انتعشت أسواق المال والنفط من جديد وسط الأسبوع الجاري دون أن تتمكن من استرجاع المستويات السابقة، وذلك بمجرد أن تكفلت الحكومات في مختلف أنحاء العالم بالتدخل مباشرة لإنقاذ المصارف الكبرى من الإفلاس سواء عن طريق الاستحواذ على جزء من رأس مال تلك المصارف أو بمدها بالسيولة اللازمة لمواصلة عمليات الإقراض. * وهكذا تجاوزت جميع البورصات في العالم الخطوط الحمراء وانتقل بعضها من تراجع في المؤشر قدره 10٪ الى ارتفاع تجاوز 8٪ خلال يومين. فماذا يعني ذلك من منظور الأزمة؟ وهل يمكن اعتباره بداية لإنقاذ حقيقي للاقتصاد العالمي؟ * * البورصات وسلوك أسراب الطيور * * عندما أعلن بنك »ليمان بروذرز« إفلاسه، سلك جميع حملة الأسهم في البورصات العالمية سلوك أسراب الطيور عندما تغيّر المقدمة اتجاهها، وهكذا طغت أوامر الشراء على عمليات التداول وخسرت الأسهم أسعارها بغض النظر عن قيمتها الفعلية. ونفس الشيء يقع الآن بفعل خطط الإنقاذ التي أعلنت عنها بعض الدول الأوربية ولكن بالاتجاه المعاكس وتستعيد حاليا بعض الأسهم القيادية في البورصات العالمية بعض مكاسبها تحت ضغط أوامر الشراء المدعومة بالسيولة التي قاربت في أمريكا ألف مليار دولار وفي أوربا 3 آلاف مليار دولار ومن المتوقع أن تتجاوز خطط ضخ السيولة في العالم 10 آلاف مليار دولار وربما تصل إلى 13 ألف دولار؛ رقم مهول يتجاوز الناتج المحلي الخام للعالم كله. ودون الدخول في تفاصيل الأرقام وأحجام التدخل النقدي لكل دولة من الدول المعنية بنشاط أسواق المال في أمريكا وأوربا وآسيا والخليج العربي، فإنه بالإمكان تأكيد الأثر قريب المدى لسياسة عرض النقود في ظل قرارات التداول المبنية على التحليل الفني. وبالفعل وكما تدفع توقعات شح السيولة الأسهم إلى التراجع، فإن وعود عرض النقود يدفع بقرارات الاقتراض وتسمح معدلات الفائدة المتدنية من الإقبال على الشراء كي يرتفع المؤشر من جديد وهو ما يقع الآن بالضبط. ويشارك في أوامر الشراء المدخرون الصغار وشركات الاستثمار ومؤسسات التقاعد والصناديق السيادية للدول، وأهم متدخل في البورصة اليوم هم المضاربون في الأسهم والجميع يتبع سلوكا واحدا سلوك أسراب الطيور. * * النقود الوهمية تطرد النقود الحقيقية * * توصف خطط الإنقاذ التي باشرتها الحكومات بخطط تشجيع الاقتراض وهي العملية الأساسية في حركية الاقتصاد الرأسمالي، خاصة عندما تجاوز الائتمان نطاق الاستثمار المباشر إلى تمويل مشتريات الأسر المختلفة أي قروض الاستهلاك والقروض الشخصية. وعندما تتعطل عملية الإقراض يتوقف النظام الاقتصادي الرأسمالي برمّته عن العمل، إذ تشكل فوائد البنوك أساس التراكم الرأسمالي الحديث. ولهذا وبمجرد أن أوشكت البنوك الكبرى على الإفلاس تحركت الحكومات الغربية كلها وهو ما لا تفعله عادة عندما يتعلق الأمر بالمؤسسات الاقتصادية الأخرى. ويسود الاعتقاد وسط الملاحظين بمحدودية هذا التحرك من حيث الآثار على المدى المتوسط مادامت الآليات المتبعة لحد الآن لا تخرج عن نطاق اللجوء للديْن العام من خلال السياسة النقدية؛ دين يحسب بآلاف المليارات من الدولارات لا يقابله سوى وعود بالانتعاش واستحواذ دافعي الضرائب على أسهم بالبنوك قد تهتز أسعارها من جديد وفي أية لحظة مما يضع خطط الإنقاذ المذكورة أمام مخاطر جمة ويسرع من نهاية النظام الرأسمالي. * إن مشكلة الرأسمالية في جانبها المالي تكمن في تحول النقود بين يدي المصارف من النقود الحقيقية القائمة على الثروة والإنتاج الفعلي إلى نقود وهمية مبنية على الأوراق المالية ووعود المقترضين بسداد القروض في مستقبل لا يتصف بالضرورة بالتأكد. وفي حالة توسع الإقراض بدفع من معدلات الفائدة العالية، تتوسع نسبة النقود غير المضمونة إلى النقود الحقيقية كي تختفي هذه الأخيرة من الأسواق وتشح السيولة. * * نظرية التأميم تعود من جديد * * وإلى جانب ضخ السيولة لرفع حجم الكتلة النقدية في الأسواق، بغض النظر عن الآثار المخاطرة لذلك، مثل رفع سقف التضخم وتراجع قيمة العملة، تعمل الحكومات المعنية بأزمة أسواق المال في اتجاهين اثنين يخدمان الاقتصاد الحقيقي: الأول، يخص تدخل الدولة من جديد في الاقتصاد على حساب الحكومة الخفية التي هي السوق والتي يبدو أنها فشلت في ضمان التوازن الآلي للأسواق مثلما بشر بذلك منظر الرأسمالية الحديثة »آدم سميث«، وآلية ذلك لحد الآن تتعلق باستحواذ الحكومات في أوربا وأمريكا وبعض دول الخليج على ما يقارب 30٪ من رأسمال البنوك وذلك بهدف ضمان الرقابة وحسن إدارة هذه المؤسسات المهمة. * والاتجاه الثاني، يتمثل في ضمان حد أدنى من ودائع المدخرين يصل في أمريكا الى 250 ألف دولار وفي أوربا إلى 50 ألف يورو، وهذا عيْن التأمين التعاوني الذي عرفت به مؤسسات الاقتصاد الإسلامي تحت فرضية حماية المال كواحد من مقاصد الشريعة الإسلامية. وبالعودة إلى سياسة التأميم الجزئي للبنوك الكبرى وتدخل الدولة في حماية مدخرات الأفراد، يكون الاقتصاد الليبرالي قد أوشك على نهايته وتكون نظرية السوق الحرة قد أثبتت فشلها وتصبح البدائل التي يعرضها كل من الاقتصاد الاشتراكي والاقتصاد الإسلامي مؤهلة أكثر فأكثر للعودة من جديد للساحة العالمية ولكن على خلفية سقوط الرأسمالية هذه المرة.