قبل أن يكون العالم العربي بحاجة إلى إصلاح، فهو بالتأكيد بحاجة إلى مصالحة تاريخية بين الشعوب ونخبها الحاكمة، تنتهي بإبرام هدنة طويلة المدى، تطمئن خلالها النخب على ما بين أيديها من امتيازات سياسية ونفعية، وتعفيها من التنافس على السلطة، مقابل تحرر النخب الحاكمة من التبعية والهيمنة الأجنبية، على أن تطمئن الشعوب على مكونات هويتها الدينية واللغوية والثقافية، وصيانة الحقوق الأصلية للأفراد، في أبدانهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والاجتهاد قدر الإمكان لبناء دولة مؤسسات قادرة على الدفاع عن السيادة الوطنية، وثروات الأمة، وأمنها القومي، تتضافر لتحقيق الأمن والاستقرار الضروريين لأي مشروع تنموي مستديم. * ذلك لأن مشكلة الدول والشعوب العربية ليست ناتجة عن قصور، ولا عن جهل، ولا عن ميل للخيانة والتفريط في مصالح الدول والشعوب، بقدر ما هي متصلة بحالة الخوف المختلق من الشعوب، الذي يلقي بالنخب الحاكمة، كيفما كانت مشاربها، في أحضان القوى الغربية المهيمنة، وتقول الشعوب لحكامها ما قاله الرسول، صلى الله عليه وسلم، لبعض الوُفود من اليمانيين: ما لم تضمروا الإماق وتأْكلوا الرِّماق؛ أي يكون لكم الوفاء ما لم تأْتوا بالمَأْقة فتغْدُروا وتَنْكُثوا وتأكلوا الكثير من العيش القليل للكثرة. * الصورة التي نقلتها أول أمس قناة "الجزيرة" لصبي فلسطيني من غزة، مصاب بشلل رباعي، يتداول عليه والداه لتشغيل جهاز التنفس اليدوي، بعد انقطاع التيار الكهربائي، هي في نظري أبلغ صورة عن واقع العالم العربي، المصاب بشلل رباعي، تتداول عليه بعض الأيدي لإنعاشه يدويا، وبوسائل بدائية، أملا في العودة القريبة للتيار، وربما أملا في عودة الحياة إلى هذا الجسد العليل. * أرى أنه من الإسفاف إعادة اجترار خطابات الشجب والتنديد بالظلم الصهيوني المدعوم غربيا وعربيا، ذلك أن مواد المعاجم عند العرب والعجم لا تفي بتوصيف الجريمة العالمية، الغربية والعربية، في حق الشعب الفلسطيني، ومعه بقية الشعوب العربية التي ساقها المغامر لاورانس العرب ذات يوم إلى الثورة ضد الخلافة العثمانية، قبل أن يقطع أوصالها الثنائي سيكس وبيكو، ويمزقها إلى شعوب وقبائل لا تتعارف، ابتلعتها الإمبراطوريات الاستعمارية، كل ذلك لا يفيد. لا الفلسطينيين المحاصرين داخل أسوار من التناقضات، قبل أن يحاصرهم الجدار الخرساني، والمعابر المغلقة مع الأشقاء، صممت في شكل متاهة معقدة، وقد ضاع منهم حبل أريان، ولن يفيد بقية الشعوب العربية الضائعة داخل متاهات، تقودها في طواف دائري مفرغ، نخب مغامرة قاصرة، في الحد الأدنى، إن لم تكن قد دخلت بالكامل في دورة تآمرية، وقد فكت الارتباط بالكامل بينها وبين الشعوب. * * عقدة الخوف من الشعوب * القضية الفلسطينية، ومعها الصراع العربي الإسرائيلي، يمنحنا مفتاحا لفهم التاريخ المعاصر للعالم العربي، وتعقب المطبعات، والمنعطفات الحاسمة التي قادت شعوبنا إلى هذا السجن الكبير، مع سعة الجغرافية الممتدة على 14 مليون كلم مربع، لا يختلف كثيرا عن سجن غزة: نموذجه المصغر، فالسمة المميزة المشتركة للمعتقلين: عماء القلوب عند النخب، وعماء الألوان عند المحتجزين من شعوب المنطقة، ورضاهم بواقع الحال وكأنه قضاء وقدر. * لست متأكدا أننا اليوم ضحايا، صفوة حاكمة خائنة، ونخب مثقفة مساعدة تبتعد عن الشعوب مقابل دراهم معدودة، بقدر ما نحن أمام صفوة حاكمة خائفة مخدوعة، تعيش حالة حصار مزدوج، وتهديد من مطرقة "العقب الحديدي" الغربي، وسندان الشعوب بمطالبها، وحاجياتها المتراكمة، تهددها بالانفجار على مدار أيام السنة. * مشكلتنا في العالم العربي ليست بالضرورة مشكلة نظم فاسدة منغلقة، وإن كانت كذلك، ولا هي مشكلة تخلف متعاظم يتطور بوتيرة هندسية في الاقتصاد والتعليم والخدمات، ولا هي حتى مشكل غياب فضيع للحريات الفردية والجماعية. ولم تكن على الإطلاق لها صلة بفساد الخيارات والسياسات. فقد جربت النظم السياسية والاقتصادية المعاصرة، من رأسمالية دولة، واشتراكية، وليبرالية، ونظم الحزب الواحد، والتعددية السياسية، وقد فشلت جميعها، وسوف تفشل، كما سوف تفشل الصيغ الإسلامية، إن كتب لها أن تصل إلى السلطة، لأنها سوف تخضع لنفس المعالجات التي طالت النخب القومية والليبرالية، وقد رأينا بعضها يدجن أو يقاد إلى خيارات عبثية انتحارية، في السودان والجزائر والمغرب والعراق وفلسطين. * * العداء الغربي لبناء الدولة الوطنية * من أكبر المغالطات التي وقعنا فيها، ووقعت فيها النخب القومية، كما النخب الإسلامية، الاعتقاد أن الخيارات القومية ونخبها كانت مستهدفة لذاتها، لأسباب عقائدية صرفة، أو أن الخيارات الإسلامية ونخبها تحارب اليوم بدوافع خوف الغرب من هيمنه القوى الإسلامية على المشهد العربي ، لأنني أرى أيضا قدرا عاليا من العداء الغربي لظهور خيار ونخب ليبرالية ديمقراطية أهلية، متحررة من التبعية، تحمل مشروعا وطنيا لشعوبها، متصلة بشعوبها، واثقة بها، لا تخشاها. * ها هنا في نظري بيت القصيد، فلا القومية العربية، ولا الحركة الإسلامية، بأطيافها المشددة والمنفتحة على الحداثة، تشكل تناقضا مع الغرب المهيمن، المقبل على افتراس المنطقة سياسيا واقتصاديا وثقافيا. فالقوى المهيمنة المفترسة هي على استعداد للتعامل مع القوميين والإسلاميين، ومع جميع أشكال وأنظمة الحكم، إن هي أنست منها أمران: * الأول: القصور المركب فيها، أو الذي ترضاه بمحض إرادتها في تصور سياسات وبرامج حكم، من شأنها تحقيق قدر من الاستقرار والنمو داخل البلد القطر. * الثاني: الرغبة والقدرة على إحباط أية محاولة في اتجاه بناء شكل من أشكال التقارب والتعاون بين الأقطار العربية، ناهيك عن الأفكار الوحدوية، الإقليمية أو القومية، بمعنى آخر أن تكون هذه النخب كيفما كانت، قادرة، وعندها الاستعدادات على إدارة الجمود والإسبات الشتوي المتواصل في هذه المنطقة من العالم. * * يداك أوكتا وفوك نفخ * والحال، يكون من العبث المراهنة على الخيار والنخب الإسلامية، كما كان من العبث المراهنة على الخيار والنخب القومية، وسيكون من العبث الرهان على خيارات ونخب ليبرالية، ما لم نفكك ونحلل ونفحص العقد المزروعة في جسم الأمة، أرى أن أخطرها على الإطلاق دخول النخب التي تصل إلى الحكم في عداء مع الشعوب قبل الدخول في مواجهة ومصارعة القوى المهيمنة. * في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أضاعت الشعوب والنخب القومية فرصة الإفلات من هذا المصير، فمع وجود رؤية قومية ووطنية صادقة في طموحاتها لاسترجاع السيادة القطرية، والوعي باستحالة بناء أمن قومي خارج تحقيق قدر من التضامن العربي، فإن تفردها بالسلطة، واستعداء قوى مثل الإسلاميين واليساريين، وعجزها عن تحقيق قدر من المشاركة الشعبية، قادها إلى خيار تأمين نظام الحكم، بدل تقوية وتأمين الدولة. المحاولات اليائسة التي نراها اليوم في اتجاه تحقيق قدر من التقارب بين الخيارات الوطنية القومية والإسلامية، جاءت متأخرة، في زمن قد استبعدت فيه القوى الوطنية والقومية من السلطة، ودخلت الحركات الإسلامية في تجارب مسدودة الأفق، لا تخرج عن ثلاث حالات: المشاركة في السلطة، داخل نظم حكم ليس لها هوية، محكومة بعقدة الخوف من الشعوب. أو دخولها في عداء وخصومة غير محسوبة العواقب مع النظم انتهت بمآسي. أو أنها قفزت مباشرة إلى أخذ اعتماد وتزكية من القوى الغربية المهيمنة، كما نرى مع الأحزاب الإسلامية في العراق، والإخوان المسلمين في سوريا. وليس في الأفق قوى إسلامية ناضجة، حاملة لمشروع بناء الدولة بالشراكة مع باقي القوى الاجتماعية والسياسية، وإن وجدت فإنها سوف تخضع لنفس المعالجة. * * انحسار مساحة الخيارات * ما العمل؟ سؤال افتتاحي، طرحه لينين من قبل، ويفترض أن تطرحه بقوة القلة القليلة من النخب المستنيرة التي يقع عليها واجب إنارة الطريق لشعوبها، وفك الطلاسم، وحل العقد. كتمهيد للجواب، أو لأحد الأجوبة، دعونا نبني على ما هو قائم، وما هو ممكن، فعهد التغيير بالعنف قد ولى، أو على الأقل لم يعد بيد الشعوب، وهو فوق ذلك مكلف وغير آمن، كما بطلت أحاجي وأساطير التغيير من الداخل، عبر المشاركة في مسارات ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، نرى كيف يطاولها التزوير والعبث حتى داخل قلاع الدول الليبرالية. ولن يجدينا كثيرا التعويل على النضال السياسي والاجتماعي السلمي، أو على حملات النقد والشجب، ولا على العنف العبثي، وتهييج الشعوب، وقيادتها إلى صدامات خاسرة مع سلط بوليسية، فلن نحصد من هذه المقاربات سوى على مزيد من التخويف للنخب الحاكمة، ومزيد من ارتمائها في أحضان القوى الغربية المهيمنة. فما الذي يبقى للشعوب والنخب التي سلمت من مغامرات العنف، ومن الاستقطاب الغربي، وعملية شراء الذمم التي تمارسها الأنظمة لكسبهم أو تحييدهم؟ * * البحث الطيب عن حلف المطيبين * الشعوب كيانات خرساء، حيوان صامت، كتلة من الطاقة الجامدة، ومنجم لخامات لا تنضب وطاقات جبارة متجددة، غير أنه لا يمكن تحميلها مسؤولية المبادرة، ولا ينبغي أن تترك لها المبادرة، لأنها لا تتحرك إلا عند اليأس، ولا تتحرك إلا في اتجاه الشغب المنفلت، لكنها عندها على الدوام، قابلة للانقياد لما تعرضه عليها النخب، حين تلتمس عندها قدرا من الصدق والإخلاص، وفي الحالة التي تعنينا فإن الشعوب العربية لها استعداد لتقبل مبادرة تدعوها، مع انسداد السبل أمام الخيارات الأخرى، إلى هدنة طويلة الأمد مع نظم الحكم والنخب الحاكمة، ولِم لا عقد حلف فضول معاصر، شبيه بعقد المطيبين بنفس المضامين التي تعاقدت عليه القبائل العربية الخمس أيام جرهم، وزكاه الرسول صلى الله عليه وسلم، بالقول: شهدت في دار عبد الله بن جُدْعان حِلْفاً لو دُعِيت إِلى مثله في الإِسلام لأَجَبْت. * ونحن اليوم أكثر حاجة من قبائل العرب إلى مثل هذا الحلف الذي يبدأ بعقد هدنة طويلة المدى مع حكامنا، حتى مع ما نعلم من فساد الأنظمة واستبدادها، ثم نطمئن النخب الحاكمة بما ترتضيه من العهود، على ما بين أيديها من امتيازات سياسية ونفعية، ونعفيها من التنافس معها على السلطة الذي يرعبها ويخيفها من الشعوب، مقابل أن تتحرر النخب الحاكمة من التبعية والهيمنة الأجنبية، وتقبل بدورها بواجب طمأنة الشعوب على مكونات الهوية الدينية واللغوية والثقافية، وصيانة الحقوق الأصلية للأفراد، في الأنفس والأموال والأعراض، والاجتهاد قدر الإمكان لبناء دولة مؤسسات قادرة على الدفاع عن السيادة الوطنية، وثروات الأمة، وأمنها القومي، والسعي إلى تحقيق الأمن والاستقرار الضروريين لأي مشروع تنموي مستديم. * الدعوة إلى مثل هذه الهدنة تعني، بالضرورة، استعداد جيل كامل للتضحية بحقه في المشاركة السياسية، وتداول نخبه على السلطة برضاه، وتعني الاستعداد لمنح عفو شامل للنخب الحاكمة، وطمأنتهم من أي نوع من أنواع المتابعة، حتى في ما اقترفوه سابقا من جرائم في حق الشعوب، بالقدر الذي يسمح بإخراجهم من دائرة التهديد والابتزاز والتخويف الذي يلجئهم إلى أحضان القوى الغربية، ويؤلبهم على شعوبهم، لأننا بحاجة إلى بناء دول قادرة على تأمين القوت اليومي والماء الشروب، والحد الأدنى من الخدمات، ومثله من الأمن على الأنفس والأموال والأعراض، وتأمين خيراتنا من الافتراس الغربي، وصيانة ما بقي من مقومات الهوية إلى حين