومسارها، والمدة اللازمة التي يبقاها المريض في غرفة الإنعاش المركز، تحوطا لأية مضاعفات، وهو تحت الرقابة اللصيقة من طاقمه الطبي، وذاك احتياط ضروري تستوجه يقظة الفريق المشرف حتى يتأكد من سلامة كل الإجراءات المصاحبة للعملية واللاحقة بها، وكم مرة نعود إلى الغرفة، ونحن في حالة قلق، فلا نجد إلا السرير خاليا من مريضه، فنزداد حيرة وتخوفا، ولم يعودوا به إلا في حدود الخامسة، فطُلب منا مغادرة الغرفة لدقائق حتى يوضبوا له ما يلزم من أجهزة لمثل هذا النوع من العمليات، ودخلنا حالما أتم الفريق الطبي عمله، فراحت والدته تلثم جبينه مشدوهة، تسابقها دموع لا تطاوعها نفسها عن كفكفتها، وراح الطاهر الذي علت وجهه سحابة حزن بادية، لا شك أنه تذكر مروره بذلك الامتحان العسير، وذكَّره بتلك الحالة الرهيبة التي عاشها هو شخصيا، وهي تجربة قاسية تصاحب عملية التخدير التي هي ضرب من الغيبوبة المبرمجة أو الموت المؤقت، فيها يغيب الوعي وينعدم الإحساس، ولكنه تماسك، وطفق يهدئ من روعة الحاجة بحنو حتى تجتاز ذلك المنظر المؤلم، وهي ترى ولدها ممددا على السرير بلا وعي ولا حراك، إلا ذلك النبض الذي تحسه، وهي تتلمس ذراعه وصدره، وتلك الأنفاس الخافتة كأنها بقايا أثر دال على ملمح للتمييز بين إغفاءة الموت ويقظة الحياة. * أما أنا، أما أنا، فلا تسل كيف كنت لحظتها مظهرا هادئا أمام أمه حتى لا تخار وتنهار، كنت مشاعر مضطربة إلى حد الجزع والهلع، أئن بزفرات مكتومة بالصدر كأني في لهب الاحتراق من الاختناق. من يستطيع من الخلق أن يتحمل ذلك المنظر الذي يرى عليه ولده، ويبقى له جسم يقوى على الوقوف دون أن يتهاوى على الأرض وينطرح؟ من يبقى له قلب لا ينشطر شظايا من هول المنظر وينفطر؟ لو كان منظرا واحدا لتحمّلته، وأنا أرى نبيل على تلك الحال من الإغماء والإغفاء، وفي منخريه، ومن عدة جهات من بطنه رتل من الأنابيب الممدودة منها إلى أجهزة مثبتة بالجدران حوله وفوق رأسه، وذلك لإخراج خليط من الإفرازات، مَن من البشر يستطيع أن يصطبر كذا مرة، على نفس المنظر، وفي نفس المستشفى، وربما في نفس الطابق، وعلى نفس المرض. * نعم من يستطيع تحمل ذلك، كذا رأيت أخي الطاهر على تلك الحال بعد إجراء العملية الجراحية له منذ سنتين، شبه غيبوبة بعد التخدير، لا يستطيع النطق أو الحراك، الأنابيب نفسها ممتدة من جسمه إلى أجهزة لإخراج الإفرازات ثابتة بالجدار فوق رأسه، نفس الإبر المغروزة بذراعه لسيران المحاليل والمورفين في أنسجة الجسم وخلاياه، لكن الفارق في عملية الطاهر، هو أني كنت وحدي بجانبه بعد إعادته لغرفته، فطلقت العنان يومها للنفس تعبر وتنفجر، وتركت دمع المفلتين يجري على الوجنتين وينهمر، وتضرعت لخالقي بصوت مسموع أدعوه وأرجوه وأتشفع، وبنفس الطريقة وعلى نفس المسار أجريت عملية جراحية لأخي الأكبر أحمد، فكنت كذلك في حالة التوجس والترقب، وبنفس الخوف والهلع، لكن الوضع مختلف هذه المرة مع نبيل، فوجود أمه معي في غرفته يقيدني عن أي ظهور بالجزع، مخافة أن يزيدها ذاك تخوفا واضطرابا، وكانت مشاعري وهواجسي وخوفي على نبيل لا تقل عن حالتي النفسية التي كنت عليها مع عميْه، ولكن للضرورة أحكامها، فتقدمت من سريره ألمس ذراعه أتحسسها بكل حنو الأبوة وحنانها، واضعا في تلك اللمسة كل رزانتي وهدوئي، حتى أنقل إليه شيئا من الشجاعة وقوة الصبر على مكابدة أوجاع الجراحة وآلامها، وانحنيت عليه أقبل جبينه وألثم خده بحرارة، مناديه بصوت جهور: نبيل! الحمد لله، لا تخف ولدي، فقد مرت العملية بسلام، وها أنذا بجنبك، وحولك عمك الطاهر والحاجة والدتك، نشاركك جميعا معاناة العملية لنخفف عنك وطأتها، وجودنا يرعاك بعد رعاية الله لك ولنا جميعا. * ومكثنا ثلاثتنا حول سريره ساعات نتبادل كلمات مطمئنة، ضربا من الترويح على النفوس، وهي تتقد مشاعر قلق على حياته حتى تكاد من الخوف عليه أن تنفطر، ويزيدها ذلك المنظر الذي كان عليه نبيل كآبة وحزنا فتضطرب ولا تستقر. ومع مكوثنا الطويل بجانبه ننتظر منه حركة أو كلمة تدل على إفاقته، فإن نبيل لم يستيقظ بعد من غشيته الطويلة، وذلك نتيجة البنج العام الذي خدروه به إعدادا للعملية، غير أنات تخرج من الصدر كأنها إشارة منه بأنه يحس بوجودنا. * وتركناه تحت عناية الله ورعاية فريق الأطباء والممرضات، وغادرنا المستشفى، وكلنا رجاء في أن نعود إليه غدا، وقد استرجع وعيه يعي ما يقال له يستمع ويفهم، وانطلق لسانه، فيجيب على أسئلتنا الحائرة يبين ويعبر، ونحن نتوقع، بل نعرف تماما ما ينتظره من آلام مبرَّحة لمدة أيام حتى يلتئم الجرح، وتخف عنه آثار الجراحة، ويستعيد ولدي عافيته، ويعود إلى أبيه وأمه وإخوته وأسرته الكبيرة معافى مشافى، كذا تمتمت في داخلي بتلك الأماني والأحاسيس، ورجوت الله التخفيف عنه، إنه سميع مجيب الدعاء. وقضينا ليلتنا تلك بين سهاد وأرق، وراحت أمه على غرار الليلة السابقة بين تضرع وابتهال وبين المصحف الشريف تتلو آيات منه وسورا تستجير بخالقها حتى يخرج ولدها من هذا الابتلاء سليما سالما بعد هذه العملية الخطيرة، كما باتت الليل كله تصلي نوافل متصلة مشفوعة بالرجاء والدعاء. أما أنا الكاتم لسر الورم الخبيث الذي أبلغني به الطبيب، والذي يستوجب عملية جراحية ثانية لنبيل بعد ثلاثة شهور، بت كاظما لمشاعري المضطربة أمامها خوفا عليها من أن تفقد الصبر وتنهار. * وهنا انتابني، وأنا على تلك الحال، شيء من وخز الضمير نحو أولادي، وتساءلت: هل وفرت لهم عاطفة حانية منذ ولادتهم؟ وكان الجواب ربما ليس بالقدر الكافي، بل كنت لهم الأب الموجود دوما، ولكن ليس الراعي المتابع دائما. وأجبت في سريرتي: ليس إهمالا مني ذلك أو قسوة أو تغافلا، فقد وفّرت لهم كل مستلزمات الراحة في البيت والاطمئنان، وكل مستوجبات الدراسة والتعليم بما فيها الدروس الخاصة للرفع من مستواهم، وبيتا هادئا في علاقة الأبوين والأولاد دأبه السكينة والاستقرار، ولا شك أن الرعاية الأبوية المباشرة، والمتابعة الدائمة لدراساتهم وأحوالهم لم تكن بالشكل المطلوب، ولكنها كانت متوفرة إلى حد معقول، وهذا لم يكن تقصيرا ولا تلاهيا عنهم بمسرات الدنيا ولذائذها، كما فعل غيري، فقد أطلق الكثير منهم العنان للنفس تنتقم من سنوات الحرمان في عهد الاستعمار، ففتحوا المقاهي، وعاجوا على الملاهي، وتاهوا هنا وهناك، يبحثون عن اللذات أينما وُجدت، ويلهثون في طلبها إذا ما بعُدت، وفيهم من شرَّق وغرَّب لطلب المال فجمَّع واكتنز، أما أنا، فقد كرست حياتي أساسا لحياة أخرى، وهبت ما تبقى منها من فضلات العذاب والسجون فداء لتحرير الجزائر، وكنت أظن أن ذلك البديل يعوضهم عن المتابعة اللصيقة بتلك الشهرة الكبيرة لاسم العائلة، اعتقادا مني أنها ترضيهم وتستهويهم، وسمعة طيبة لأبيهم بين الناس تكون مفاتيح بين أيديهم لمستقبلهم، ومجدا مخلدا يتوارثونه من الأبناء إلى أحفاد الأحفاد، ويعتزون بذلك الفارس الذي كانه أبوهم، وقد ملأ الدنيا وشغل الناس داخل الجزائر وخارجها، ليظل اسمه مقرونا بنضال شعبها في الجهادين الأصغر والأكبر، والحقيقة يا نبيل، كانت المعادلة بين أسرتي وبين وطني غاية في الدقة والاختيار، كانت المفاضلة بين الرعاية الملازمة لأحوالكم وبين مواصلة النضال من أجل وطن افتديته كغيري من المناضلين بزهرة شبابي عذابا وسجونا لاسترجاع حريته وسيادته، فإذا بالوطن المفدى بكل تلك التضحيات الجسام تنذر أوضاعه بشؤم مستطير عشية الاستقلال، ويدخل قادته في صراع مرير وصل إلى حد الاقتتال بالسلاح على السلطة وكراسي الزوال، وما أن انقشعت سحب تلك الصائفة المشؤومة 1962، وعادت الأوضاع نسبيا إلى المعتاد، وأمام تزاحم الأولويات لدولته الفتية، وصعوبة أحوال البلاد الاجتماعية، فكان أبوك أمام خيار صعب بين اختيار بقائه في الجيش لمواصلة خدمة بلاده من هذه المؤسسة، وبين الخروج للحياة المدنية ليتابع مشواره النضالي في صفوف جبهة التحرير. وكان الاختيار الأخير هو الذي استقر رأيه عليه، وكان يعرف أن الحياة العسكرية لا تلائم طبعه، ولا مزاجه، ولا تركيبته النفسية والفكرية التي تكره كل قيد أو تضييق، وخاصة بعد سنوات الاعتقال الطويلة التي عاشها مقيد الحرية والحركة معا، وكان حلمه مرسوما لا يحيد عنه مهما كانت الصعاب، هو مواصلة الدراسة ليتزود من معين العلم الذي حرم منه في شبابه، أو في غياهب السجون والمعتقلات، وما أن التحق بوظيفة التعليم، واجتاز امتحان الدخول إلى الجامعة، حتى تكشف له أمر مهول جلل، أمر ما كان يتوقعه، أمر خطير رهيب يعن عن التصديق، ويتجاوز قدرته عن التصور والخيال، وهو أن الجزائر العربية المحررة بمئات الألوف من الشهداء، لم تستقلَّ عربية بعد هزيمة الاستعمار، وخروجه كسيرا حسيرا، لم يخرج الخبيث حتى تركها قطعة من الفرنسة مظهرا عامة، ومخبرا لدى الكثير من أبنائها، كما قالها وقررها غداة احتلالها، وكنا نظن أنه يدَّعي ويزعم، نعم تركها من حيث مقومات شخصيتها خلخلة في الكيان ورطانة في اللسان، تركها قنابل موقوتة في المجتمع تنفجر في مواقيتها كما خطط لها، الجزائر العربية نخبتها مفرنسة تحريرا وتعبيرا، قيادتها مفرنسة، إدارتها مفرنسة، تعليمها، إعلامها، محيطها، أسماء مدنها وقراها، أسماء شوارعها وأحيائها مفرنسة، أين رمزية الشعب الجزائري وكينونته؟ أين مقوم شخصيته وانتمائه الثقافي والحضاري؟ أين عنوان السيادة المستردة إن لم تكن لغته العربية، اللغة الوطنية والرسمية هي لغة المخطوب والمكتوب، لغة العمل والتعامل، لغة العلم والتعليم، لغة الدولة في كل مرافقها، ولغة الحياة في كل مناحيها، ولغة المحيط في كل مظاهره، من أسماء القرى والمدن، إلى أسماء الشوارع والأحياء، إلى يافطات الدكاكين والمحلات؟ أين كل ذلك، إن لم يُكتب بحرف الضاد، ولا يسمى إلا من مسمياته؟ * .. يتبع. *