لم يكن من شاغل يؤرق "خالتي حدة بوطغان" في أواخر شهر رمضان سوى انتظار ابنها الصغير وقرّة عينها "فاروق" الذي غادرها منذ سنة للدراسة في أوكرانيا ووعدها بالعودة، بمبلغ مالي يمكنها من أداء مناسك العمرة خلال المولد النبوي الشريف القادم، ظلت خالتي "حدة" تسابق أيام رمضان بعد أن وعدها فاروق بالعودة الى"الدوار" قبل عيد الفطر، وكان فاروق فعلا في الموعد، فقد عاد نهاية الأسبوع الماضي، لكنه لم يحضر لوالدته هدية العمر "العمرة"، لأنه عاد في صندوق. * ما الذي حدث ولماذا حدث؟ أسئلة حاولنا فك ألغازها عندما تنقلنا زوال الخميس، الى مشتة واد يعقوب الواقعة قرب بلدية واد سقان بولاية ميلة، فكان من الصعب الحديث مع والدة فاروق التي مازالت لم تتجرع المأساة بعد، فناب عنها ابنها الأكبر وعدد من أقارب وأصدقاء فاروق. * ولد المرحوم فاروق، واسمه الحقيقي حسني بوطغان في الثاني من فيفري 1981، تمكن من إسقاط كل الامتحانات الدراسية بالضربة القاضية، انتهاء بشهادة البكالوريا، ولأنه عاشق متميز للرياضة انتسب لمعهد التربية البدنية بقسنطينة، فأنهى دراسته الجامعية عام 2005، فاشتغل مستخلفا في بلديته ثم شارك في مسابقتين بقسنطينة والعاصمة لأجل الدراسة في أوكرانيا وكان ضمن المتفوقين، ولأن الدولة ساهمت في تذاكر السفر، فقد جمع حوالي 15 مليونا وسافر في أكتوبر 2007، ولا شيء يشغله سوى العودة قويا، وتحقيق الوعد الذي تعيش لأجله والدته، وهو زيارة الأراضي المقدسة، الغريب أن "فاروق" لم يسبق له أن غادر بلدته، ولم يمتلك أبدا جواز سفر، فكانت أول رحلة خارجية في حياته هي سفرية روما ومنها إلى كييف عاصمة أوكرانيا، لينزل في مدينة خاركيف التي يوجد بها أكبر معهد للتربية البدنية في شمال أوربا، وهي المدينة التي مرّ عبرها كبار رياضيي العالم مثل لاعب الكرة الأسطورة أوليغ بلوخين ولاعب القوى الأسطورة سيرجي بوبكا بطل كل الأزمان في القفز بالزانة، نزل فاروق بخاركيف في أكتوبر 2007 وبدأ دراسة اللغة الروسية، ونال تقدير أساتذته الذين راسلوا أهله اعترافا بتفوق فاروق وأخلاقه، ما أدى الى إجبار معلميه على احترامه وتمنوا جميعا أن يبقى مفخرة لأهله ولبلده »الشروق تحصلت على وثيقة اعتراف تشرف كل الجزائر«، وهذا باعتراف رئيسة اللغة الروسية »تاتيانا إفانوفا« ونائبة مدير الكلية التحضيرية آنايوريفنا وبعد نجاحه في دراسته واستهلاكه لكل المبلغ الذي اصطحبه معه رفض العودة الى أهله من دون أن يحقق حلم والدته، فسار الى جزيرة (إشبيليا) الساحلية والسياحية واشتغل نادلا في مطعم سوري يقدم شواء حلب و"الشوارمة"، فكان يعمل الى غاية الفجر، وكلّم أهله في الجزائر قبل رمضان وطمأنهم بأنه سيعود قبل العيد ليؤدي صلاة تراويح الأيام الأخيرة ويفرح مع والديه وإخوته بالعيد، ويشارك في حفل زفاف شقيقه بداية شهر أكتوبر، الى أن وقعت الواقعة، كما رواها ابن خالته "نوح بن حمادي" الذي كان رفقته في أوكرانيا (متواجد هناك منذ ثلاث سنوات لدراسة الإعلام الآلي)، قال نوح: »بينما أغلق صاحب المطعم السوري أبواب محله وهم فاروق بالمغادرة حضر فريق كرة قدم محلي كان معظم لاعبيه في حالة سكر، منهم من كان يحمل زجاجات الخمر، في يديه وطالبوا فاروق بأن يقدم لهم الأكل، فأكد لهم أن المطعم أغلق أبوابه، فاستفزه بعضهم وضربه أحدهم بزجاجة الخمر، فأصيب على مستوى الرأس وانتهت المشاجرة بعد تدخل أناس من خارج العراك، وعاد فاروق الى غرفته، حيث يوجد معه عاملان جزائريان في الجزيرة، لكن أوجاعا أفقدته وعيه، فاتضح أنه يعاني من نزيف داخلي في الدماغ، فتم نقله الى مستشفى الجزيرة، وعندما أعلم ابن خالته السفارة الجزائرية في أوكرانيا تكفل السفير بحالته، فنقله الى أكبر المستشفيات وصار يسأل عن أحواله باعتراف أهل فاروق الذين ثمنوا موقف السفارة وكل الجالية الجزائرية التي واكبت مرض فاروق معنويا وماديا الى أن فارق الحياة يوم الأربعاء 17 سبتمبر الحالي، وواصلت سفارتنا في كييف موقفها الإيجابي مع فاروق، حيث تم تغسيله وتكفينه واتخاذ كامل الإجراءات لنقله من كييف الى اسطنبول الى الجزائر العاصمة، ثم الى قسنطينة، وكان الى جانب جثمان فاروق ابن خالته (24 سنة) ولم يتوقف دور سفارتنا عند هذا الحد، بل وكّلت محاميا أوكرانيا، وتم تحديد القاتل الأوكراني وهو قابع حاليا في السجن، بينما ستبين نتائج التشريح بعد 45 يوما سبب الوفاة الحقيقية، حيث بالإمكان توريط المستشفى، لأن حالة فاروق تحسنت، لكنهم نزعوا القناع الصحي من على رأسه، فعاد النزيف وتوفي. * المصادفة أن فاروق عانى من جرح في اصبعه في رمضان 2006، فمكث عشرة أيام في مستشفى قسنطينة وعانى من وجع في المعدة في رمضان 2007، فمكث أسبوعا في مستشفى قسنطينة، ثم عانى في رمضان 2008 من اعتداء أدخله المستشفى ولم يخرجه سالما، والمفارقة أن فاروق الذي له والدة وأب فلاح متقاعد وستة أخوة ذكور وأربع بنات هو الوحيد الذي دخل الجامعة، فكان أصغر الإخوة سنا وأكبرهم علما، كما كان أملهم، خاصة الوالدة التي بكت كثيرا عندما غادرها للدراسة في أوكرانيا ويمكنكم تصور حالتها عندما عاد إليها جثة هامدة، وبدلا من أن يمنحها تذكرة سفر الى العمرة سافر لوحده الى الدار الآخرة.. كانت تحلم أن يأكل من يديها في أواخر الشهر الفاضل، وهو الذي لا يشتهي الطعام إلا بإمضاء من والدته التي حضّرت له بعض الحلوى ليأخذها معه الى أوكرانيا.... ولكن!! * أغرب ما شاهدناه لدى عائلة بوطغان أن ابن خالة فاروق استقدم معه أشياء المرحوم ومعها محفظته وعندما فتحها أهله وجدوا صفحة من جريدة تعود الى 17 رمضان 2007، ولم نستطع فهم لماذا احتفظ الراحل بهذه الصفحة ولماذا أصلا أخذها معه الى أوكرانيا، أغرب ما قرأناه في هذه الصفحة الرمضانية هو أسماء مشاهير ماتوا في 17 رمضان ومنهم عائشة أم المؤمنين ورقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، والحجاج بن يوسف، واستشهاد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ما يدهش فعلا أن فاروق أيضا رحل عن الدنيا في 17 رمضان. * كل شيء بقي في حقيقته شهادات نجاحه، صوره وصفحة الجريدة التي تتحدث عن مشاهير الإسلام الذين ماتوا في 17 رمضان كل شيء بقي كما هو إلا فاروق، فقد رحل ولن يعود.