الزميل احميدة يلتحق بجوار ربه الفقيد واكب كل تحولات الصحافة الجزائرية منذ عام 1975 كما هو دائما يأتي دون استئذان ويطرق أبواب السماء قبل أن يطرق أبوابنا، إنه الضيف الحجري الذي نزل إلينا أمس ونحن في غمرة فرحتنا بحفلنا ليبلغنا بنعي الزميل احميدة غزالي بسبب تدهور حالته الصحية منذ ثلاثة أيام بمستشفى مصطفى باشا الجامعي. * وأعلن هذا النعي غير المنتظر عن دقيقة صمت عفوية بقاعة التحرير جعلتنا نستغرب أن صدق الخبر أو نكذبه، نتحقق منه أو نمر عليه، لكن النعي كان حقيقة واحميدة غزالي فارقنا صبيحة أمس بعد معاناة باستعجالات المستشفى الجامعي مصطفى باشا، كابد في لحظاته الأخيرة مرض السكري الذي لم يكن يدري به. * احميدة البالغ من العمر57 سنة، صاحب الضحكة الدائمة والدعابة الحاضرة، غاردنا بعيدا عن الفرحة الأخيرة التي جمعت عناصر الشروق في حفلها الأخير، بسمته لاتزال في مخيلتنا جميعا وعباراته المضحكة نستحضرها كلما كنا على موعد للعمل معه أو مع بقية الزملاء، آسفين على رحيله المفاجئ والموجع لفريق تعوّد على خفة روحه. * احميدة غزالي المصوّر الصحفي، اسم عريق في الصحافة الجزائرية، بدأ مشواره منذ السبعينات مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في 1974 ثم انتقل إلى جريدة الثورة والعمل من 1975 إلى 1978 وفي هاته السنة انظم إلى مجلة الشبيبة الجزائرية وبعد سنتين التحق بجريدة الشعب، مكث بها سنة واحدة لينظم إلى فريق جريدة الوحدة ثم جريدة المساء الحكومية في 1985، وبقي فيها سنة واحدة لينتقل بعدها إلى أسبوعية المنتخب الرياضية وعمل فيها سنوات عديدة ليغادرها في 1995 إلى يومية الخبر وهي الجريدة التي مكث فيها أطول مدة في مشواره المهني ليحتضنه فريق الشروق اليومي ويضم صاحب الإبتسامه الدائمة إلى عمله في 2008، وها هو اليوم يفارق الكل إلى مكان سيؤول إليه الجميع، كل وميعاده، تاركا وراءه زوجة وولدا وحيدين، وتاركا زملاء له في الشروق وفي الساحة الصحفية لا يعرفون السوء في شخصه ولا يكنّون له سوى المحبة والتقدير. * عزاؤنا فيك يا احميدة أنك رحلت في شهر مبارك، ويوم مبارك، وأن هذه من علامات حسن الخاتمة، إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك لمحزونون. * ورغم أن مدير المستشفى سارع لإنقاذ حياتك بتوفير الرعاية اللازمة مع جميع التدخلات، إلا أنه سبق عليك الكتاب أن تمضي ساعاتك الأخيرة في المستشفى وسط زملائك المصورين وأسرتك الصغيرة الذين لم يتخلوا عنك... وما تدري نفس بأي أرض تموت.. مات احميدة بغرفة الإنعاش، لكنّه سيبقى حيا في قلوبنا، وستظل ألسنتنا رطبة بالدعاء لك أن يغدق الله عليك واسع رحمته وأن يجعل لك في الجنة متكأ ومستقرا وأن يسكنك جنات النعيم ويجعل قبرك روضة من رياض الجنة، آمين. * ووري جثمان زميلنا احميدة بعد صلاة عصر نهار أمس بمقبرة بن عمر بالقبة تاركا راءه أرشيفا ثريا من الصور بأكبر جريدة في الوطن. * الفقيد احميدة غزالي.. وداعا * ** أحميدة غزالي كان يجتهد في أن تكون صوره قريبة من الحقيقة * يتعاطف مع المحتجين ويستهويه العمل في أحياء الصفيح * مرت ساعات فقط على الرحيل المفاجئ للزميل احميدة غزالي جعله يفارق الحياة وإلى الأبد، أصدقاؤه وأهله في دار الصحافة لم يصدقوا بأنه غادرنا وإلى الأبد وترك مقالاتنا يتيمة بدون صورة. * المصور الصحفي احميدة غزالي هو واحد من المصوريين الذي جمعتني معه علاقة مهنية في جريدة الخبر وعلى مدار ثمانية سنوات كاملة اكتشفت فيه روح العمل والجدية والإتقان رغم أن هذا لايظهر جليا في شخصيته المرحة جدا، كان دائما يرغب في الخروج للعمل معي لأن التحقيقات والروبورتاجات حول الجزائر العميقة كانت تستهويه، وكذلك معاناة مواطنين الأحياء القصديرية، حيث كان دائما يبدي تعاطفا مع انشغالاتهم، ولايمكن في هذه الأسطر أن أذكر العدد الهائل من الخرجات معه في مختلف أحياء وبلديات العاصمة. * احميدة غزالي عملت معه كذلك في جريدة الشروق فكانت الخبرة والتجربة تطبع كل الصور التي يلتقطها، حيث لا أبذل أي مجهود في توجيهه عند خرجتنا، فهو يعرف ماذا يفعل.. وكان آخر عمل جمعني به بحي تريولي بباب الوادي أين التقط صور تحطيم بعض المرافق من قبل شبان الحي إثر نشوب نزاع بينهما. * سيكون من الصعب تكوين مصور صحافي بتلك القدرات وبقوة ملاحظة فريدة تجعله يستغل كل التفاصيل في التقاط صورة اجتهد كثيرا في أن تكون قريبة جدا من الحقيقة، وذات صلة بالمجتمع الذي يعرفه ويفهمه بشكل جيد. * بلال زواوي (رئيس قسم التصوير بجريدة الشروق): منضبط وسباق في تغطية المجازر خلال التسعينات * يقول بلال زواوي أنه في أواخر التسعينات كان المصور الراحل احميدة غزالي الوحيد الذي كان يملك السبق في المعلومة الأمنية بحكم خبرته في تغطية أبشع المجازر التي كانت ترتكب في الجزائر وكان السباق في الوصول إلى موقع الحدث، ويحتار زملاءه المصورون يقول بلال كيف يصل قبل أي مصور آخر، فكان مرجع في دار الصحافة الطاهر جاووت، لايمكن الاستغناء عن خدماته، أما خلال عمله في جريدة الشروق كان أكثر المصوريين انضباطا في عمله، وكان عندما يكلف بعمل في الميدان يفضل عادة تغطية حدث يتفاعل معه ويحس به. * وأضاف بلال الذي عمل معه أزيد من 08 سنوات في جريدة الخبر بدى فيها منضبطا ومثابرا ولا يرفض العمل رحمه الله. * * كل العلماء والدعاة الذين كرمناهم سيدعون لك * الموت الذي يأتي بغتة ليسرق أشخاصا يدورون في فلكك اليومي، أقسى أشكال الموت، فهو يحفر عميقا في القلب ويخلف حالة ذهول وخوف وضياع في أسئلة الوجود. ذلك ما حدث للزملاء لدى نزول خبر وفاة الزميل المصور الصحفي احميدة غزالي، الذي طالما اقتنصت آلة تصويره عشرات الصور التي دخلت التاريخ. * هكذا يمضي الأقرباء إلى القلب مخلفين وراءهم حالة دمار داخلي، ورحيل الزميل احميدة ترك حالة حزن عميق في داخلي، خاصة عندما يمر شريط الذكريات أمام عيني الغارقتين في دموع صامتة. كان آخر عمل جمعني به هو تكريم الأستاذ محمد فارح عندما ذهبنا معا نبحث عن بيت هذا الأخير في زوايا وسط العاصمة.. أتذكر أننا تهنا وكان الجو حارا كما منعتنا هواتفنا النقالة الجائعة من الموجات من الاتصال بالأستاذ محمد فارح، وكان احميدة النشيط كعادته يبعث في الأمل كلما أحسست بالضجر، وعندما أكملنا مهمتنا أهدانا الأستاذ فارح علبة من الحلوى وطلب منا تسليمها للسائق، فحملها احميدة إليه طالبا منه توزيعها على زملائه السائقين. * ولعل أهم ما ميز يومياتي مع هذا الرجل الذي قضى حياته متأبطا آلة تصويره مشاركتي في تكريمات العلماء، حيث كان أول من رافقني من المصورين في إنجاز البورتريهات وكذلك في تصريو اللقاءات التكريمية، وكان حريصا جدا على أن تكون الصور غاية في الإتقان، وعندما سألته عن سبب اهتمامه الشديد بهذه الصور قال لي بكل براءة وعفوية "لقد التقطت آلاف الصور لكني أعتقد أن صور العلماء هذه ستساهم في إدخالي إلى الجنة". * الموقف الآخر الذي بقي راسخا في ذاكرتي، يوم الزيارة الأولى للداعية عمرو خالد إلى الجزائر. كلفني رئيس التحرير بإجراء حوار معه لدى وصوله إلى المطار، وكنا نجهل تماما موعد الطائرة، لكن احميدة الذي رافقني في المهمة قال لي "لن يفلت من عدستي، وسأعرف توقيت الطائرة من أصدقائي في المطار"، وبالفعل عندما وصلنا إلى هناك أخذ يسأل ويبحث حتى جاء بتوقيت الطائرة الذي كان في تلك الأثناء، فانطلقنا نجري على نفس واحد إلى غاية القاعة الشرفية للمطار، فدخل احميدة وأخذ يلتقط الصور الأولى لعمرو خالد في الجزائر. * وكثيرة هي المواقف التي جمعتني به في العمل "أحداث غزة، تغطيات متنوعة، حوارت.." وكثيرة أيضا المواقف الطريفة التي كانت تجمعنا بالفقيد في قاعة التحرير أو في نادي الجريدة، خاصة عندما يمازحه محمد بغالي الذي اشتغل معه طويلا.. وكانت آخر مرة تحدثت فيها مع الفقيد قبل أيام عندما لمحته في قاعة التحرير متعبا ووجه مصفر، سألته إن كان الصيام أتعبه فقال لي "بطني جائعة لكن مرضاة الله تستوجب الصبر". * غادرنا الفقيد احميدة فجأة في هذه الأيام المباركة من أواخر شهر رمضان المعظم، والملائكة تحف الكون بعطر بشائر العيد.. ربما كان ابنه ينتظر منه هدية العيد، لكن هو القدر.. ولا نملك إلا التسليم له. رحمك الله الأخ العزيز احميدة. * * وزير الإتصال يعزي الشروق في فقيدها * تنقل كاتب الدولة لدى الوزير الأول المكلف بالإتصال، عز الدين ميهوبي أمس إلى مقر الشروق اليومي فور سماع خبر وفاة الزميل المصور احميدة عزالي، وذلك لتقديم التعازي ومواساة الساحة الإعلامية عامة والشروق اليومي بصفة خاصة في فقيدها. * وبعبارات صاحبها الكثير من التأثر والحزن قدم ميهوبي لكل فريق »الشروق اليومي« تعازيه، من دون أن يفوت فرصة التذكير بمناقب وخصال الفقيد الذي كان لوقت مضى زميلا لوزير الإتصال عندما كان يشتغل صحفيا بجريدة الشعب، أين كان الفقيد يعمل بجريدة المساء الحكومية، وشهد بخفة روحه وتسامحه الكبير وحسن خلقه فشكر الله سعي الوزير وأسكن فقيدنا جنات عدن، وألهمنا وذويه جميل الصبر والسلوان. * ** وإنا لفراقك يا احميدة .. لمحزونون * بقلم: مصطفى فرحات * ليس ثمّة أصعب من أن تكتب عن صديق.. سوى أن تكتب عن صديق فارق الحياة دون أن تودّعه، ولهذا أُصبنا جميعا بالذهول ونحن نتلقى صبيحة أمس خبر رحيل احميدة.. * وليس ثمّة أصعب من مهنة الصحافة.. فهي تفرض عليك أن تكون مهنيا حتى وأنت تعبّر عن مشاعرك تجاه صديق فقدته، كما يُملي عليك الواجب أن تبقى واقفا صامدا لتكون شاهدا على العصر، إلى حين أن يأتي من يحمل المشعل ويصبح شاهدا عليك.. هذا هو قدر الصحفي.. وهذا هو قدر احميدة... وهذا هو قدر الإنسان في هذه البسيطة. * ليس سهلا أن تودّع رجلا فارق الحياة ولم تقل له وداعا.. لاسيما وأن أول ما ستفتقده بعد رحيله ليس آلة تصويره التي ترى ما لا يُرى وتفضح الرداءة أينما كانت.. وليس حضوره اليومي في المكتب.. لأنه رجل ألف الميدان ولا يعتبر المكتب سوى نقطة فاصلة بين ميدانين، وبين حدثين.. وإنما تفتقد بسمته التي لم تفارقه يوما، حتى وهو يصارع المرض الذي نخره من الداخل، ولا نحن ولا هو كنا نشعر بذلك. * كان يبدو شاحبا منذ بداية شهر رمضان.. نمرّ عليه الواحد تلو الآخر ونقول له بلهجة المُداعب: "واش آحميدة.. غلبك رمضان وما خلاّ فيك والو".. يضحك ثم يجيب كمن يعتذر على شيء لم تقترفه يداه: "أنا متعب قليلا".. وافترقنا على هذا.. قبل أن يصلنا نعيه. * عندما تستعرض عمل الصحفيين، تتفاجأ كيف يعيشون يوميا تحت ضغط المهنة وهاجس الأحداث، وإن تعجّبت من حملة الأقلام الذين ينقلون الأخبار ويعلقون عليها، فإن العجب والدهشة يكونان أكبر عندما تتذكر عمل المصور الصحفي. * في قلب الأحداث.. ما بين الأحزان التي تتهاطل علينا كل صباح.. كان احميدة يأخذ عُدته ويحمل آلة تصويره.. ليُخلّد الآلام وما أكثرها في وطننا العزيز ويجعل منها صورة حية تبقى ناطقة حتى إذا سكت الجرح وصمت الحُزن.. تتساءل عن شعوره وهو يُلاحق بعدسته ما خلفته يد الغدر من ضحايا.. كيف له أن يصمد أمام هذه المشاهد، وهل هو يصوّر المأساة أم هي التي تُصوّره وتطبع فيه جزءا من مخلفاتها التي تراكمت وتراكمت.. فأصابته في مقتل، لتكتشف بعد رحيله أنه كان يحاول جاهدا ألا يبكي وهو يلتقط صور الضحايا ويتبع أشلاء القتلى في تفجير أو حادث مرور حتى لا تشوش دمعته لقطة العدسة.. لأنه ككل رفقاء مهنة المتاعب آلة تصوير تسجل جزءا من التاريخ حتى لا ينسى الخلف ما عاشه السلف. * وحتى في قلب أحداث غزة.. كان يتمنى أن يكون هناك ولم يستسغ جلوسه هنا، على بعد آلاف الأميال من المجزرة.. ولهذا راح يستعيض عن ذلك بمتابعة أخبار المقاومة في غزة أولا بأول.. ويسردها على زملائه.. كما كان يتابع أزمة إيران مع العالم الغربي، ويطل علينا كل صباح بحوصلة الأحداث بغيرة المسلم على أمته، لا بمنطق الإعلامي أمام الأحداث. * تحاول أن تكتب عن صديق فارقك فجأة، فلا تدري.. أتبكي وأنت تستحضر ذاكرتكما المشتركة.. أم تكتب.. أتنقل الجرح من الواقع إلى الورق.. أم تترك لغيرك مهمة دفنه، في حين تتولى أنت، وكل من عرفوه من حملة الأقلام، مهمة بعثه ونشره. * رحمك الله يا احميدة.. فما آلم فقدك.. ولا نملك لك سوى دعوات نرفعها إلى الله أن يتغمد روحك بواسع رحمته، في هذه الأيام المباركة، وهو الذي لا يَخيب راجيه، ولا يُردّ داعيه.