إذا كان النيل هو هبة الله لمصر، فإن ثروة النخيل هي هبة الله لولاية بسكرة، سيما الزاب الغربي منها، فهذه الولاية المعروفة بإنتاج التمور، ومنها دقلة نور العالمية، تتوفر إجمالا على ما يفوق 4.5 مليون نخلة، منتجة لعدة صنوف من التمور، ومنها تحديدا دقلة نور التي تنتج منها الولاية قرابة 3 ملايين قنطار سنويا، أي ما يعادل 26 من المائة من مجموع إنتاج التمور، الذي قد يصل في سنوات الخير إلى 4 ملايين طن، بفضل غابات النخيل المترامية شرقا وغربا، وهذه الأرقام الايجابية كان بالإمكان مضاعفتها خلال السنوات الماضية، لو تم حل مشكلة تراجع مياه السقي ببعض البلديات، ومنها تحديدا دائرتا أولاد جلال وسيدي خالد، ففي هذه الجهة الواقعة أقصى غربي الولاية، تضررت ثروة النخيل بشكل كبير، وتقلص عددها بشكل ملفت بسبب غياب الحلول، والتدابير المناسبة واللازمة لحل مشكلة مياه السقي، وإذا استمر الحال بهذا الشكل فإنّ المساحات المتضررة ستمتدّ إلى مناطق أخرى، لينعكس كل ذلك على الإنتاج الإجمالي للتمور بولاية رائدة في هذا المجال. أولاد جلال نموذج لمعاناة أصحاب النخيل بسبب تفاقم مشكلة مياه السقي تعرضت واحات النخيل بمنطقتي أولاد جلال وسيدي خالد غربي ولاية بسكرة إلى عملية استنزاف خطيرة خلال العشريتين الأخيرتين، بسبب استفحال مشكلة مياه السقي التي تضرر بسببها آلاف النخيل، منها التي ماتت عطشا، ومنها التي لا تزال تقاوم بصعوبة، ومنها أعداد هائلة تم اقتلاعها وبيعها لتزيين المدن الكبرى، بعد أن يئس أصحابها من الحفاظ عليها، سيما في العشرية الأخيرة، وتعدّ أولاد جلال نموذجا حيّا على المعاناة جراء أزمة السقي هذه. وبحسب تقارير سابقة، أعدّها الاتحاد المحلي للفلاحين الجزائريين، والتي تم رفعها إلى الوصاية من أجل التدخل، فإنّ المناطق المتضررة أكثر من هذه الإشكالية، هي تلك الواقعة على امتداد الضفتين الجنوبية والشمالية لوادي جدي، فضلا عن مناطق أخرى، نذكر منها منطقة السباعي والسرجان وعين بلقبايلية وعين قريمو وعين خضراوي وبن حبشي وعين الطلبة والخوانة وغيرها كثير. وبلغة الأرقام، أشار ذات التقرير إلى أنّ العدد الإجمالي للنخيل الواقع في المناطق المتضررة يقدر ب 120 ألف نخلة، فيما تراوحت نسبة التضرر بين 50 و80 من المائة من منطقة إلى أخرى، كما أن الآبار الفلاحية في هذه المناطق المتضررة بلغت 199 بئر، جفت جميعها ولم تعد صالحة للاستغلال، أما عدد الفلاحين المتضررين فيفوق 144 فلاح، يملكون غابات نخيل ممتدة على مساحة إجمالية تقدر ب 994 هكتار، يضاف إليها مساحات شاسعة أخرى تمثل التوسع الفلاحي الجديد. وبالعودة إلى كرونولوجيا هذه المشكلة بمنطقة أولاد جلال تحديدا، تشير الدراسات إلى أن هذه المنطقة عرفت في سنوات 1945 إلى 1952 موجة جفاف حادة، ما استدعى حينها تسطير مشروع استعجالي لإنجاز 20 بئرا ارتوازية جماعية، وإنجاز ساقية كبيرة تسمى بساقية السيل، لتحويل جزء من مياه وادي جدي إلى الواحات القديمة، بهدف تأمين مياه السقي، وفي مطلع الثمانينات تجددت المعاناة بعد عودة ظاهرة الجفاف التي ضربت المنطقة بقوة، وكانت لها تأثيرات بالغة، خصوصا مع توسع عمليات غراسة النخيل بعد تنفيذ القانون 83/18 المتعلق بالحيازة على الملكية العقارية الفلاحية، وكإجراء استعجالي تم حينها إنجاز منقبين ألبيانيين لتغذية الطبقة الجوفية، وذلك بمنطقتي ديفل شرقا والعسل غربا، ومع حلول الألفية الثانية، تكررت نفس الأزمة حيث ضربت المنطقة موجة جفاف غير مسبوقة، تراجع فيها مستوى تساقط الأمطار، كما أدى تحويل جزء كبير من مياه المنقبين الألبيانيين إلى الاستعمالات المنزلية إلى مضاعفة حدة الأزمة، ورغم إنجاز عديد الحواجز المائية بالمناطق المتضررة، إلا أن الإشكال بقي مطروحا، بل استفحل أكثر لتكون النتيجة ضياع ثروة هامة من النخيل، وتضرر إنتاج التمور على مستوى أولاد جلال وسيدي خالد، اللتين ظل إنتاجهما محصورا في نحو 500 ألف قنطار من مختلف أصناف التمور، وهذا الإنتاج يعد ضعيفا جدا مقارنة بالإمكانيات الحقيقية لهاتين المنطقتين اللتين تضمّان ثروة نخيل بتعداد يفوق 600 ألف نخلة. العوامل الطبيعية والبشرية وراء تفاقم أزمة مياه السقي تجمع آراء المهندسين المختصين في مجال الري، على أنّ تفاقم أزمة مياه السقي بأولاد جلال تحديدا - باعتبارها أكثر المناطق تضررا- يعود إلى سببين رئيسيين، أحدهما طبيعي متعلق بالمناخ والثاني بشري، فأما الطبيعي فمرتبط أساسا بتراجع مستوى تساقط الأمطار والارتفاع المحسوس في درجات الحرارة مقارنة بالعقود السابقة، وما نتج عن ذلك من تراجع فيضان الأودية والشعاب وزيادة اتساع المناطق المتصحرة، أما العامل البشري فيمكن حصره في عديد النقاط، منها غياب الثقافة الاستهلاكية الكفيلة بحسن استغلال المياه، إضافة إلى عمليات الحفر العشوائي للآبار، وما نتج عن ذلك من اختلاط المياه العذبة بالمياه المالحة، وهروب المياه إلى أعماق الأرض بسبب تخريب الطبقة السطحية، كما أن عدم إعادة ردم الآبار المهجورة وغير المستغلة، كان له الآثار السلبية على تراجع منسوب المياه في الطبقات العليا، ثم الجوفية، يضاف إلى ذلك الاستنزاف الذي تعرض له وادي جدي، من حيث الاستغلال المفرط للرمال التي كانت تعد غربالاً يحمي الطبقات الجوفية من التلوث، ولعل ما يدعم هذه الأسباب هو التقارير المرفوعة إلى مصالح الموارد المائية بالولاية سنة 2013، والتي تحدثت عن مصادر المياه بأولاد جلال، حيث حصرتها بين المياه السطحية الناتجة عن جريان الأودية والشعاب والمياه الجوفية المتسربة في باطن الأرض من المياه السطحية بفضل تساقط الأمطار، وهذه المياه تم تصنيفها إلى ثلاثة مستويات: مستوى أول يشمل المياه القريبة من سطح الأرض ومنسوب المياه بها مرتبط أساسا بالأمطار وجريان الأودية، وهذه المياه كانت تتجدد باستمرار في الحالات المناخية العادية، لتتأثر بشكل سلبي في حالات الجفاف المتكررة، أما المستوى الثاني فيشمل الحوض الباطني للمياه، وهو أعمق من المستوى الأول وقد شرع في استغلاله في مطلع القرن العشرين، وهذا المستوى كان يوفر كميات معتبرة من المياه في البداية، لكن مخزونه تأثر فيما بعد، بسبب عدة عوامل بشرية، منها استنزاف رمال وادي جدي، التي كانت تنظف المياه قبل غورها في باطن الأرض، سيما مياه الصرف الصحي المتدفقة من المصبات الرئيسة، أما المستوى الثالث، فيضم الحوض الباطني الذي يتوفر على مياه ساخنة جدا وبكميات هائلة، وقد شرع في استغلاله بفضل الآبار الألبيانية، لكن تقسيم كميات المياه المتدفقة من هذا المستوى بين الاستغلال الفلاحي والمنزلي، أثر كثيرا على مياه هذه الطبقة، وقلل من فاعليتها في التخفيف من حدة أزمة مياه السقي بالأراضي المتضررة . آلاف النخيل هلكت أو بيع بأثمان زهيدة لتزيين المدن ... في ظل استمرار أزمة مياه السقي بأولاد جلال وسيدي خالد على مدى العشريتين الأخيرتين، لم تستطع ثروة النخيل الصمود كثيرا، خصوصا تلك التي تمثل الواحات القديمة، حيث تعرضت آلاف الأشجار فيها للهلاك، وتحّلت من بساتين غنّاء إلى أراض جرداء، كما هو الحال بالمناطق الواقعة على ضفتي وادي جدي بسيدي خالد ومناطق العسل والخوانة والرمالي وبلميسي ولمعاوات ومساحات شاسعة أخرى بشرق وغرب بلدية أولاد جلال، كما أنّ تواصل هذا المشكل لسنوات طويلة دون حلول جذرية وسريعة، ساهم في استنزاف ثروة النخيل، ما اضطر أصحابها إلى بيعها بأثمان زهيدة جدا، قد لا تتعدى 5 أو 8 آلاف دينار للنخلة الواحدة، من أجل تحويلها إمّا إلى حقول أخرى داخل أو خارج البلدية، أو لتحويلها إلى أشجار تزيين لتجميل شوارع المدن الكبرى، فبعض الفلاحين تحدثوا إلينا بمرارة عن معاناتهم الطويلة وخسائرهم التي تكبدوها من أجل الحفاظ على نخيلهم، الذي مات أمام أعينهم دون أن يتمكنوا من إنقاذه، في ظل العجز عن التكفل المادي بما بقي من نخيل حيّ، لتكون النتيجة الحتمية هي التفريط في هذه الثروة من النخيل، وبيع ما بقي منها حتى لا تموت بين أيدي أصحابها الذين أكدوا أنهم طرقوا كل الأبواب طوال العشريات الماضية، لكن دون جدوى، رغم معرفة الجميع بالمشكل، في وقت كانت فيه البلاد تتوفر على الموارد المائية الكافية لإنجاز سدود عملاقة بهذه المناطق المتضررة. حلول بالملايير في الوقت بدل الضائع ولكن لا بديل عن السدود .. تجمع آراء الفلاحين على أن التأخر في إيجاد حلول حقيقية لمشكلة مياه السقي بأولاد جلال وسيدي خالد، يعدّ سببا مباشرا في تفاقم معاناة الفلاحين، فلو تم اتخاذ الحلول في وقتها، لكان حال ثروة النخيل أفضل بكثير مما هي عليه، ولتمكن المتضررون من الحفاظ على غابات نخيلهم، التي كانت تمثل غطاء أخضرا للمنطقة، ومصدر رزق لمئات العائلات، وأمام تعالي صرخات الفلاحين وممثليهم، وبعد جهود المنتخبين المحليين عبر مختلف المجالس خصوصا في العامين الأخيرين، بدأ التفكير الجدي في إيجاد الحلول لأزمة مياه السقي بسيدي خالد من خلال الاستفادة من بئر ألبياني جديد، أما بأولاد جلال فقد أثمرت المساعي بجلب بعض المشاريع الهامة، نذكر منها 4 آبار ألبيانية بعمق 2000م لكل بئر، وبغلاف مالي يقدر إجمالا ب 200 مليار سنتيم، ومن هذه الآبار الأربع شرع في تجسيد أول بئر مؤخرا في انتظار البقية، مع البطء الشديد في التنفيذ، وكأن الأمر لا يتعلق بحلول استعجاليه لإنقاذ ثروة نخيل، ظلت مهددة بالهلاك لسنوات. وهنا يناشد الفلاحون بضرورة تدخل المصالح المعنية لتعجيل حفر هذه الآبار، التي تمثل الحلّ الأنسب لدعم الفلاحين في مواجهة أزمة مياه السقي، كما استفادت أولاد جلال أيضا من مشروع محطة معالجة المياه المستعملة، وهي لا تزال في طور التحضيرات التقنية، والشروع في الإنجاز قد يكون قريبا، حيث علمنا أن اللجنة التقنية المكلفة بالمشروع ستحل مطلع جويلية لمتابعة هذا المشروع الكبير، ومن الحلول التي تبقى تنتظر التجسيد أيضا، بحسب ما جاء في تقرير للاتحاد المحلي للفلاحين، والذي تضمن حلولا على ثلاثة مستويات، فهناك حلول مستعجلة تشمل إعادة تنظيم طريقة استغلال البئرين الألبيانيين بكل من منطقتي العسل وديفل، وإعادة الاعتبار لقناة السيل لسقي نخيل الجهة الغربية والشرقية، والتدخل العاجل للحد من الاستغلال المفرط لرمال وادي جدي، ومن الحلول متوسطة الأمد يؤكد الفلاحون على ضرورة إنجاز مناقب إضافية بمنطقتي العسل ورأس ديفل وإنجاز دراسة هيدروجيولوجية لمسح تراب المنطقة، وتحديد مواطن تواجد المياه بها، حفاظا على المياه الجوفية الشحيحة أصلا. كما طالب الفلاحون بترميم الآبار القديمة والتعجيل في تقديم التسهيلات للفلاحين من أجل حفر آبار جديدة أو ترميم آبارهم القديمة، والقيام بحملة لردم الآبار غير المستغلة، فيما حصر هؤلاء الفلاحون الحلول طويلة الأمد في إنجاز سدود سطحية أو باطنية، خصوصا في المناطق التي تغذي وادي جدي والآبار الفلاحية بالمنطقة ، فهذه الحلول وغيرها، قد تكون سبيلا لتخليص الفلاحين من كابوس العطش الذي أودى بآلاف النخيل في سنوات عجاف، لا يزال يصفها الفلاحون بالأسوأ في تاريخ المنطقة.