اليوم: 18أوت 2008 ...الساعة: العاشرة صباحا، المكان : مقر المدرسة العليا للدرك بيسر ببومرداس، تنقلنا على خلفية الاعتداء الانتحاري الذي استهدف هذه المدرسة في حدود الساعة السابعة و40 دقيقة عندما اخترقت سيارة مفخخة يقودها انتحاري صفوف شباب جامعيين لا تتجاوز أعمارهم 22 عاما، مترشحين للانتساب لصفوف الدرك الوطني برتبة ضباط، جاؤوا تلك الصبيحة لاجتياز امتحان الفحص البسيكوتقني آخر وأصعب مرحلة للقبول ... * * كلثوم ... اغتالوا الوالد الحبيب لكن لن يغتالوا الحلم والحياة * وقفنا يومها على آثار المجزرة التي خلفت 48 ضحية أغلبهم هؤلاء الشباب وتبنته لاحقا الجماعة السلفية للدعوة والقتال تحت إمرة عبد المالك درودكال (أبو مصعب عبد الودود)، أشلاء متناثرة في كل مكان، أصابع يد، أرجل، بقايا جمجمة، مخ ودماء وهياكل سيارات، بنايات منهارة جزئيا وصدمة كبيرة. * الساعة الحادية عشر ونصف ...تنقلنا الى مستشفى برج منايل حيث تم تحويل جثث الضحايا والجرحى، هناك في إحدى قاعات مصلحة الاستعجالات، التقيت أول مرة الشابة كلثوم، الدماء كانت تغطي وجهها وبعض أجزاء جسدها بعد إصابتها بشظايا الإنفجار العنيف، اقتربت منها لكنها عجزت عن الحديث إليّ وأشارت إلي بيديها الى أذينها بأنها لا تسمع جيدا ولاحظت أنها كانت ترتعش كثيرا وطلبت مني الطبيبة المعالجة الانصراف لأنها تحت الصدمة، وأفادني ممرض في المصلحة، أن كلثوم قدمت من ولاية سعيدة، وكانت من بين المترشحين للإنتساب لصفوف الدرك الوطني. * عدت الى المستشفى في اليوم الموالي، ونصحتني الطبيبة مجددا بعدم لقاء "كلثوم" عكس الجرحى الآخرين لأنها مصدومة بسبب جهلها مصير والدها، وأسر لي الممرض مجددا، أن كلثوم كانت ذلك اليوم مرفوقة بوالدها ويوجد ضمن المفقودين "وحالتها النفسية صعبة، إنها لا تكف عن السؤال عنه والإستفسار عن مصيره، إن شاء الله خير "... * بعدها بيومين، اتصل بي زميلي قادة رئيس المكتب الجهوي بوهران ليبلغني خبر تشييع جثمان والد "كلثوم" بسعيدة وذكر لي محاسن الرجل الذي كان بسيطا ومتواضعا وطيبا، وحضر الجنازة جمع غفير من المواطنين، وتفحصت بعدها صورة "كلثوم" في المستشفى ودعوت الله أن يلهمها وأهلها الصبر، ورافقني دوما فضول حول مصيرها خاصة بعد زيارة اللواء بوسطيلة قائد سلاح الدرك الوطني للجرحى في المستشفى وأعلن لهم قبولهم دون اجتياز الامتحان النفسي خاصة بعد أن جدد هؤلاء تمسكهم بالانتساب لصفوف الدرك. * الأربعاء 12 نوفمبر 2008 ...الساعة العاشرة صباحا والمكان: مقر المدرسة العليا للدرك الوطني بيسر ببومرداس * ما يلفت الانتباه هو التعزيزات الأمنية، وسجلنا يقظة عناصر المراقبة وتم تطويق المداخل وعدم غلق الطريق نظرا لما يترتب عن الإجراء من اضطراب في حركة المرور. * * 4 أشهر بعد اعتداء يسر...رسالة الناجين ل"صناع الموت" * في الداخل، كانت الدراسة قد انطلقت منذ أسابيع بالمدرسة التي تقدر طاقة استيعابها ب200 مقعد، توجهنا الى مخبر اللغات الأجنبية حيث كان فوج من السنة الأولى يتابعون حصة في اللغة الإنجليزية، من بينهم الناجون من "مجزرة يسر"، تعرفت على بعضهم وآخرين كانوا يضعون قطنا على مستوى الأذن وعلمت لاحقا أنهم لايزالون يعانون من آثار دوي الإنفجار القوي، وأوضح العقيد محمد سي حنين قائد المدرسة العليا للدرك بيسر، انه تنفيذا لتعليمات اللواء بوسطيلة قائد سلاح الدرك الوطني، تم إدماج المترشحين الناجين من الإعتداء الانتحاري دون اجتياز الامتحان البسيكوتقني وقبولهم في المدرسة حيث سيتابعون تكوينا لمدة 3 سنوات للتخرج برتبة ملازم في مختلف التخصصات، وأشار الى أن هؤلاء يتابعون حاليا دروسهم "بصفة عادية جدا" وتم إدماجهم في الأفواج العادية وعدم تخصيص فوج خاص بالمصابين لتسهيل اندماجهم وتجاوز الصدمة وسألته: هل التحق جميع الناجين بالمدرسة؟ ليؤكد أن جميع الناجين التحقوا تلقائيا بالمدرسة "كان بعضهم قيد العلاج عندما اتصل أهاليهم للاستفسار عن كيفية اجتياز الامتحان، وارتاحوا كثيرا لقرار قيادة الدرك ولم يتوقفوا عن الإستفسار الى غاية التحاقهم بالمدرسة نهائيا"، ولفت قائد المدرسة الانتباه الى أنه لمس إرادة كبيرة لدى هؤلاء في إكمال مسارهم المهني "بعزم وإرادة" مؤكدا تأقلمهم. أما بخصوص حالة عبد الرحيم بن حليمة الذي تعرض لبتر ساقيه الاثنين في الاعتداء، أشار العقيد أيوب عبد الرحمن رئيس خلية الاتصال بقيادة الدرك الوطني ل"الشروق اليومي"، أن "قيادة الدرك الوطني تسعى مع الجهات المعنية للتكفل اجتماعيا ومهنيا ونفسيا بهذا الشاب والعمل جاري في هذا السياق"، وعلمنا أن اللواء بوسطيلة يتابع شخصيا ملفه مع القطاعات المعنية. * في مخبر اللغات، رأيت "كلثوم" وهي ترتدي البدلة الخضراء، طبيعية الشكل بتصفيفة شعر عادية وبسيطة كما يفرضه القانون الداخلي للمدرسة، اقتربت منها وكان يجب أن أسألها رغم إدراكي أني بسؤالي سأوقظ "وحش" الألم الجاثم على صدرها لكن كيف قررت الإلتحاق مجددا بالمدرسة والعودة الى هذا "المكان" الذي شهد فقدان والدها وتجاوز هذه المشاعر، لم تكتم دموعها التي انهمرت في صمت لكنها لم تعارض الإجابة وهي تذكر أنها ذلك اليوم، جاءت مبكرة من مسقط رأسها بسعيدة غرب البلاد مرفوقة بوالدها الذي شجعها بعد تخرجها من الجامعة بشهادة ليسانس علوم تجارية للإنتساب لمؤسسة الدرك الوطني بعد فتح أبوابها للعنصر النسوي منذ 4 سنوات، والد "كلثوم" التي كانت "الصغيرة" من حيث بنات العائلة التي تضم 3 بنات وولد واحد سيجتاز هذه السنة امتحان شهادة البكالوريا، كان يملك حلما "شرعيا" في أن يرى صغيرته "دركية"، وكان ذلك اليوم المصيري معها يشجعها ويدعو لها بالنجاح، لكن أيادي الإجرام كانت تترصد هؤلاء ليلقى ربه في الإنفجار، تقول "كلثوم": لقد اغتالوا والدي أعز ما أملك لكنهم لن يغتالوا أبدا حلمه في أن أصبح كما تمنى يوما... تصمت قليلا لتحبس دموعها المنهمرة "أنا هنا من أجله ..من أجل بابا .."، واعترفت أن "العودة" كانت صعبة لأنها في المرة الثانية كانت مرفوقة بشقيقها ومرت بمكان "المجزرة" لكنها تشعر أنها قوية بإرادة تحقيق حلم الوالد، واسألها مجددا : هل اقتنعت بضرورة الانضمام الى الدرك بعد الإعتداء انتقاما لوالدك؟ لتؤكد بثقة "أبدا، أنا اخترت في السابق ذلك لأني كنت دوما أنبذ "الحڤرة" ورأيت أني بانخراطي في مؤسسة تفرض القانون وتحترمه وتنشره، سأحقق جزءا من ذلك، وما زلت أتمسك بهذه القناعة وازددت إصرارا على الإنخراط لتحقيق حلم والدي". * * "مجزرة يسر" جعلتنا نتعلق بالمؤسسة العسكرية وندرك دورنا تجاه الوطن * تذهب "العالية" في نفس اتجاه تصريحها، هي زميلتها في الفوج، وأيضا من الناجين من "المجزرة" بعد إصابتها بجروح وكانت محظوظة لأنها لم تفقد أيا من أفراد عائلتها ذلك اليوم، تنحدر "العالية" من منطقة تنس بالشلف وتحمل شهادة ليسانس في "المناجمت" لكن كانت تحلم منذ صغرها أن تنخرط في صفوف الجيش الشعبي الوطني لتقرر بعد التخرج الانضمام الى صفوف الدرك بعد إعجابها ببعض الضابطات الأوائل، تقول "العالية" إن ما حدث كان رهيبا جدا "لكني بعد الإعتداء، ازددت تعلقا بالمؤسسة العسكرية، ووجدت تأييدا من جميع أفراد عائلتي". * أشار قائد المدرسة العليا للدرك الوطني بيسر، أن هؤلاء الناجين معفيون مؤقتا من التمارين الرياضية التي تتطلب جهدا عضليا في انتظار امتثالهم للشفاء نهائيا، كما يرخص لهم بزيارة عائلاتهم لأيام لرفع الضغط عنهم ومراعاة نفسياتهم حسب توجيهات المختصين النفسانيين الذين يتابعون حالاتهم. * فيما سمحت إدارة المدرسة لعائلات 4 ناجين بزيارتهم كل يوم جمعة على خلفية تواجدهم بمصلحة الصحة بذات المدرسة، حيث يتابعون علاجا هنا، وبالمصلحة، التقينا مصطفى من غليزان الذي نزع الجبس عن ساقه المكسورة منذ يومين، يحيى من غليزان، عابد من بوسعادة، محمد من المدية حيث تم وضع اثنين في غرفة واحدة من الذين لايزالون يخضعون للمتابعة الطبية لدى أطباء مختصين في أمراض العظام والمفاصل، الأذن إضافة الى المتابعة النفسية، وأجمع هؤلاء على أن قرار قيادة الدرك الوطني بقبولهم "أثبت أن قرارنا كان صائبا في الإلتحاق بهذه المؤسسة الأمنية التي لم تتخل عنا في أوقاتنا الصعبة خاصة وأنه تم الإيفاء بالوعد". * * إعفاء الناجين مؤقتا من المجهودات البدنية ومتابعة نفسية لتجاوز الصدمة * أحد الناجين الذي يعمل والده في صفوف الحرس البلدي، قال إنه كان يريد الإنخراط في صفوف الدرك الوطني "لأن المؤسسة منضبطة وأيضا لأضمن مستقبلي ومساري المهني، لكن بعد الإعتداء، وجدت نفسي ملزما بالانخراط، منفذو الاعتداء استهدفونا نحن وهنا أدركت دورنا ورفضت التراجع"، أما رفيقه فاختصر الإجابة "نحن هنا" واتجه بنظره الى زملائه ال 12 الناجين جميعا "أعتقد أننا جميعا هنا في المدرسة وبالبذلة ...لقد عقدنا العزم ..."، وصمت قليلا .. ". لن أجد أجمل من عبارة تحيا الجزائر ..".