لم يسبق للجزائريين أن انشغلوا بدستور لمدة أكثر من ثلاث سنوات، ومع ذلك لا تزال فصول هذا المسلسل مستمرة. فبينما كان ينتظر أن يفرج الرئيس بوتفليقة عن المسودة النهائية للمشروع خلال الدخول الاجتماعي، بات الاعتقاد راسخا بأن هناك مزيدا من الوقت يتعين انتظاره قبل طرح وثيقة الدستور. "الشروق"، وفي ملفها السياسي لهذا الأسبوع، عادت إلى هذه القضية المرحّلة من إصلاحات 2011، التي لم يكن الشق الأول منها محط ترحيب من قبل المعارضة، أما الشق الثاني المتمثل في تعديل الدستور، فيبقى مغيبا إلى إشعار آخر، وهو ما سنحاول البحث في خلفياته وأسبابه مع مختصين وأكاديميين. ما بقي من فرص نجاح "الدستور التوافقي" المعارضة تتمترس عند مواقفها والسلطة تفكر في جولة ثالثة تجاوز عمر مشروع تعديل الدستور الثلاث سنوات، واستهلك جولتين من المشاورات وحديث عن ثالثة، كما عاصر ثلاث حكومات، ومع ذلك لا يزال هذا المشروع يراوح مكانه.. جاء الكشف عن مشروع تعديل الدستور في الخطاب الشهير الذي ألقاه رئيس الجمهورية في أفريل 2011، بينما كانت البلاد على شفا انجرافها للسقوط فيما سمي "الربيع العربي"، الذي اجتاح أنظمة بن علي ومبارك وبشار والقذافي.. كان خطاب الرئيس آنذاك تطمينا للجزائريين بأن البلاد قررت مباشرة إصلاحات سياسية. وعلى الرغم من أن السلطة نجحت في تمرير الشق الأول من الإصلاحات، الذي تمثل كما هو معلوم في "حزمة قوانين: الأحزاب، الانتخابات، الإعلام، البلدية، الولاية وترقية المشاركة السياسية للمرأة"، إلا أنها فشلت بالمقابل في إنجاز الشق الثاني الأهم، وهو تعديل الدستور بالرغم من المراحل المتعددة التي مر عليها والجهود التي استهلكها. ففي البداية كلف الرئيس بوتفليقة رئيس مجلس الأمة، عبد القادر بن صالح، لإدارة الجولة الأولى من المشاورات، وأعدت هيئته التقرير استنادا إلى مقترحات الشركاء السياسيين والاجتماعيين الذين لبوا الدعوة، وسلمتها إلى الرئاسة، وكان الجميع يعتقد أن تعرض المسودة على الجزائريين قبل نهاية 2011، غير أن الجزائريين تفاجؤوا باختفاء المشروع تماما إلى أن عاد إلى الواجهة بعد عامين، إثر تنصيب ما سمي ب "لجنة الخبراء" لصياغة مسودة الدستور، في أفريل 2013. وبينما اعتقد الجزائريون أن المشروع وصل إلى نهايته بتنصيب "لجنة عزوز كردون"، تفاجؤوا مرة أخرى بالإعلان عن جولة جديدة من المشاورات كلف بإدارتها رئيس الديوان برئاسة الجمهورية، أحمد أويحيى، لكنها كانت أسوأ من سابقتها، جراء مقاطعة أحزاب سياسية وشخصيات وطنية بارزة، ما جعل الجولة الثانية محل انتقادات من قبل الكثير من الفاعلين السياسيين، ومن رحم هذه الانتقادات ولدت دعوة جديدة إلى جولة ثالثة من المشاورات، عززتها شائعات تتحدث عن عدم اقتناع الرئيس بالعمل الذي أنجزه رئيس ديوانه. وفي ظل تمترس المعارضة عند موقفها بشأن مشروع تعديل الدستور، تبدو الحاجة إلى جولة ثالثة من المشاورات لا جدوى منها، وهو ما تفكر فيه السلطة بجد، لأن كل الأحزاب والشخصيات التي رفضت تلبية دعوة أويحيى، تقول إن مقترحاتها قدمتها إلى هيئة بن صالح قبل ثلاث سنوات، فما الجدوى من إعادة رفعها مجددا إذا لم تتوفر النية لدى السلطة في الانفتاح على مواقف من خارجها؟ ويمكن قراءة تأخر السلطة في الإعلان عن المسودة وفق احتمالين، إما أنها تكون قد أحست بالحرج بعد فشل المشاورات التي قادها أحمد أويحيى، وبالتالي فهي تسعى من خلال تسويق الدعوة إلى جولة ثالثة من المشاورات، كما جاء على ألسنة سياسيين يدورون في فلكها، محاولة لاستدراك ما فات. أما الاحتمال الثاني، وهو الأكثر ترجيحا، فيبقى عدم تبلور الرؤية لدى صناع القرار حول شكل وصيغة الدستور المقبل، وتوزيع الصلاحيات فيه بين مؤسسات الدولة، دون إهمال عامل ربح الوقت الذي يصب في مصلحة السلطة. ومن شأن هذه المعطيات أن تعصف بحلم السلطة في الوصول إلى "دستور توافقي"، وفق ما صرح بذلك الرئيس بوتفليقة في الخطاب الذي ألقاه عقب أدائه اليمين الدستورية للعهدة الرابعة، اللهم إلا إذا قررت العودة إلى مخرجات الجولة الأولى من المشاورات، التي قادها عبد القادر بن صالح، والتي تتضمن كافة مقترحات الأحزاب والشخصيات التي قاطعت جولة أويحيى، وتضمينها مسودة الدستور المقبل، حتى لا يتكرر فشل "الحزمة" الأولى من قوانين الإصلاحات، مثلما تقول المعارضة.
عضو المجلس الدستوري سابقا.. عامر رخيلة ل "الشروق": ثلاثة احتمالات لتمرير الدستور.. وإطلاق جولة مشاورات ثانية وارد يرى عامر رخيلة، عضو المجلس الدستوري في عهد الرئيس السابق اليامين زروال، أن تسريب أخبار تتحدث عن عدم رضى الرئيس بوتفليقة عن العمل الذي أنجزه رئيس ديوانه، أحمد أويحيى، في جولة المشاورات الثالثة حول تعديل الدستور، محاولة من السلطة لجس نبض المعارضة الرافضة للجلوس إلى طاولة الحوار معها في جولة أخرى من المشاورات حول تعديل الدستور.
أين اختفى مشروع تعديل الدستور؟ وهل تتوقعون الإعلان عنه قبل انقضاء العام الجاري؟ بعدما كان الشارع السياسي والمعارضة والشعب بصفة عامة ينتظر على الأقل إعلامه بما تم الوصول إليه من نتائج المشاورات السياسية بغية تلمّس ملامح الدستور المرتقب، ظلت هذه الوثيقة في علم الغيب لا يعرف الجميع ما تضمنته، إلا أن السؤال الذي يطرح حاليا: ما هو موقف السلطة من تعديل الدستور؟ وهل مازالت النية قائمة لإحداث دستور، مثلما نادى به رئيس الجمهورية، دستور يتماشى والمتغيرات الحاصلة على الساحة الوطنية والإقليمية والدولية؟ لكن للأسف يبقى سكوت وصمت السلطة يخيم على الوضع العام في البلاد. وبخصوص الإعلان عنه قبل نهاية العام الجاري فأنا أعتقد أن الدخول الاجتماعي الحالي لا يساعد على طرح انشغال جديد على الساحة الوطنية، إلى جانب ما تعرفه هذه الأخيرة من غليان في جميع القطاعات وفي كل المستويات، ولكن في رأيي السلطة ستستغل ربما الذكرى ال 60 لاندلاع ثورة أول نوفمبر، لترمي من جديد بالحديث عن مشروع تعديل الدستور.
هل يمكن الذهاب إلى جولة ثالثة من المشاورات، كما يطالب البعض؟ بعض أحزاب الموالاة، وعلى رأسها تجمع أمل الجزائر "تاج" تكلم مبكرا، وفي أكثر من مرة، عن إجراء جولة ثالثة من المشاورات السياسية ورئيسه لا يتكلم هكذا من تلقاء نفسه، بل هو تلقى إشارة من صناع القرار بالتوجه إلى جولة ثالثة من المشاورات بغية استمالة المعارضة. وعلى ذكر المعارضة، فإن مكوناتها تشجع السلطة على محاولة اختراقها من جديد لاستمالة أطراف منها للجلوس إلى طاولة الحوار. وللعلم، فإنه يدور كلام غير بريء بأن الرئيس غير راض عن النتيجة التي خلصت إليها المشاورات التي أشرف عليها رئيس الديوان برئاسة الجمهورية أحمد أويحيى، وهي ذريعة تجعل السلطة تضم أقطاب المعارضة بهدف خلط الأوراق، وفي كل الأحوال لا يمكن للسلطة بعدما دعت إلى المشاورات أن تغض الطرف عنها نهائيا، بل لا بد من إعادة فتح الموضوع مجددا، إما بتوسيع المشاورات لتشمل بقية أحزاب المعارضة، أو مفاجأتنا بتقديم وثيقة للرأي العام ثم تطرح صيغة للمصادقة على هذه الوثيقة.
أكد عمار سعداني، الأمين العام للحزب جبهة التحرير الوطني، بأن الدستور سيمر على البرلمان فقط، ماذا يعني ذلك؟ سعداني لا يتكلم من فراغ، هو على رأس حزب موال للسلطة ومقرب منها، إلا أنه في اعتقادي، هناك ثلاثة احتمالات لتمرير الدستور، الأول إما العودة إلى البرلمان ثم إحالته على المجلس الدستوري، أو الحالة الثانية وهي عرضه على البرلمان ثم يحول إلى الاستفتاء الشعبي، أما في الحالة الثالثة فإنه بعد الموافقة عليه من المجلس الدستوري يحال على الاستفتاء الشعبي، وفي الأول والأخير فإن كل شيء مرتبط بالتعديلات في حد ذاتها إن كانت عميقة تراعي الفصل بين السلطات وحقوق الإنسان وغيرها من المواد، أما إن كانت تعديلات طفيفة لا تمس جوهر الدستور عندها المجلس الدستوري يقدم فتوى ويتم إحالتها على البرلمان للمصادقة على وثيقة التعديلات النهائية.
هل تراجع الرئيس عن إجراء تعديلات معمقة على الدستور؟ الدستور مهما كان، ليست له علاقة بالرئيس، سواء كان دستورا عميقا أم سطحيا أم يرسم حدود السلطات، الرئيس حاليا يتمتع بكل الصلاحيات.. ومن خلال الوثيقة أعتقد أنه لا توجد إرادة سياسية لإجراء تعديلات معمقة على الدستور، كما لا توجد إرادة سياسية لتزويد المجتمع بوثيقة لدستور يتسم بتعديلات عميقة.
البرلماني السابق والخبير القانوني.. موسي بودهان ل "الشروق": "الدستور التوافقي" مرهون بمشاورات جديدة انتقد النائب السابق، موسى بودهان، مساعي تحصين منصب رئيس الجمهورية في الدستور المعروض للتعديل، واعتبر تكريس هذا المقترح الذي تقدم به حزب جبهة التحرير الوطني لا يخدم الديمقراطية.
ما تعليقكم على إدراج المصالحة الوطنية ضمن الثوابت الوطنية في التعديل الدستورى وما خلفية اقتراح من هذا القبيل؟ إدراج المصالحة الوطنية في ديباجة الدستور إلى جانب الثوابت الوطنية، يعتبر انعكاسا لمبدإ الصلح المنصوص في القرآن الكريم، وهذا القرار طبيعي وأنا أستغرب من الذين يعارضون هذا المقترح، لأن القضية اليوم هي مرتبطة بالأساس بمدى استجابة الطرف الثاني لهذا الصلح، وعدم اعتباره ضعفا من السلطة لإنجاحها.
هل بقي من فرص لإنجاح مشروع الدستور التوافقي بعد رفض أحزاب المعارضة تلبية دعوة أحمد أويحيى؟ إن نجاح الدستور التوافقي مرهون بمشاركة كل الأحزاب السياسية التي رفضت تلبية دعوة أحمد أويحيى للمشاركة في المشاورات حول تعديل الدستور، لذلك برز الحديث عن جولة ثالثة من المشاورات، أملا في استمالة الفعاليات السياسية التي قاطعت الجولة السابقة، سيما وأن الذين رفضوا دعوة أحمد أويحيى هم أطراف فاعلة في الساحة السياسية، ووجودهم في الجولة الثالثة ضروري لإنجاحها.
في حالة إصرار المعارضة على موقفها الرافض. ما مصير "الدستور التوافقي"، الذي وضعته السلطة هدفا؟ في حالة عدم وجود جولة ثالثة من المشاورات حول تعديل الدستور، فإن نسبة نجاح "الدستور التوافقي" تكون ضئلية جدا، الأمر الذي من شأنه أن يؤزم العلاقة بين السلطة والمعارضة أكثر. لذلك أرى أنه من الضروري الذهاب إلى جولة ثالثة، لأن تعديل الدستور ليس وثيقة فقط، فهو يمثل القانون الأسمى في الدولة وعليه يجب مشاركة الكل فيه.
تاريخ التعديلات الدستورية في الجزائر عرفت الجزائر سبعة دساتير منذ استقلالها في عام 1962. ويعود أول دستور لها إلى عام 1963، وقد أسس لجمهورية ذات حزب واحد، وهو حزب جبهة التحرير الوطني، وهو النظام الذي استمر إلى غاية أحداث أكتوبر 1988. وخلال فترة حكم الحزب الواحد شهدت البلاد تعديلا دستوريا واحدا هو ذلك الذي كان في عهدة الرئيس الراحل، هواري بومدين، في عام 1976. وشهد هذا التعديل الدستوري استقطابا حادا بين الإسلاميين واليساريين، غير أن الغلبة فيه كانت لأنصار التوجه الاشتراكي، الذي كان مسيطرا آنذاك على مقاليد السلطة في البلاد. وإن نحت البلاد توجها جديدا غلب عليه الطابع اللبرالي بوصول الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد إلى سدة الحكم في نهاية السبعينيات، إلا أن تكريس هذا التوجه في الدستور تأخر لعقد كامل، مدفوعا بحركة الشارع التي اجتاحت البلاد في الخامس من أكتوبر من عام 1988، وكانت سببا مباشرا في تغيير النظام من الأحادية إلى التعددية، إذ يرجع الفضل لدستور فيفري 1989 في بروز أحزاب جديدة لا تتقاسم مع السلطة نفس التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. غير أن دخول البلاد أزمة التسعينيات الأمنية، فرض عليها مراجعة دستور 1989، وهو ما كرسه الرئيس السابق اليامين زروال، الذي دعا إلى تعديل دستوري في عام 1996، أعاد من خلاله النظر في صلاحيات بعض المؤسسات، كما استحدث غرفة برلمان ثانية، هي مجلس الأمة، الذي لعب دور الثلث المعطل، تفاديا لسقوط الغرفة السفلى بين أيدي أحزاب من خارج دائرة السلطة. ويعتبر الرئيس بوتفليقة أكثر رؤساء الجزائر مبادرة بتعديل الدستور، إذ لم يلبث أن دعا إلى تعديل دستوري في عام 2002، رقى بموجبه اللغة الأمازيغية إلى لغة وطنية، كما دعا أيضا إلى تعديل ثان في 2008، مكنه من الترشح لعهدة رئاسية ثالثة، فيما لا يزال التعديل الثالث ينتظر النور بعد ثلاث سنوات من الإعلان عنه.