تعوّد الدّعاة والأئمة أن يركّزوا في دروسهم ومواعظهم، وخطبهم، ومحاضراتهم في شهر رمضان المعظم على وصفه بأنه شهر الرحمة، وشهر المغفرة، وشهر التوبة، وشهر البركة، وشهر الجهاد، وشهر الصبر، وشهر العتق من النار.. وكل أولئك صحيح، وله أدلّة من كتاب الله الحكيم، وحديث رسوله الكريم.. * * لكنني لاحظت في الأماكن التي حضرت فيها، والدروس والمحاضرات والخطب التي استمعتُ إليها إغفال المتحدثين أو نسيانهم الحديث عن أول صفة من صفات هذا الشهر العظيم، وأعني بها صفة العلم، حيث كان أول آي الذكر الحكيم نزولا على قلب سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام- هي أمر الله الحكيم الخبير إلى رسوله البشير النذير بالقراءة، وذلك في قوله - عز وجل- "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم". وقد لفتت هذه الحقيقة نظر أمير الشعراء أحمد شوقي، فصاغها في كلام جميل منه: * ونودي "اقرأ"، تعالى الله قائلها لم تتصل قبل من قيلت له بفم * جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم * أخوك "عيسى" دعا ميتا، فقام له وأننت أحييت أجيالا من الرّمم * والجهل موت، فإن أوتيت معجزة فابعث من الجهل، أو فابعث من الرجم * وعلمت أمة بالقفر نازلة رعي القياصر بعد الشّاء والنعم * وقد علق المستشرق البريطاني مونتجومري وات على هذه الآيات بقوله: "فالأمر بالعبادة هو أول ما يمكن انتظار صدوره بالنسبة لمحتوى رسالة القرآن الرئيسة" (محمد -صلى الله عليه وسلم- في مكة. ص86) وقبل أن أورد تعليقا آخر لمسيحي عربي هو نصري سلهب على الآيات نفسها، أنبّه إلى أن هذا المستشرق البريطاني سها عن حقيقتين إسلاميتين هما: * إن العلم في ديننا عبادة.. والأدلة كثيرة في هذا الشأن * إن عباداتنا مبنية على العلم، ولا تصح عبادة بغير علم. * وأعود إلى تعليق العالم المسيحي نصري سلهب على الآيات الأولى نزولا، حيث يقول: "ولكن موطنا منها - مواطن الروعة والعظمة في نزول الوحي- يستوقفني، بل يطربني، بل يهزني فيجعلني أؤمن بعظمة الإسلام وروعة رسالته، أولى الآيات البينات، باكورة كلام الله إلى محمد، بل باكورة كلام الله إلى البشر أجمعين كانت تلك الدعوة لرائعة إلى المعرفة، إلى العلم، عبر القراءة، لا القراءة العادية المألوفة، بل القراءة باسم الرب الخالق.. إن الإسلام جاء يمحو الجهل، وينشر العلم والمعرفة.. وهكذا يتضح لنا أن أولى آيات القرآن احتوت الأداتين اللتين نهضتا بالإنسانية من الظلمة إلى النور، من الجهل إلى المعرفة من الضلال إلى الهدى"، (في خطى محمد - صلى الله عليه وسلم -ص 91 - 92). * وما أجمل قول الإمام سفيان الثوري، وهو: "الرجل أحوج إلى العلم منه إلى الخبز واللحم". * إن العلم حياة، والجهل موت، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر في قوله: * وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور * وإن امرؤ لم يحي بالعلم ميت وليس له حتى النشور نشور * إن هذا الشهر العظيم فرصة ليذكر فيه السادة الأئمة والدعاة الناس بأول أمر أنزله الله - عز وجل- على رسوله- عليه الصلاة والسلام- وعلى المؤمنين به، وهو العلم، وإن القرآن الكريم لهو المنجم الذي لاينضب للعلوم والحكم. * وقديما تخيل شاعر مناظرة بين العقل والعلم، فصاغها في هذه الأبيات الحكيمة: * علم العليم، وعقل العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد أحرز الشّرفا * فالعلم قال: أنا أحرزت غايته والعقل قال: أنا الرحمن بي عُرفا * فأفصح العلم إفصاحا وقال له: بأيّنا الله في فرقانه اتصفا * فبان للعقل أن العلم سيّده فقبّل العقل رأس العلم وانصرفا * فاللهم علّمنا ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.