على الصورة المناضلات الفرنسيات والإيطالية اللائي عملن لصالح الثورة الجزائر ثلاثة وجوه، ثلاثة قصص من الزمن الجميل من زمن النضال والإيمان بالقضية في نبلها وإنسانيتها... هن ثلاثة نساء آمنّ بالجزائر فدافعن عنها واخترن الاستقرار بها بعد الاستقلال... في وجوهن كل الصدق والنبل والحب والوفاء. * * عود فضل تعرفي عليهن، إلى الباحثة الشابة عبير شهرزاد، أصيلة مدينة قسنطينة، التي كانت بصدد الإعداد لكتاب حول مجاهدات ومناضلات ثورة التحرير، كان لها صبر أيوب في طرق أبواب التاريخ والبحث عن تفاصيل الحكايات معها، دخلت دهاليز مدينة الجزائر واكتشفت أننا نعيش على مرمى حجر من الذاكرة، دون أن نعير لها الكثير من الاهتمام... لم يكن لي صبر عبير ولا رغبتها الجامحة في خوض غمار التاريخ، لكن الدخول لعوالم هؤلاء النسوة أمر يستحق فعلا العناء، خاصة عندما نكتشف أن هذا الوطن أدار لهن ظهره، بعد كل الذي قدمنه وهن اليوم أسيرات العزلة والتهميش... * * جاكلين نيتر قروج: "اخترت أن أكون جزائرية بإرادتي" * وجه مازال يحتفظ ببعض ملامح الطفولة وتقاسيم البراءة رغم وقع السنين والعزلة والمرض... بصوت منخفض استقبلتنا جاكلين قروج ذات يوم ربيعي بمنزلها بحي تليملي، كنت رفقة عبير، التي جاءت للتدقيق في بعض المعلومات التي تخص كتابها... البيت هادئ، لا أحد رفقة السيدة التي تشق الخطى نحو عامها التسعين، غير القطط التي تملأ المكان جلبة وضوضاء تخفف من وحدة تلك المرأة، التي اختارت أن »تكون جزائرية بإرادتها«... كانت تحدث عبير بصوت متقطع وهي تضع بعض اللمسات على قصتها، التي سترى النور قريبا في كتاب شابة من جيل الاستقلال، فجأة وصل زوجها السابق فقط ليطمئن عليها، عندما يكون مارا من العاصمة »افترقنا بناءً على رغبتي وإرادتي، والآن أعيش في هذا البيت الذي تركه لي«... كانت فرصة لنستعيد مع السيد قروج بعض ذكريات الثورة والكفاح. في عيون جاكلين، كانت تبدو لي بقايا قصة عصية عن الحكي، ثمة جرح ما وقصة ما، لكنها كانت تداريها في تحديقها بصورة أبنائها الخمسة وأحفادها المثبتة على الجدران، كانوا دليل نجاحها وصلتها بهذه الأرض، التي آمنت بها حد الجنون... جاكلين مازالت إلى هذه السن، تحب الأطفال وتتلمس في جيران الحي الأنس والحب »أجمل شيء أن نحب الناس بدون حسابات«... »لو أن التاريخ عاد بي إلى الوراء، لاخترت ذات الطريق... بالنسبة إلينا، كان استقلال الجزائر إيمانا ويقينا... وقد قررت الاستقرار بها لأني أحبها«. بهذه الجملة أجابت جاكلين عبير، لما سألتها عن اختياراتها السابقة، التي أرادت أن تغرسها وتخاطب بها جيل الاستقلال في كتابها الوحيد »دواوير وسجون«، والذي روت عبره قصتها منذ اليوم الذي حطت به الرحال في الجزائر سنة 1948، إلى غاية الفجر الذي رأت فيه الحرية وودعت السجون غداة استقلال الجزائر... وقبل هذا التاريخ الذي سجل جاكلين كجزائرية، بعد أن نجت من المقصلة، حيث كانت إحدى اللواتي حكم عليهنّ بالإعدام بعد إلقاء القبض عليها رفقة زوجها في جانفي 1957... بداية احتكاكها بمعاناة الجزائريين، بدأت عندما وصلت إلى الجزائر رفقة زوجها بيير مين للعمل كمدرسة، حيث اكتشفت معاناة شعب مع الاستعمار والظلم اليومي، كان زواجها من المناضل عبد القادر قروج »مسئول سياسي سابق في الحزب الشيوعي«، الذي ارتبطت به بعد انفصالها عن زوجها الفرنسي، فرصة أخرى لانخراطها أكثر في صفوف النضال إلى جانب القضية الجزائرية، أين عملت تحت قيادة زوجها الجزائري كعميلة اتصال، المهمة التي آمنت بها »جيل«، الاسم الثوري لجاكلين إلى حد بعيد، ساعدتها في ذلك جنسيتها الفرنسية ومظهرها الأوروبي، الذي كان يسهل عليها مهمة التملص من السلطات الفرنسية... كانت جاكلين تقطع عشرات الكيلومترات مشيا على الأقدام، كي تحضر اجتماعات الحزب الشيوعي، وكانت جد سعيدة بذلك... لم يكن صعبا أبدا أن نلاحظ بقايا ذلك الزمن على وجه جاكلين »الفرنسية المثقفة والبرجوازية«، التي استطاعت أن تكسب ثقة القرويين ومجاهدي ومناضلي حزب جبهة التحرير، رغم أنها لا تتحدث العربية ... بعد الاستقلال، اختارت أن تبقى مناضلة وعضوا في جبهة التحرير وإلى غاية 1965... جاكلين كانت من بين الستة اللواتي حكم عليهن بالإعدام، ويوم صدور الحكم لحظات تستعيدها جاكلين وهي تروي لعبير قصة مأساتها »كان الخبر قد سبقني إلى السجن... ووجدت الأخوات بانتظاري... التفافهن حولي واحتضانهن لي، هون عليّ الحكم«... تنقلت بين عدة سجون أولها »بربروس ثم الحراش، الفونتيني، بوتيت روكيت، تولون، تولوز وأخيرا بو«، »لكن بربروس تواصل رواية جزء من ذاك التاريخ الجريح رهيب، أن يسقط رأس أحدهم فجرا دون أن تستطيع فعل شيئا من أجله... لم نشعر بالسجن إلا خلال الإعدام... لقد انتزعوا فيه أحشاءنا، لكننا صمدنا، وكنا نقتل الخوف بالغناء «... صدر بحقها عفو رئاسي تحت ضغط الرأي العام الدولي، استبدلت فيه عقوبة الإعدام بالأشغال الشاقة وكان عليها أن تواصل العيش والنضال وراء القضبان، وكانت شديدة الإيمان باستقلال الجزائر، التي آمنت بها وتشبثت بها كثيرا، رغم أن إطلاق سراحها تأخر عن زوجها بعد اتفاقيات إيفيان مارس 1962، لكنها وبرغم كل الظروف المعاكسة، اختارت أن تكون جزائرية بإرادتها ومارست جزائريتها عن قناعة وحب، ورغم أن أبناءها الخمسة اختاروا الاستقرار في فرنسا، فضلت »جيل« أن تبقى جزائرية إلى الأبد. * ونحن نودع هذه السيدة عند الزقاق الضيق لبيتها، ظل رجاء معلق بعينيها مثل دمعة على وشك الانحدار: هل ستعودين يوما لزيارتي؟ كان صعبا أن أقطع وعدا لمثلها، ونحن في شوارع مدينة تقسم كل يوم على شرف النسيان. * * * "ايليات لو" أو فاطمة الزهراء التي أسلمت من أجل الجزائر * جاءني صوتها عبر الهاتف هادئا ونديا، صوت يغالب زحف السينين ويصر على التمسك بالحياة: »بإمكانك أن تأتي لزيارتي رفقة عبير، مربحا بك«... لست أدري كم كنت خائفة أو مترددة في زيارة هذه السيدة، لكن إصرار عبير شجّعني على طرق بابها بحي »بانوراما« بأعالي القبة، فكانت دهشتي وصدمتي، من الحالة التي توجد بها مجاهدة قدمت كل ما تملك لأرض أحبتها حتى النخاع. * عند الباب استقبلتنا، تسبقها ابتسامتها وبساطتها، أفردت أمامنا دفاترها رغم التحفّظ البادي على ملامحها، لم أكن أصدق عبير كثيرا، عندما كانت تردد على مسامعي: »أن إيليات ملاك على أرض البشر«، لكنى مساء ذلك اليوم تأكدت أنها أكثر من ملاك، إنها قبس من نور الحرية على أرض الحرية، مازالت تحتفظ بتقاسيم الزمن الصلب وإرادة الكفاح في الحياة، أعدت لنا بنفسها قهوة المساء، وأصرّت أن تخدمنا بنفسها على طاولة جمعت ذوقا رفيعا لآليات بتقاليد القرويين البسطاء، التي ورثتها عن أمها الأسبانية. على الواجهة الأخرى تنام خزانة كتب احتوت أجمل المؤلفات ولوحات الفنانة التشكيلية »باية«، وعلى الجهة الأخرى، كانت صورة منتظر الزايدي في إطار مذهب تنظر إليها ايليات وتؤكد: »جلبتها هذا الصباح من عند المصور، الذي طلبت منه أن يكبرها ويضعها في إطار يليق بها، إنه صغيري العزيز، أشعر بالفخر لما قام به على وجه بوش اللعين«... لم يكن سهلا دفع هذه السيدة للحديث، قالت لي عبير بصوت منخفض، لأنها تعتبر نفسها ابنة هذه الأرض في تفاصيل حركاتها، إيمانها المطلق بما قدمته ومازالت لليوم تكافح وحيدة من أجل الحياة، كل أهل الحي يعرفونها ويحترمونها كثيرا، عادة ما تزورها شابة من الحي المجاور لتساعدها في بعض أمور البيت، خاصة وأنها أضحت مؤخرا لا تتردد كثيرا على السوق، بعد أن تراجعت صحتها كثيرا، تغضب كثيرا إذا قال لها أحدهم أنها فرنسية، كانت دائما تردد »الجزائر وطني وحياتي، فرنسا كانت مجرد عطلة... إيليات من مواليد حوش مزراني بئر توتة عام 1934، تعود أصولها للأقدام السوداء القادمة من أسبانيا، ورثت الشجاعة وحب الناس عن أمها، التي كانت تسير مزرعة ببئر توتة، وعنها أيضا ورثت التعاطف مع الحزب الشيوعي... مجازر 8 ماي 45، كانت صدمة ونقطة تحول عند إيليات: »أول صدمة تلقيتها كانت عام 1945... شهادات مروعة للناجين من فاشية الفرنسيين... كانت أمي قد استقبلتهم بمنزلها..«، انضمت إلى الكفاح المسلح غداة اندلاع الثورة وعمرها لا يتعدى 23 سنة، كانت مهمتها ربط الاتصال بين مختلف عناصر الجبهة، وكذا طبع وتوزيع المناشير ونقل البريد... عندما ألقي عليها القبض أفريل 1957، اقتيدت من طرف أصحاب القبعات الخضراء، ونقلت إلى فيلا سوزيني بقيادة الكابتن »فولك«، وهو المكان الذي اشتهر بالتعذيب وممارسة أشد أنواع التنكيل والتعذيب، باستعمال الكهرباء وأحواض الماء، وقد قضت فيه إيليات أربعة أيام بلياليها، قبل أن تحول إلى سجن بربروس، أين قضت سنتين، تقول عنها: »ولم أشعر يوما بالإهانة، شعرت بأني أقوى، لأني لم أكشف اسما واحدا ولا حتى عنوانا... لقد رأيت رجلا تكلم وكانت نظرته ميتة... لقد دمر«... * لم يكن سجن بربروس نهاية رحلة العذاب، بالنسبة لإيليات، بل لم تكن إلا بداية الانتقال من سجن الحراش (بداية 1958)، أين قضت ثلاث سنوات، ومنه إلى سجن لابوميت، وفي سجن رين، وضعت تحت المراقبة، ومنه فرت إلى الجزائر سرا، على ظهر باخرة بأوراق مزورة بمساعدة الحزب الشيوعي، ومن العاصمة إلى وهران، مسيرة نضال وكفاح، في حياة امرأة دونتها على المناشير الدعائية لصالح الثورة إلى غاية الاستقلال، الذي كان بداية أخرى لهذه المرأة وأي بداية؟ لقد أسلمت وتزوجت من مناضل جزائري وأنجبت منه طفلين، وصار اسمها فاطمة الزهراء. إيليات تحمل الآن الجنسية الجزائرية، تحفظ فاتحة القرآن، وتحاول حفظ آية الكرسي والكتابة بالعربية، وكثيرا ما تجدها مواظبة على القنوات العربية، رغم صعوبة فهمها لما يدور فيها من حديث... بعد الاستقلال، تعرضت إيليات لكل أنواع التهميش ونكران الجميل، حتى من أقرب المقربين إليها، لكنها تصرّ على تجاوز الظلم وتغفر لمن أساء إليها، وكل زادها في الحياة حب الناس لها وحبها لهم، تبرعت بكل أملاكها في بئر توتة، وتعيش في صمت وسط ناس حي بانوراما، مستحضرة قصص أبطال ثورة التحرير، مازالت تؤمن بقدرة هذا الوطن على صناعة الحياة، فيه عاشت وبه آمنت. * لم تكن لي شجاعة عبير، لأبحث أكثر في حياة إيليات، فرحت أستعير من كتابها عبارة النهاية: »كعملاق هذا الوطن سيتواصل وسيستمر... كعملاق... قدم سوداء... قدم حافية... سلطة الأرض...كل هذا حصل، لأني طفلة ركضت حافية الأقدام على أرض حوش مزراني... البلد...! إنه الشاب الوسيم الذي سحر الجماهير! الجماهير، إنها المرأة الناعمة والقوية... الصبورة والكريمة... لقد ولد باتحادهما ذلك العملاق... الجزائر الحبيبة... العملاق الذي أحبه... نعم أحبه وأدين له ببقائي... بالنسبة إلي، وطني هو الجزائر، حياتي بفرنسا كانت مجرد عطل قصيرة«. * * »جانين بلخوجة« طبيبة الثورة التي اغتالها يوسف شاهين وهي على قيد الحياة * شارع ديدوش بزحامه المعتاد، لم يكن البحث عن منزل جانين بلخوجة صعبا، المكان يبدو مألوفا جدا لعبير، في بهو العمارة وجدنا زوج جانين في انتظارنا، تقول عبير إنه كان دعما وسندا لها في إقناع جانين للإدلاء بشهادتها... * في بيت هذه السيدة الهادئة جدا، بدت لي رائحة التاريخ تكاد تقفز من الزوايا والجدران، أكوام من الكتب والوثائق على الطاولات وفي المكتبة، لا أحد كان يصدق أنها لاتزال على قيد الحياة، بعد أن اغتالها يوسف شاهين في فيلم »جميلة بوحيرد«... امراة على قدر كبير من الهدوء والرزانة والتحفظ أيضا... جانين هي ابنة باب الوادي، درست بكلية الطب بجامعة الجزائر، دخلت النضال النقابي وكانت مأخوذة بالحركة الوطنية، رافقت في نشاطاتها اتحاد الطلبة الشيوعيين وجمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا وكذا جمعية الطلبة الكاثوليكيين بالعاصمة... كما كانت رئيسة قسم العاصمة الخاص بالتعاضدية الوطنية للطلبة بفرنسا... اقتنعت مبكرا بالحل العسكري أمام استمرار الاستعمار، للاعتراف بشرعية الحقوق ومطالب الجزائريين، وتنفيذا لهذه القناعات، انخرطت بحزب جبهة التحرير الوطني (أكتوبر 1956)، ومارست النضال في السر، حيث كلفت بضبط الاتصالات بين مسئولي حزب جبهة التحرير والحزب الشيوعي، أين كانت تنقل المناضلين بسيارتها، وتحضر الاجتماعات وتعمل على نقل البريد وإرسال الأدوية للولاية الثانية. * مازلت جانين تذكر بفخر واعتزاز، التفاف العديد من التقدميين الفرنسيين حول الثورة، ودعم الجماهير الشعبية التي التفّت حول مشروع الاستقلال، الذي صاغه نضال مشترك بين كل الشرائح... ألقي القبض على جانين في شهر مارس 1957 من طرف الفيلق الأجنبي الأول للمظليين، وبفيلا سوزيني تعرضت للتعذيب بالكهرباء والماء تحت قيادة ومسؤولية »فولك«، ومن فيلا سوزيني إلى المفوضية المركزية، إلى سجن بربروس، كانت رحلة العذاب والتعذيب التي تحملتها جانين بشجاعة نادرة وإيمان بالقضية، ورغم أن المحكمة الفرنسية فشلت في إثبات إدانتها أثناء وقائع المحاكمة، التي جرت في 1957، واضطرت السلطات الفرنسية إلى إطلاق سراحها، ليعاد نقلها من السجن إلى المحتشدات، حيث تم نفيها إلى فرنسا ومنعها من دخول21 مقاطعة في الجزائر. كانت جانين شاهدة على العديد من مراحل النضال الجزائري، من قاعدة تونس إلى الحكومة المؤقتة... تعيش حاليا جانين رفقة زوجها السيد عبد اللطيف كسوس، مدير متقاعد بوزارة الصناعة، وهي أستاذة متقاعدة بكلية الطب بجامعة الطب، ولها عدة نشاطات في المجال الاجتماعي، حيث كانت عضوا بالمجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي... * جانين توصي الشباب بالبحث عن أصولهم التاريخية »الشباب الجزائري ليس مسئولا، إنه تقصير المتاحف والنظام التربوي، اللذين فشلا في إيصاله بالصورة الحقيقة والمعبّرة بصدق عن تاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية... وأنصح الشباب بسرعة البحث والاضطلاع على أصول تاريخهم، عليهم أن يصلوا مع أنفسهم إلى الحقيقة والكتابة التاريخية، لفرز المتناقضات الكتابية، لأن كتابة التاريخ ليست بالعملية السهلة، وهي تحتاج إلى إرادة قوية جدا." * * المجاهدة آني ستينر * في أول نوفمبر أشعل شمعة في بيتي وأتذكر كل الذين رحلوا * تضامن الأخوات كان دعما لنا في تجاوز محنة السجون * كنا نقدم دروسا في السجن وكنا نقول بعد الاستقلال سنبني الجزائر * سيدة هادئة، رقيقة، تحمل نظرات ثاقبة، تخفي وراء ملامحها السمحة قلبا شفافا يذوب عشقا من اجل الجزائرا تدمع عيناها عديد المرات عندما يخاطبها الناس في الشارع "هل تعيشين في الجزائر منذ مدة طويلة" في هذه اللحظات تكاد آني تعتذر عن وجودها بينهم وهي ابنة الجزائر العميقة ابنة حجوط وبوفاريك والبليدة وسيدي بلعباس أين كان والدها مديرا للمستشفى وهناك توفي وهو في سن الأربعين حيث عاشت آني تجربة اليتم وهي طفلة لم تتجاوز سن الثالثة عشر، وعادت آني على أثرها إلى مدينة الورود البليدة التي عرفها جدها الذي امتلك بها استوديو تصوير "كنت أتمنى لو سألت جدي ووالدي لماذا جاءوا إلى الجزائر، تمنيت ذلك فعلا لم أجرؤ يوما أن اطرح هذا السؤال لأن الأطفال لم تكن لهم شجاعة طرح الأسئلة على الكبار، ربما جاء بحثا عن الشمس والضوء الذي يعشقه عادة المصورون" بثانوية بوفاريك زاولت آني دراستها على جدران تلك الثانوية أسماء عديد الشهداء والمجاهدين امثال محمد يزيد، علي بومنجل وبن يوسف بن خدة يومها اختارت آني اللغة العربية كلغة أولى إلى جانب اللاتينية "لم يكن الاوروبيون وأبناء الأقدام السوداء يختارون العربية كلغة للدراسة، كنا 3 اوروبيات و3 جزائريات، كنا طبعا أبناء الطبقة البرجوازية أبناء أطباء البليدة، لأن التعليم لم يكن مفتوحا أمام أبناء البسطاء" ما تزال آني تذكر أستاذها "حاج زروق" بكثير من الحنين والاعتراف بالجميل. * جاءت آني إلى العاصمة وهي مراهقة ابنة 17 سنة حيث انتسبت إلى جامعة الجزائر ومنها تخرجت باللسانس في الحقوق وعملت بعدها في المراكز الاجتماعية، كان هذا في حوالي عام 1949، آني لا تذكر جيدا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة كانت يومها لا تتجاوز الواحد وعشرين سنة، في عام 1951 تزوجت آني فييوريو وهو اسمها الحقيقي من رجل سويسري وصار اسمها آني ستينر وولدت أولى بناتها في عام 1953 والثانية في عام 1955 وبينهما كان التاريخ العظيم والكبير لدى آني ثورة أول نوفمبر 1954، آني لا تريد الحديث إلا عن هذا التاريخ لأن فيه عاش الكبار الذين وقعوا أسماءهم بأحرف من ذهب ووقعوا معهم شهادة ميلاد بلد وأكبر ثورة في القرن العشرين، كان قرارا شجاعا وصعبا، لأن من فجروا الثورة كانت تلزمهم الشجاعة وبعض الجنون ليفكروا في تحد اكبر وأعتى قوة يومها، ما تزال آني اليوم وبرغم ما عاشته من خيبات ومن تجارب الزمن وفية لهذا التاريخ "أتذكر أول نوفمبر، انتظر منتصف الليل وأشعل شمعة في بيتي، وأتذكر وأفكر في كل الذين رحلوا من اجل هذا التاريخ." * عندما اندلعت الثورة لم تكن آني تعرف أحدا من القادة، ولم يتصل بها احد، بل هي من طلبت الاتصال بالثورة في ديسمبر 1954، واستغرق الرد ليأتيها سنة كاملة في 1955 آني لا تعتقد أن ما فعلته كان كبيرا "إذا ما استطعت أن افعل ما فعلته فلأن اسمي لم يكن معلنا على قوائم البوليس الفرنسي، ربما لكوني أوروبية لم يشكوا بي" تواضع هذه المرأة جعلها لا تكبر أفعالها وما قدمته للثورة رغم أنها كانت في مواقع جد حساسة، كانت في مخبر بئر خادم لصناعة المتفجرات لصالح الثورة، كانت مع الإخوة تمسي قابي دانيال ميليار كانوا ثلاث إخوة أطباء، عرفت آني أيضا جورجيو وحسيبة بن بوعلي إلا أنها لا تحبذ كثيرا الحديث عن الأسماء "لا أعطي أسماء، الثورة صنعها العمل الجماعي وليس الأفراد، المجهولون الذين لا احد يتحدث عنهم اليوم قدموا أكثر من نفس الأسماء التي تعود في كل مرة". * استمرت آني في صناعة القنابل لصالح الثورة إلى أن ألقي عليها القبض في أكتوبر من عام 1956 حيث تم توقيفها في بيتها حيث اقتيدت إلى سجن بارباروس وتمت محاكمتها في نهاية ماي 1957 "سجن بارباروس كان رهيبا، كان يعني التعذيب تنفيذ التعذيب فقط" كانت أول امرأة تتم محاكمتها أمام محكمة عسكرية كسجينة سياسية رغم انه لم يعترف لها بهذه الصفة إلا بعد سلسة من الإضرابات عن الطعام وتمت إدانتها ب 5 سنوات سجنا لأنها تحدت رئيس المحكمة العسكرية وأدلت بتصريحات سياسية من سجن بارباروس والحراش، تم تحويلها إلى سجن البليدة لدواعي متعلقة بالسلوك، وهناك وضعت في زنزانة منفردة بدون أي شيء لمدة 3 أشهر في ديسمبر 1957، وهناك قادت إضرابا عن الطعام في هذا السجن، تم توجيه آني إلى العمل في صناعة الحلفة على عكس الفرنسيات اللواتي يوجهن للعمل في ورشات الخياطة، من البليدة نقلت آني مرة أخرى إلى سجن الحراش من اجل نقلها إلى فرنسا أين تنقلت بين عدة سجون منها لبتيت روكات غال وسجن بو الرهيب، وهناك عرفت آني عدة مجاهدات أخريات أمثال جاكلين قروج، جميلة بوحيرد، الجوهر اقرور وأخريات"استقبال الأخوات كان رائعا" تقول آني "بفضل التضامن والمؤازرة التي كانت بيننا تمكنا من تجاوز محنة السجن وتغلبنا على أصعب اللحظات، كنا نقدم دروسا في السجن لأننا كنا نقول دائما في الاستقلال عندما نحرر البلد سنبني الجزائر". * ربما ليس سهلا أن نصدق أن خلف المظهر الهادئ لتلك المرأة تعيش مأساة ما تزال آثارها في قلبها ماثلة إلى اليوم، ومن الصعب نسيانها، وكيف يمكن لأم أن تنسى أنها حرمت من بناتها، من فلذات كبدها، لكنها واجهت القرار بشجاعة نادرة عندما تحدت رئيس المحكمة الذي قال لها "لا اصدق أن هذه المرأة أم" فأجابته بقصيدة شعرية كتبتها في ليل السجن "هذه المرأة ليست أم قال السيد الرئيس.. هل جربت أن تقع عيناك على بؤس الأطفال؟ هل جربت أن ترى عيناك بؤس وشقاء الأجساد.. هل يمكنك أن تنام سيدي الرئيس هذه المرأة أم وأكثر من أم سيدي الرئيس" تلك القصيدة التي تستعيدها آني والدموع تنام خلف عينيها تذكرها بناتها "كنت محظوظة لأنني على الأقل رأيت بناتي بعد خروجي من السجن، لكنني فكرت في كل أطفال الشهداء الذين لم يروا أبناءهم إلى الأبد". * هكذا هي آني شعلة من الإنسانية لم تنطفئ يوما، حاولت أن تسترجع بناتها وذهبت خلف حلمها إلى سويسرا لكنها لم تتمكن ونامت على أوجاعها بصمت دون أن تنساهن يوما، آني سيدة من الطراز الرفيع، قضت بعد الاستقلال 30 سنة من الخدمة في سكرتارية جهاز الحكومة الجزائرية في مصلحة التشريع، عرفت أناسا وعايشت مراحل لكنها دوما متواضعة، وتصر أن ما قدمته لم يكن شيئا يذكر، ما تزال تحتفظ في تفاصيل وجهها بالإصرار على الكرامة والعزة منذ زمن السجون "كنا نذهب للمحاكمات ونحن على آخر شياكة حتى لو اضطررنا لنستعير ثياب بعضنا فقط حتى لا نطلب رحمة المستعمر". * هكذا هي اني ما تزال تؤمن بالغد الأفضل رغم أن جيلها كانت له أحلامه وطموحاته في الاستقلال، وإن كان الاستقلال الذي حلم به ذلك الجيل الرفيع من البشر لا يشبه استقلالنا اليوم في شيء" لم يكونوا يردون استبدال الكولون بكولون آخرين، فقد ذهب جون وفرنسوا وبيار وجاء احمد ومحمد...". *