يلاحظ المرء الخلط الشائع والمتكرر بين مصطلح الحداثة ومصطلح الحداثية في الكتابات السياسية الفكرية، وفي النقد الأدبي، وفي حقول العلوم الانسانية الأخرى سواء في الجزائر أو في الدول المغاربية الأخرى، أو في البلدان المشرقية. كما تحفل هذه الكتابات بنزعة اعتبار الحداثة Modernity مرحلة تاريخية ايجابية مطلقة في تاريخ البشرية وعنوانا كليا وشاملا للتقدم السياسي والاقتصادي، وللتنوير الاخلاقي والاجتماعي، وفي مجال العلاقات الدولية. أما الحداثية Modernism فتنظر إليها معظم التحليلات والدراسات العربية بأنها التجلي الثقافي والفني الطليعي للحداثة الأكثر انتصارا لتعددية المنظورات والاختلافات والتنوعات، ولكن هذا النوع من الفهم لكلا المصطلحين يشوبه الكثير من القصور وعدم التمحيص والدقة. في هذا السياق نجد الباحث الجزائري، والوزير السابق للتعليم العالي والبحث العلمي لدكتور مصطفى الشريف يحاول في كتابه الذي يحمل عنوان: (الإسلام والحداثة : هل يكون غدا عالم عربي؟) أن يقرأ فيه الحداثة الأوروبية / الغربية قراءة نقدية في علاقتها بالإسلام. وبهذا الصدد فإننا نجده يسعى إلى تحقيق هدفين ويتمثل الأول في إظهار المشكلات والتناقضات التي تطرحها هذه العلاقة وفي الوقت ذاته فإنه ينبَهنا إلى أن آليات وأهداف الغرب المعاصر تتمثل في فرض سيطرته على شعوب العالم الثالث، أما هدف الدكتور مصطفى الشريف الثاني الذي يسعى إلى تجسيده فيتلخص في البحث عن ملامح بديلة للحداثة الغربية. لاشك أن الدكتور مصطفى الشريف قد طرح في كتابه هذا أفكارا كثيرة تستحق النقاش فعلا وذلك من أجل تحليلها تحليلا نقديا بقصد توسيعها وإثرائها. أبدأ الآن في النظر في مشكلتين مركزيتين تحتاجان في رأيي إلى التحليل والتوضيح وهما مشكلة عدم التحديد الكافي في كتاب الدكتور مصطفى الشريف لمصطلحين أساسيين وهما مصطلح الحداثة، ومصطلح الحداثية أو الحداثوية كما يحلو لبعض المفكرين والنقاد العرب على تسميته، ومشكلة شحَ إبراز الجذور التاريخية لنشأة الحداثة ومكوناتها وأبعادها المؤسساتية، وأبعاد وأسباب عولمة هذه الحداثة خارج جغرافيات العالم الغربي، وفي الجزء الثاني من هذا المقال سأناقش أفكار الدكتور مصطفى الشريف المتصلة بعلاقة الاسلام بما في ذلك إسلام الجزائر بالحداثة الأوروبية / الغربية بنتائج وتداعيات مضامين وأشكال ومؤسسات الحداثة الأوروبية / الغربية ومنطقها الثقافي والفكري والفني وشتى عناصر البناء الفوقي الذي يصطلح عليها مجتمعة بالحداثية أو بالحداثوية. من الملفت للنظر هو أنَ الدكتور مصطفى الشريف لا يناقش تفاصيل أسس ومؤسسات ظاهرة الحداثة الأوروبية / الغربية وكذا تجلياتها في الممارسات السياسية والاجتماعية والثقافية وهلم جرا، كما أنه لا يعيَن بالتفصيل جغرافياتها وتاريخ نشأتها وتطوراتها. إلى جانب هذا فإنه لا يرسم حدود التمييز بين مصطلحين مهمين وأساسيين وهما مصطلح "الحداثة" Modernity ومصطلح "الحداثية" Modernism علما أن عدم إبراز الجذور التاريخية لميلاد وكذلك تطور وانتشار ظاهرة الحداثة وأسسها ومؤسساتها، وأن عدم توضيح الفرق الجوهري بين هذين المصطلحين أمر سيؤدي بنا إلى الوقوع في شرك سوء فهم دلالاتهما المختلفة من جهة وإلى ضحالة إدراك الحداثة نفسها كمرحلة وكشرط تاريخي من جهة ثانية. وفي الواقع فإن توضيح هذين المصطلحين مرهون باستيعاب كل من التاريخ الغربي والفكر الغربي معا ضمن الواقع الذي أفرزهما، وعلاقة هذا التاريخ وهذا الفكر بالمجتمعات التي أقام معها الغرب علاقتي المثاقفة أو المصادمة. على صعيد الفكر مثلا، هناك الكثير من المرجعيات والمقاربات منها مقاربة المفكر الراحل مدان صاروب الهندي الأصل الاستاذ سابقا بجامعتي كمبريدج، ولندن الذي يرى أن الجذور التاريخية للحداثة الغربية Modernity قد بدأت في عصر النهضة الأوروبية (أي من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر الميلادي) واستمرت في العالم الغربي حتى انفجار أفكار ما بعد الحداثة في أواخر القرن العشرين. ومن جهة أخرى فهو يؤكد أن الحداثة تعني تقدم العقلنة الإدارية والاقتصادية وتمايزات العالم الاجتماعي أي التفريق بين الأخلاقيات وبين المجالات النظرية. وفضلا عن هذا فإنَ مدان صاروب يعرَف "الحداثية" Modernism بأنها مجموعة من الأساليب الجمالية والثقافية التي ميزت الحركات الفنية والأدبية منذ بداية القرن العشرين وما تزال تمارس حضورها إلى الآن. في هذا السياق، نجد عالم الاجتماع البريطاني أنثوني غيدنز، المعروف بكونه أحد كبار عرَابي ما يدعى بالطريق الثالث في الاقتصاد وتنظيم الحياة السياسية وبالديمقراطية الاجتماعية في الدول الرأسمالية المتطورة، ينطلق في تعريف الحداثة على أساس تناقضها مع الموقف التقليدي ولكنه يلاحظ، بحصافة، أنَه يمكن لنا أن نجد في نسيج العالم المدعو بالحديث المعقد بداخل الفضاء الأوروبي / الغربي جملة من العناصر التقليدية التي تتجاور مع العناصر الحديثة ويعطي مثالا لتبرير حجته وهو وجود الثقافات الشفوية إلى جوار العلوم والثقافات الأكثر حداثة في مجتمعات هذا الفضاء . وفي الوقت نفسه نجد غيدنز يحدد الأبعاد الديناميكية للحداثة ونوردها هنا باختصار كما يلي: 1 فصل الزمان والفضاء، 2 تطوير فكَ دمج الميكانيزمات، 3 التخصيص الانعكاسي للمعرفة، الذي يوفر وسائل تضمن دقة الزمان والفضاء لتحديد المنطقة، أما دور البعد الثاني فيعني عنده باختصار شديد أيضا إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية عبر المسافات الزمانية الفضائية الواسعة في حين أنَ البعد الثالث يتمثل في تقديره في إنتاج المعرفة المنهجية لما يتصل بالحياة الاجتماعية التي تصبح مكملة لنظام إعادة الإنتاج ولإبعاد الحياة الاجتماعية عن ما يدعوه بالتثبيتات التقليدية. حسب أنثوني غيدنز هناك أبعاد مؤسساتية للحداثة ينبغي أخذها بعين الاعتبار لأنه بدون ذلك يصعب علينا أن ندرك جيدا الأسس المكونة لها وكيف تعمل هذه الحداثة في الميدان العملي. ونذكر بعض هذه الأسس التي يحددها ويصنفها كالتالي: 1 الرقابة ( ضبط المعلومات والإشراف الاجتماعي )، 2 الرأسمالية (مراكمة الرأسمال في سياق منافسة العمل وإنتاج الأسواق)، 3 التصنيع (تحويل الطبيعة : تطوير البيئة المبدعة) و4 القوة العسكرية (ضبط وسائل العنف في سياق الصناعة الحربية). كما نرى فإن هذه المؤسسات ترتكز بالدرجة الأولى على الرأسمالية وعلى التصنيع ورقابة المعلومات كما نفهم أن الحداثة بالمعنى الذي حدده "أنثوني غيدنز" لا يمكن إدراكها كمفهوم من دون إدراك الأساس الرأسمالي الذي يعتبر روحها والطاقة الحاسمة التي تدفعها إلى الأمام.. هنالك أيضا أبعاد أخرى للحداثة الغربية مثل البنيات الفوقية التي تتأسس على فكرة التقدم في التاريخ، والذات الحرة العاقلة، وفصل الدين عن الدولة، نظام الدولة - الأمة التي تعمل وفق نظام تداول السلطة في إطار التعددية الحزبية ووفق آليات الاقتراع الحر. إذا كانت الحداثة هكذا فكيف تعاملت وتتعامل معها مجتمعاتنا وهل يوجد مشروع لنا يمكننا من إيجاد بديل لها كما يقترح الدكتور مصطفى الشريف؟