بداية أعتذر لجمهور القراء وللعالم الفاضل "فاروق الباز" عن نشر هذه الحلقة اليوم بدل الخميس الماضي بسبب مقابلة الجزائر ومصر في أنغولا، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل التالي: ما مدى إمكانية توجيه الرأي العام نحو الاهتمام بالقضايا الكبرى، بدل التسليم بظلم ذوي القربى من الذين زين لهم الشيطان سوء عملهم فضلوا وأضلوا بمشاركة مقصودة من بعض السياسيين والمثقفين؟ * * وفي انتظار الإجابة، إذا جمعتنا الأقدار ذات يوم بعد أنكر اليوم كل خل خله، وأصبحنا اليوم في أوطاننا العربية غرباء، نعود إلى ما هو أكبر من خلافاتنا الراهنة.. إلى مواصلة الاستماع للدكتور فارق الباز، سعيا لتعميم المعرفة وما يتبعها من فائدة، بلغة أهل الجد، وبعدا عن جماعات اللهو الخفي والظاهر. * يذهب الدكتور الباز إلى الحديث عن مسألة البحث العلمي في دولنا العربية، وعلاقتها بالقرار السياسي من خلال تجربتي الزعيمين الراحلين جمال عبد الناصر وهواري بومدين، كونهما يمثلان تجربة رائدة، فقد سعى كل منهما إلى محو الأمية واستنهاض المجتمع من خلال اعتماده على أهل الثقة على حساب أهل الخبرة، فترتب عن ذلك سيطرة العسكريين، الذين لم يكونوا على دراية بشؤون الحياة المدنية، وهو ما ندفع نتائجه المؤسفة إلى الآن، * لذا يرى الدكتور الباز أن جيله لم يحقق أهدافه المنشودة، وعليه أن يتنحى اليوم ليفسح الطريق للأجيال الجديدة، حتى تتمكن من التقدم والمشاركة في الحضارة العالمية، كما جاء في مقال له نشر عام 2006، تحت عنوان "جيل فاشل"، لهذا لم يعد التصور العربي القديم لمنظومة التربية والتعليم، لجهة الاعتماد على الكم على حساب الكيف، مقبولا. * من جهة أخرى يرى الدكتور الباز أن "الأسباب الرئيسية للفشل الجماعي في تحقيق الأهداف على مستوى الوطن العربي -مصر عبد الناصر وجزائر بومدين، نموذجان- تكمن في الوسائل التي استُخدِمَت للوصول إلى الهدف المنشود.. لقد كان العنصر المشترك في كل منهما هو الاعتماد على دعم المؤسسات الواهية وليس بناء واحترام الإنسان القادر على القيام بالعمل، حيث كانت المؤسسات الحكومية بأكملها غير قادرة على العمل بل عملت على تأمين مستقبلها أولا وأخيرا، وأنشأت وسائل إعلامية استخدمت فقط للحفاظ على نفسها وانتشر الفساد واللغو وتخدير المواطنين بطنين إنجازات كاذبة، بالرغم من النوايا الطبية من جهة وما أحدثته من تغيير في المجتمع من جهة أخرى. * ويضيف الدكتور الباز: إن تجربة الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر في الخمسينيات وتجربة الثورة الجزائرية بعد الاستقلال بقيادة هواري بومدين في الستينيات من القرن الماضي، كانتا مشحونتين بالوطنية والعروبة -على المستوى الوجداني- ودعم القضايا العادلة للشعوب في سياق الوضع العالمي، ولم تكونا فاسدتين أو مدافعتين عن الفساد، لكن المؤسسات التي تم الاعتماد عليها في التجربتين لتحقيق أماني الشعبين أهدرت طاقاتهما وخيبت آمالهما. والسبب أن القيادة في الدولتين اعتمدت في إدارة مؤسساتها على "أهل الثقة" الذين عينوا في مواقع فاعلة وحساسة بدلا من أهل الخبرة والمعرفة، وهكذا بدأ التأخر والتراجع، ومن هنا عشنا عربيا بين هول صدمة التغيير المرتقب، والفشل الذريع لأهل الثقة. * ويواصل الدكتور الباز حديثه حول هذه المسألة باعتبارها نقطة ارتكاز في حياتنا العربية المعاصرة، حيث يقول: "تفشى بالمثل في باقي الدول العربية ألأخرى الاعتماد على من يثق فيهم الحاكم بأمره دون أهل الخبرة، وهكذا اختنق التطور واختفي الإبداع رويدا رويدا". * نحن إذن أمام حالة عربية تعيد تقييم التجربة من خلال الاعتراف بأخطاء الأجيال السابقة التي حاولت وفشلت، لكون صوت السياسة المؤدلجة كان أقوى من لغة العلم، لنتابع أقوال الباز مرة أخرى ".. بدأ جيلي من أهل العلم والتكنولوجيا في الصدام مع هذه الأوضاع، فقد هاجر البعض إلى كل بلاد الدنيا ليثبتوا أن العربي قادر على الإبداع في العمل إذا توفرت البيئة المناسبة، وبقي الآخر في كيان الدولة الذي لا أول له ولا آخر. ونجح العديد منهم في تحقيق الكثير في مواقع عدة، ولكن استمرت الحكومات في حماية كيانها أولا وأخيرا، وباتت الوحدة العربية وباقي أماني الشعب العربي وكأنها أفكار مبتورة تتطلب الإشارة إليها بين آونة وأخرى في مؤتمرات جامعة الدول العربية". * إذا حاولنا إجراء مقاربة بين ما ذكره الباز وبين ما نراه اليوم على صعيد العلاقات العربية، فسنكتشف أن الحماسة والعاطفة، والوطنية الزائفة، واتخاذ القرارات بعيدا عن طموحات الشعوب آلت بنا إلى ما نحن عليه اليوم، تجمعنا الكرة على مستوى الدولة القطرية وتفرقنا إن هزمنا وطنيا وقوميا ودينيا أيضا، حتى أن الدكتور الباز بالعودة إلى قراءة الماضي، يقول "لم يكن هناك أي احتمال لتحقيق الوحدة العربية بناءً على شعور عاطفي دون دراسة وتحليل وتحديد النتائج الإيجابية لكل جانب وشرح كل هذا شرحا مستفيضا.. ولم يكن للوحدة العربية أن تتحقق خلال مناخ عدم الثقة في الجار أو خوف الضعيف من القوي الذي كان متفشيا بين الدول العربية.. كان لا بد من دعم القوي للضعيف وكرم الغني تجاه الفقير، وذلك للمنفعة المشتركة والوصول إلى مستقبل زاهر لأبناء الأمة العربية بأكملها. * إن أزمتنا الراهنة تعود في نظر الدكتور الباز إلى سيطرة العسكري على المدني، خصوصا في موضوع فلسطين، ما أدى إلى تدهور أوضاع المؤسسات المدنية وخاصة في "دول المواجهة"، حيث كان الشعار المُتداول هو "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وكان المعنى الحقيقي لهذا الشعار: "لا تسألوا عن شيء لأن كل موارد الثروة سوف تُخصص للمؤسسة العسكرية والاستعداد للحرب، لذلك تعلم الناس السكوت وقبول الأمر الواقع، ونتج عن هذا ازدياد قبضة المؤسسات الحكومية ثم انحصار التقدم الاقتصادي وتردي الأوضاع على وجه العموم". * مرة أخرى يذكرنا الدكتور الباز بقضية التعليم، فيقول: "إن الحكومات العربية رفعت شعار التعليم المجاني للجميع، شاملا ذلك أعلى الدرجات الأكاديمية، لهذا السبب ازدادت المدارس الحكومية والجامعات وازداد عدد الطلاب فيها جميعا دون إعداد مناسب للمقررات وطرق تدريسها. ولم يكن فتح باب الالتحاق بالجامعات مبنيا على خطة تحدد الاحتياجات في التخصصات المختلفة، فازداد عدد الخريجين الذين لا يجدون عملا، في نفس الوقت بقيت نسبة الأمية عالية وازدادت كثيرا في بعض الدول العربية. فتخلفنا في مصر مثلا عن تجارب الدول الأخرى التي كانت تنطلق نحو التغيير في نفس الزمن التاريخي المشترك، مثل: اليابان وكوريا وماليزيا، وظهرت مراكز إشعاع في منطقتنا العربية، كما هي الحال في دول الخليج العربي" .. تفصيل ذلك في الحلقة المقبلة بإذن الله