في المهنة المحنة.. نقف كل يوم في مربعات الأسئلة.. نطرق بابا نتسول جوابا.. ننشد.. نشدّ على حقنا في بعض الحقيقة حول سؤال حائر.. سؤال حق.. سؤال عاقل.. سؤال مجنون. سؤال ثائر.. سؤال قد يبدو أحيانا جائرا.. * تستغرقنا عملية الطّرق لوقت نكتشف بعضا من وجه (حق)، أغرق في التشويه حد الخرق.. حد الحرق.. استبيح حد حالة (رق).. ويظل السؤال يلح، ويظل الجواب المنتظر يحضر في المختبر.. بحسب المقاسات.. بحسب الجرعات.. لسؤال صار يحتضر.. ثم من انتظارنا.. من تعب أسئلتنا يخرج.. يولد أخيرا ما يشبه الخبر.. يولد أحيانا دون ملامح.. دون هوية.. دون رؤية.. دون بصر.. حين تفرض الحالة.. حين ننفرد بالحالة (الخبر) ملوّثة مشوّهة معاقة.. مهشّمة.. كسر في الجمجمة.. وفي اللّسان على الشفاه قيد وبتر.. أمام الحالة نحاول تجميع ما توفر.. ما من الجواب قد ظلّ.. في محاولة لمقاربة حق السؤال في جواب مباشر مختصر.. لا يحتمل التأويل، ولا يحتاج إلى معاجم علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع حتى يفسر!!! * جواب فوق دفاترنا يولد.. فوق دفاترنا يكبر.. في عيوننا يرى.. بعيونه ننظر.. به نجهر.. به نخبر.. به نظفر.. به للسؤال ننتصر!!! * هذه حالة الجواب المعتقل في الأدراج وفي السرايا، ولكن هناك أجوبة تقتلها الحسابات والتقديرات على الفاتورات الشخصية بين هوامش ربح وخسارة ظرفية.. وتلك المعلقة على زمن قادم.. كل معلق الحلم فيه على تهيؤات وانتظار، وأحيانا على مجرد وهم.. ينظّفه صاحبه.. يرتقي به إلى مرتبة الأمنية. * وفي تجربة المهنة المحنة.. يظل السؤال هو المحرك.. هو المؤرق، ولذلك يحدث أحيانا أن نركب (دماغنا)، ونذهب به إلى أبعد الحدود.. أبعد من الحدود.. وذلك حين نصاد.. أو نعيش تجربة.. تولد وتظل مفردة لا تثنّى.. لا تجمع أبدا.. لا تقاس بغيرها من التجارب.. لأنها تكون جزءا من واجب.. تجربة الصحفي.. الذي يقرر حلما.. يقتفي... صحفي يقرر للحظة خلع ثوب المحايد.. يستعير عباءة التاريخ لينخرط في حلم مناضل.. حلم محارب.. يقف في معترك دورة لتاريخ يرفض الحراك، يرفض الحوار يرفض التجاوب... صنفنا دائما.. صرفنا فعلا ماضيا.. مع ضمير.. مع مصير الغائب.. * وعيله فقد كانت التجربة.. فقد قرّرت فجأة ودون سابق ترتيب أو حساب أن أغامر، أن أسافر، أن أذهب بعيدا على غير موعد، ودون انتظار، لأن الظرف لم يكن يتيح هامشا للاختيار، قد يكون لقاء العمر أن حدثا سيكون بمدى انفتاح أفق لسفر الحلم العربي إلى أزمنة تخرج القائمين والقاعدين من أولياء الأمة ورعاياها إلى حيّز جديد للتاريخ، ينهي حقبة المظالم، ويثبّت الحق والمطالب. * لأول مرة يجري الحديث عن أن العرب سينتقلون من زمن وحالة (الأمة الأزمة) موضوع ومادة صناعة قرارات الآخرين إلى زمن صناعة قرارها المنيع، الحصين، إلى زمن التصحيح لحقائق التاريخ، إلى زمن بعث التّاريخ، تاريخ نكتبه بأسمائنا، لأبنائنا وللآخرين.. تاريخ نفرغه، نطهّره من ترسّبات وبقايا الحقد الدفين، من سموم من عبروا، من أكاذيب من خدعوا، من خانوا، من غدروا، من نكثوا العهود لعقود، لمئات السنين، من ساووا بيننا في الهوان وتساووا في الدّور جميعا، مبشّرين ومتنوّرين وغازين. * من بازل إلى سايكس بيكو إلى وعد بلفور، من مفاوضات الكيلومتر ((101 إلى كامب ديفيد، ومن مدريد إلى أوسلو، ثم إلى واي بلايتيشن، وواي ريفر، ثم كامب ديفيد الثانية والثالثة والرابعة، كان تاريخ العرب (كله) مجرّد املاءات، وكان لسان الموقف دوما تلوين للغة الاستجداء دون حياء!! يتبع بسيل من الاستجابات، وفي مفصل قامة الأمة كسر عظم الظهر، وفتحت مكاتب في الضمائر للتدريب على الانحناءات، بيانات تفسّرها بيانات، وتوصيّات لمن حضروا وتكليف بمهمات، إبلاغ من غابوا عن الحب والشكر المسبّق لأنهم قبلوا سلفا ان يوضعوا على قائمة الأموات. * بيانات الحكومات قالت و(تقول): إن الرجال (رجال كل المهمات) انجزوا دوما و(ينجزون) ما لا ولم يكن أبدا في الحسبان، وأنّهم لم يساوموا ابدا ولم يفرطوا، وأنهم قبلوا، ولم يجبروا، وأن لكل فارس (كبوة)، وقد جاء زمن استراحة المقاتلين الذين دخلوا بنا حاظرة التاريخ وله انتصروا؟؟؟؟ لهم انتصروا!!! * تاريخ بهذا الزخم، بهذا الشؤم.. تاريخ أضحى دون لون ولا طعم، تاريخ بهذا الكم من البكاء والألم كان يستدعي فعلا ان نهرع إليه.. إلى القادمين المتهيئين المتوثّبين إلى صنعه إلى تصحيح مساراته، لكي نستوثقهم، نأتمنهم، نستحلفهم أن لا يبيعوا ما تبقى من قضايانا، أن لا يقايضوا ما تبقّى لنا من شرف مقابل كل (قيم) بورصات العالم، أن لا يخدعوا مرّة (أخيرة) بخطب التمجيد لشجاعتهم ولمهاراتهم في صناعة السلام، لكي لا يكرّسوا مجرد (درجات) في سلالم.. (رجال سلالم)، وحتى لا يحضوا (بشظف) التكريم والترشيح لجائزة نوبل للسلام، وتقاسمها مع من لا (نبل) لهم، ومع من اغتالوا الحلم في أعيننا والسلام. * في خريف عام واحد وتسعين كان الحديث جاريا عن ترشيح الدكتور "بطرس غالي" إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، وكنت منذ لحظة الإعلان تلك أحلم أن أظفر بلقاء معه، ليس لكي أسمع منه، بل لكي أسمعه تفاصيل رؤيا تمثّلت لي يوما ولم أصدّقها، واعتبرتها شكلا من أشكال التهيؤات القريبة إلى الجنون، وهي أن العرب سيحكمون العالم يوما، وسيملأون قاراته خيرا وخبزا وبخورا وحبا وعدلا، وأنهم لن ينتجوا تاريخ الظلم والقهر والفساد على شاكلة الرجال الذئاب. * الإعلان عن الترشيح جاء إذن ليؤكد جانبا من الرؤيا، كان الدكتور بطرس غالي وزير دولة للشؤون الخارجية المصرية، حاولت بكل الوسائل الوصول لترتيب لقاء معه في القاهرة، ولكن ذلك لم يحدث، علمت من أوساط إعلامية مصرية أن غالي سيمثل الرئيس مبارك في قمة ال (15) التي كانت ستعقد في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، وأن ذلك سيكون آخر نشاط له كعضو في الحكومة المصرية، وأنّه سيغادر كاركاس إلى القاهرة، ومنها إلى نيويورك. * كان ذلك في نوفمبر (91) حملت رؤياي في راحتي إلى كاراكاس، بحثت عن غالي، ذهبت إلى مقر انعقاد القمة بالصدفة، رأيته يدخل مع أحد الأصدقاء، ودون كبير عناء كان اللقاء. * قلت للدكتور بطرس: إنني سأتحدث إليه بلسان مئات الملايين من البؤساء والجياع، من المساكين والمظلومين، من المسحوقين والمقهورين، عن حلم يريدون ان يحولوه الى يقين، سكت الدكتور بطرس لبرهة من الزمن، ثم قال: إنك تحملني من المسؤوليات أكثر مما قد يتيحه لي ميثاق المنظمة من صلاحيات، ولكنني بالرغم من ذلك أعد بشيء منذ البداية وهو أنّ صورة العرب ستتغير، وأن حقوقهم التي تتضمنها قرارات الشرعية الدولية سيجري تفعيلها، وأن الأممالمتحدة لن تكون مقبرة للحق العربي، بل منبتا ومنطلقا له. * قلت لغالي: إن المجتمع الدولي يعاني اليوم من سطوة من يمكن وصفهم بالقراصنة الجدد، المعتدين على حقوق الآخرين والضاربين عرض الحائط بالتشريعات والقوانين.. * يقاطعني غالي محتدا: لا أحد بعد الآن فوق القانون، وإذا اقتضى الأمر سننشيء ما يشبه الشرطة الدولية لفرض احترام القانون (لا أحد فوق القانون يؤكد ثانية!!!!) * أعد من عددتهم يقول غالي من المسحوقين والمظلومين، بأن نصل إليهم، بأن نرفع عنهم الظلم والحيف، لأن ولايتي ستكون ولاية للدفاع عن الإنسان حيث ما كان. * لا أعد الجياع بقوافل الإغاثة وأكياس القمح يقول غالي، بل بالمحاريث والبذور، لا أعد المقاتلين بالبنادق والقنابل، بل بحقهم في تقرير المصير والسلام.. وتشاء الصدفة (المحتمة) ان يكون فشل غالي مع السلام بالسلام. * كانت محنة البوسنة وكان حقد الصرب يتدفّق على الأرض، بقر للبطون وهتك للعرض بهمجية وجنون، وكان على غالي أن يدخل ساحة المواجهة بشرطته الدولية (قوات الاممالمتحدة) لوقف جريمة إبادة، جريمة ضد الانسانية. * زحف الصرب على كل أراضي البوسنة إلا مدنا سبعا أعلنها غالي (ملاذات) آمنة، اكتسح الصّرب المدن السبع (الملاذات) وكان آخرها سيبرنيتسا، التي أبيد فيها في ليلة واحدة سبعة آلف شخص تحت أنظار قائد هولندي للقوات الدولية، بعد أن قيد بعض أفراد فرقته، وشدوا إلى أعمدة الكهرباء امعانا في التحدي والاهانة (لغالي) وشرطته الدولية، * استبدل الغرب دور (غالي) بدور الأطلسي لكي يثبت فشل الرهان على سياسة رجل (بال)، وجاءت أمريكا بالفرقاء جميعا إلى دايتون، وأملت وثيقة (سلام) على الجميع وأرغمتهم على االتوقيع!! * ولكن ڤانا تظل أكبر من الإهانات لغالي ولنا!!!!!!!! * في لحظة ننسى الأممالمتحدة، لا نعرف من شرع لها، لا يهمنا دورها ولا رسالتها، ننسى عدلها المفترض وقيمها!! وبحمية عربية نقول: نعرف غالي، غالي منا، غالي ابننا، غالي اخونا وقواته هنا لحمايتنا!!!!!!!!!! * غالي هو الوالي هكذا هيئ للأمهات وللأطفال، الذين للحظة صدقوا كذبة العالم وغالي الكبيرة، ولاذوا بأحد مخازن الأممالمتحدة في قانا اتقاء للشر الاسرائيلي. * ودون انتظار، دون إنذار جاء شر إسرائيل، قذيفة واحدة جاءت بالموت، جاءت به عصرا بين مواعيد كل الصلوات، لم يكن هناك وقت للصلاة، لصلاة الأموات، للصلاة على الأموات، المكان أخرس الآن، يطبق على شفاه حاولت الرد (بصرخة) بطلقة، بلعنة، بأضعف الإيمان ولكن فات الأوان، ينزف الدم من بقايا أجسادهم ومن أرواحنا، يتجمع.. يتسرب ثم يخرج قامة بلسان، يطلع غابة أقحوان، يعلن عرس الشهداء!! يعلن أن القذائف لن تلوي أعناق الصوامع، لن تسكت الأذان، لن تخرس أجراس الكنائس.. لن تهزم الإنسان، * ولكن أين كان غالي حينها، كان في مكتبه، يكتب ديباجة بيان يستنكر فيه جنون قذيفة ويطالب بالتحقيق والتدقيق في موقع الاطلاق وتحديد المكان، حتى يتسنّى إعداد قرار للإدانة في حال ثبوت العدوان. * لقد شوهّت إسرائيل وجه (غالي) وبدّدت (عهده) وعهدته بصلف وهمجية.. مزّقت إسرائيل حلم أطفالنا الأخير، ولوّنت فجرهم بالدّم، وعلّقت مجيء الصباح لتاريخ قد لا يأتي الا حين يقرر الآخرون عبر أحد (أسفار تاريخ) تجار الدم وسماسرة السياسة. * وقفنا تحت قبة السماء حفاة نبكي قدرنا، نبكي غدنا، نبكي تاريخنا، ثم فجأة نسأل عن أسمائنا، عن ولاة أمورنا، يسود الصمت بيننا، فجأة يرتفع صوت قانا يعلن: أن لا أحد يجيب اليوم غير الشهداء، ونيابة عن الساكتين منا، نطق المعتقلون والسجناء.. لا بقاء.. لا حياء بعد قانا للمترددين والجبناء. * مرت سنوات، التقيت غالي وسألته عن الوعد (العهد) فقال: "لقد كانت خديعة ومؤامرة * أساله: على من؟؟ على حلمنا؟؟؟ على حقنا؟؟!! * قال: علينا! * قلت: من نحن؟ * قال: أنت وأنا؟!!! وأمة المظلومين والبؤساء.. * استطرد (أنا) متسائلا !! مندهشا!!! * صمت لمدة، ثم استدار واعتذر، وأنهى الكلام....!! * كانت تلك أشبه (بصفعة) (الصحوة) من كابوس في حلم سلام العرب، وعندها فقط أدركت أن زمن الحلم قد ولّى، وأن على العرب السلام.