الحاجة إلى تحرير بيروقراطية الدولة من وثنية السلطة إذا كنا نعيش هذه الأيام زمن فشل العلاج الديمقراطي الليبرالي لعلل العالم العربي والإسلامي، بعد تداول القوميين والاشتراكيين والإسلاميين والعلمانيين على سلط ونظم ممانعة لبناء الدول، فلابد أن نعترف أنه قبل المطالبة بدولة يحتكم فيها لمبدأ : "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" قد نحتاج إلى بناء دول تؤمن مؤسساتها بمبدأ: "لا طاعة لمسئول في معصية القانون". * * في السنوات العشر الأخيرة شهد العالم العربي عشرات الاستحقاقات الانتخابية صنفها الغرب ما بين "مقبولة قريبة من المقاييس المعتمدة في الغرب" و "انتخابات صورية أو مزورة " فرضي عنها في لبنان والعراق، وجاملها في المغرب والكويت، وسكت عنها في مصر والسعودية والأردن، وهيج ضدها إعلامه في حالة اليمن والسودان والجزائر، وليس هاهنا مجال لملاسنة الغرب في معاييره المزدوجة، لأن الاعتبار إنما يكون بالنتيجة، والنتيجة كانت واحدة في الحالات الأربع: إخفاق لجميع المسارات في إنتاج سلط مستقرة، فضلا عن بناء دول يحكمها القانون، لا تزول بزوال الرجال كما قال المرحوم بومدين، أو لا تتفكك في ثلاث أسابيع كما حصل في العراق. * * اعتلال وممانعة في دول ناقصة * * فلبنان، البلد العربي الصغير الذي لم يعرف، منذ انتهاء الانتداب الفرنسي، نظاما آخر غير النظام الانتخابي التعددي الغربي، يراوح منذ الأربعينيات من القرن الماضي في مستنقع الطائفية والمذهبية، التي منعت حتى اليوم ميلاد دولة، بمؤسسات لا ترتهنها مشيخات الطائفية، كما فشلت التجارب التعددية التي قادتها نخب عسكرية ومدنية قادمة من نظم الحزب الواحد، فشلت في بناء الدول، وأخفقت في قيادة مشاريع التنمية، وفوق ذلك فشلت في تأمين القدر اليسير من السيادة التي تركها النظام الكولونيالي بعد رحيله، بل نراها تفشل حتى في أداء الوظائف الملكية الأساس لأي سلطة، مثل الأمن. * وفي الجملة نكون أمام ظاهرة فريدة، لمجموعة دول لها تاريخ عريق، وموروث حضاري راقي، ولغة واحدة وموحدة هي عند فقهائها أم اللغات، وفوق كل ذلك، تمتلك كل المقومات لبناء دول متماسكة، قوية، لكن نظم الحكم المعروفة قد فشلت جميعها، كما أخفقت توليفات متنوعة من النخب القومية والوطنية، ذات المشارب الاشتراكية أو الليبرالية، إسلاميون وعلمانيون، ومن ليس لهم حظ لا في هذا ولا ذاك، فهل نحن أمام دول فاشلة كما يسميها الغرب، أو ناقصة كما وصفها شيخ فقهاء القانون الدستوري الدكتور السنهوري، وهو يصف غياب مقومات إدارة مجتمع مسلم فيها. كل ذلك يصلح لتوصيفها، وهي كما يشي به تاريخها الحديث، المثخن بالأزمات والانتكاسات، وتؤشر إليه مناعتها المكتسبة ضد أبسط محاولات الإصلاح. * * التداول على سلطة تزول بزوال الرجال * * الأزمات المتصلة حلقاتها التي تكاد تشل الحركة في دول العالمين العربي والإسلامي، ليس لها صلة بغياب الديمقراطية، كما تدعي بعض النخب، ولا بالتخلف المتراكم في حقول الاقتصاد والثقافة والعلوم، وتدني مستوى الموارد البشرية كما يجلدنا به الغرب في تقاريره الدورية، ولا مع الفكر القومي الذي اتهم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكان مشجبا علقت عليه وعلى الخيار الاشتراكي كثير من مآسينا، وليس مع الدين الإسلامي، الذي انتقلت إليه التهمة تحت مسميات كثيرة، ولا حتى مع هيمنة المؤسسات العسكرية على مفردات الحياة السياسية، لأن كل ذلك لا يصمد أمام التحليل، بل يكذبه الواقع، بعد أن قبر التيار القومي، إثر رحيل بعض رموزه مثل جمال عبد الناصر وبومدين، وانتقال أغلبية الدول العربية إلى اقتصاد السوق، وتفكيك منظومات الحزب الواحد، ومرور قرابة العقدين على دخول التعددية السياسية والديمقراطية في كثير من الدول العربية، وبعد انحسار مد التيار الإسلامي، وتفك أبرز مكوناته، وانحسار دور الجيوش، مع تباطؤ وتيرة الانقلابات العسكرية التي لم تعد ممكنة إلا في دول فاشلة مثل موريتانيا. * وإذا كانت القومية، ونظم الحزب الواحد والاشتراكية ورأسمالية الدولة، والليبرالية واقتصاد السوق، واقتحام التيار الإسلامي للحقل السياسي، وأنظمة الحكم المتنوعة، من ملكيات وجمهوريات وإمارات ومشيخات جميعها قد فشل، فلا بد لنا أن نبحث عن العلة في مواطن أخرى، ليس بالضرورة في العقل العربي المتهم ظلما بالتقوقع والتحجر، ولا في الموروث الثقافي العربي والإسلامي، الذي اتهمه المستشرقون بمعاداة الحداثة، كما فعل ماكس فيبر وماكسيم رودانسون، ومعهما رواد الأنثربلوجية الكولونيالية. * فكيف أصبح اليوم ينظر إليه كما كان ينظر، أواخر القرن التاسع عشر إلى الدولة العثمانية، وكأنه هو رجل العالم المريض الذي أتعب أقطاب العالم الحديث؟ * السؤال مع بساطته الظاهرية مركب، وقد نحتاج معه إلى الاعتراف بوجاهة بعض المقاربات التي حاولت تفسير الفشل المتكرر والمتواصل في بناء الدولة الحديثة في العالم العربي، على أيدي القوميين، والوطنيين، والاشتراكيين، والليبراليين، والإسلاميين، والعلمانيين. * * تآمر النخب على منع بناء الدول * * سوف نكون بحاجة إلى إعادة صياغة السؤال على النحو التالي: لماذا رفضت النخب التي تداولت على السلطة بناء الدولة؟ ولماذا تحقق هذا التوافق بين القوميين والوطنيين، العلمانيين والإسلاميين، الليبراليين والاشتراكيين، حول تفضيل بناء السلطة بدل تشييد الدولة؟ السؤال هنا يكون أقرب إلى الواقع، لأن الفشل، إن كان لا بد من تقرير فشل، فهو فشل النخب في بناء سلط ونظم ذات مصداقية وفعالية، تستطيع الاستغناء عن الدولة، ما دامت النخب الحاكمة قد أضمرت الاستغناء عن بناء الدولة، فرأينا كيف سقطت المقاربات القومية بمجرد رحيل بعض أقطابها، وكيف فككت الخيارات الاشتراكية بين عشية وضحاها، دون أن يذرف عليها أحد دمعة واحدة، وكيف تفشل النخب الليبرالية والعلمانية والإسلامية اليوم في التعاطي مع تجارب التعددية السياسية، وما يوصف مجازا بالمسارات الديمقراطية؟ * الرئيس الجزائري، وهو شخصية مخضرمة، شهد ميلاد الدولة الجزائرية المستقلة، وواكب عصر البناء الأول، وغاب عن عصرها الوسيط، واستدعي في عصرها الحديث لإنقاذ سلطة، كانت على الدوام رافضة ومعارضة لبناء الدولة في زمن الحزب الواحد كما في زمن التعددية، ونراه يباشر عهدته الثالثة دون أن يتقدم خطوة واحدة على درب بناء الدولة، حتى بعد أن نجح في إنقاذ السلطة والنظام، وأعاد لهما قدرا من الهيبة، وقدرا من التوازن والاستقرار، لكن نظام الحكم الذي لجأ إليه، والسلطة التي أعاد إليها التوازن، كانا من أقوى المعارضين لإصلاح دستوري، كان سيفتح بعض الإرتاجات، ويعبد بعض الطرق أمام مشروع بناء الدولة، بل إن نظام الحكم والسلطة قد وجدا في الكيانات السياسية، التي أوجدها دستور 89 أفضل حليف لمنع بناء الدولة في هذا البلد. * * العقد الفريد لبناء دولة المواطنة * * قد نحتاج عند هذا الحد إلى الاتفاق حول ما نعنيه بالدولة والسلطة، حتى نتفق أو نختلف، وقد لا نحتاج في كل الأحوال إلى التعريفات الأكاديمية للسلطة والدولة، من حيث طبيعة الوظائف وطرق البناء، بقدر ما نحتاج إلى معرفة حاجة السلطة والدولة للتوافق والإجماع، لندرك إن كنا فعلا أمام دول قائمة، أم مجرد سلط تؤدي الحد الأدنى من وظائفها الملكية، وبأكثر الطرق كلفة، وأقلها جدوى. * فالسلطة لا تحتاج لأجماع المواطنين، ولا إلى قيام عقد اجتماعي، فقد تنشأ عن طريق المغالبة البهيمية الصرفة، كما قد تنشأ عن طريق التنافس السلمي، كما هو الحال في النظم الديمقراطية، أو النظم التي تعتمد مبدأ الانتخاب، غير أن الدولة لا تقوم وتصمد إلا بعد حصول وفاق وطني، وتحرير عقد اجتماعي بين أغلبية المواطنين، يكون في الحد الأدنى على المؤسسات التي تفي بالوظائف الملكية الرئيسة للدولة، كالأمن والدفاع عن السيادة، والعدالة وسيادة القانون، ثم لا مانع بعد ذلك أن تتداول النخب السياسية على السلطة، وتستعين بمؤسسات الدولة المجمع عليها بوفاق وطني، على أن يبقى ولاء مؤسسات الدولة للدستور والقانون، أي لمحصلة لإجماع الوطني، وليس للجهة الماسكة بالسلطة، كما هو اليوم حال معظم مؤسسات الدولة، وإداراتها الكبرى التي تعمل على طريقة "مات الملك فليعش الملك". * * تحرير البيروقراطية من وثنية السلطة * * كثيرا ما تسمع النخب السياسية عندنا، وعند غيرنا، وهي تتشدق بمرافعات لفائدة حكم قائم على الفصل بين السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وقد يميل أخيارهم إلى إضافة استقلالية القضاء كشرط لقيام دولة القانون، وكلها شروط لا تقوم معها دولة المؤسسات ودولة القانون، ما دام جسم الدولة، والذراع المنفذ للسياسات، وأعني به الجهاز الإداري البيروقراطي والتقنوقراطي، مجرد أداة بيد السلطة، لا يستطيع أن يرد للحاكم طلبا، أو يخالف أمرا، حتى حين يكون الطلب أو الأمر يخالفان القانون الذي سنته السلطة. * في معظم قضايا الفساد السياسي والمالي الذي ينخر دولنا، وحالات الاستبداد والتعسف في استعمال السلطة، تجد خلفها في الغالب، حالة اعتداء موصوف، من المسئول صاحب السلطة، على القانون وعلى حقوق الآخرين، وعلى المال العام ومناجم الريع، مستعينا بهذا الجهاز الإداري الذي لا يقوى على أن يرد له طلبا، أو يخالف له أمرا. * فهل كان بوسع مسئولين إداريين وتقنقراطيين كبار في البنك المركزي، وإدارة وزارة المالية مخالفة الأوامر الفوقية، الآتية من جهات ماسكة بالسلطة، قد شهد كل من تابع المحاكمة، أنها هي التي سهلت عملية السطو الكبرى على المال العام، وأموال المودعين في قضية بنك الخليفة، وقضايا مماثلة شهدها نظامنا المصرفي؟ وهل يستطيع اليوم أي مسئول إداري بمديرية مركزية أو فرعية، أو بإدارة ما، أن يرد طلبا، أو يخالف أمرا يصدر عن وزير فما فوق، وهو يعلم علم اليقين، أنه طلب أو أمر مخالف للقانون، وهو يعلم أيضا أن القانون لا يحميه، لا في حالة الطاعة والامتثال، حين يكتشف الفعل الفاسد، ولا حين يمتثل للقانون ويعصى الأمر؟ * * لا طاعة لمسئول في معصية القانون * * الواقع يشهد بغير ذلك، لأن دساتيرنا وتشريعاتنا لم تسن حتى اليوم قانونا يحاكي المبدأ القرآني: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" فتعتمد مبدءا تشريعيا يحاكيه بالقول: "لا طاعة لمسئول في معصية القانون" يحمي هذا الجيش من الإداريين والتقنوقراطيين العاملين بمؤسسات الدولة من الأوامر الفوقية الاستبدادية، التي حولت الإدارات ومؤسسات الدولة إلى مؤسسات تدين بالولاء والطاعة أولا وأخيرا للمسئول صاحب السلطة. * وما دام حال دولنا على هذا النحو، فإنه حتى مع بناء مؤسسات دولة، فإن الممانعة القائمة حيال قيام فصل حقيقي بين هذه المؤسسات الدائمة للدولة، وأجهزة السلطة والحكم، فإن السلطة القائمة تحتفظ بهامش واسع لتنفيذ حالة شبيهة بما يعرفه الصوفية بالإحلال، بمعنى أن الجماعة التي آلت إليها السلطة بالمغالبة البهيمية، أو حتى عبر المسارات الانتخابية، لا تحتاج لوقت أو جهد لتنفذ عملية الإحلال الشامل داخل جسم الدولة ومؤسساتها، فتلحق الدولة بالسلطة، لتهدم من الأولى ما تشاء، وتبني ما تشاء، وتستبد كما تشاء، وتأتي بالغلول والنهب والفساد كما تشاء، لأن مؤسسات الدولة التي كان يفترض أن تعمل وفق مبدأ "لا طاعة لمسئول في معصية القانون" في دولة تحمل بحق شعار دولة القانون، هي على الدوام ملحقات تنفيذية مسخرة لتلبية رغبات الحاكم بالمطلق. * * مدخل إسلامي لبناء دولة علمانية * * إلحاحي على حاجة هذا الفضاء العربي المعطل، لمقاربة تنبه لأهمية بناء مؤسسات للدولة منفصلة، بنصوص دستورية، عن أجهزة السلطة، لها من الاستقلالية ما تمنحه الديمقراطيات العريقة للقضاء، لا تبرره فقط الحاجة إلى مؤسسات ترفع في وجه السلطة مبدأ "لا طاعة لمسئول في معصية القانون" بل تبرره حاجة هذا الفضاء العربي لاجتهاد سياسي ودستوري مبتكر، يجتاز بها الإشكالية الكبرى التي يطرحها الصراع المحتدم بين دعاة الدولة المدنية العلمانية، ودعاة التعجيل بإقامة الدين في دول مسلمة، وصفها السنهوري بالدول الناقصة. * مسوغات كثيرة، ليس هنا مجال ذكرها، تشجعني على المجازفة بالقول بإمكانية التوصل إلى إجماع وطني حول بناء دولة مدنية بمؤسسات علمانية، تدين للقانون وحده، وإليه يذهب ولاؤها، على أن تحتكم القوى السياسية بمشاربها العلمانية أو الإسلامية القومية أو الوطنية، الاشتراكية أو الليبرالية، أن تحتكم إلى قرار الأغلبية في أي شكل من أشكال التعددية والتنافس السلمي عبر الصناديق، بل إن الدعوة موجهة أولا وأخيرا للكيانات والنخب الإسلامية على تبني شعار بناء دولة القانون المدنية، بإدارة مستقلة للدولة لا تدين بغير القانون، لأنها أقصر الطرق لتمكين الخيارات الإسلامية من إقامة الدين في الدولة العلمانية، بدل إهدار الجهد خلف وهم بناء الدولة الإسلامية بأدوات دول تظل على الدوام دولا إما فاشلة أو ناقصة.