يتساءل كثير من المتابعين عن مدى جدية النقاش الذي أثير حول بعض الملفات التي طبعت المشهد السياسي في الأسابيع الأخيرة، على غرار التعديلات التي مست قانون العقوبات في شقه المتعلق بالأسرة، وكذا تعليمة وزير التجارة عمارة بن يونس، المحررة لبيع الخمر قبل إلغائها من قبل الوزير الأول، عبد المالك سلال. فبينما يعتقد البعض أن تلك الملفات مفتعلة، يذهب البعض الآخر غير ذلك. فأين الحقيقة بين هذا وذاك؟ وهل هناك ملفات أهم وأثقل تم تغييبها؟ وما هي إن وجدت؟ هذه الأسئلة وأخرى يجب عنها الملف السياسي لهذا الخميس. تحرّك به المشهد السياسي الراكد هكذا تصنع السلطة الجدل وبهذه الكيفية تديره شغلت تعليمة تحرير بيع الخمور الصادرة عن وزارة التجارة، وقبلها تقنين "حماية الزوجة من زوجها" في قانون العقوبات، بال الرأي العام، غير أن السلطة عرفت كيف تلملم النقاش و"تقولبه" بما يصب في مصلحتها. وجاء بروز هذه الملفات في وقت يطبع المشهد السياسي حالة من الاحتقان بين السلطة والمعارضة، سببه تمترس كل طرف خلف مواقفه، ومحاولة كل طرف فرض رؤيته لحل الأزمة التي تعيشها البلاد، على الآخر. وأيا كانت جدية هذه الملفات من افتعالها، فإنها حازت اهتماما كبيرا من قبل الأوساط الإعلامية والسياسية وحتى الشعبية، وقد عرفت السلطة كيف تستغل هذا الجدل وتوظفه لصالحها، من خلال تدخلها في آخر لحظة لغلق النقاش بالكيفية التي أرادتها، بشكل أعطى الانطباع أنها حريصة على الاستماع إلى انشغالات الجزائريين، ومتمسكة بتقاليده وأعرافه. وإذا عدنا مثلا إلى ملف الخمور، نجد أن القضية بدأت بتعليمة وزير التجارة عمارة بن يونس، التي وجهها إلى مصالح السجل التجاري يأمرها بإلغاء الترخيص المفروض على استيراد الخمر، ليتحول إلى مجرد سلعة كغيرها من السلع، رغم تعارضها مع قيم المجتمع. وكان طبيعيا أن يهب الجزائريون لرفض هذا الأمر كونه يتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي، وبسرعة يتحول إلى قضية رأي عام، ثم يصل الأمر إلى اتفاق الفاعلين في قطاع الشؤون الدينية، على تخصيص خطاب الجمعة، لمحاربة "أم الخبائث"، ثم يأتي في الأخير، الوزير الأول، عبد المالك سلال، ليوجه تعليمة تقضي بوقف العمل بتعليمة وزير التجارة المحررة لبيع الخمور، في محاولة لامتصاص تصاعد الغضب الشعبي من القرار الذي خلّف موجة سخط عارمة. وقبل ذلك، خرج وزير العدل حافظ الأختام، الطيب لوح، ليعلن عن تعديل قانون العقوبات، وقال إن الهدف من القرار هو الحد من "مظاهر التمييز والعنف الذي يستهدف المرأة الجزائرية في الوسط العائلي والمهني ويساهم في ترقية حقوقها". وخلّف استحداث مواد جديدة في القانون قيد التعديل، تتحدث عن حماية الزوجة من الاعتداءات العمدية أو التعدي اللفظي أو النفسي أو المعاملة المهينة أو الإكراه والتخويف والحرمان من الحقوق، من قبل الزوج، موجة من الاستهجان ليس تملصا من المسؤولية الزوجية وفق ما تكفلها قوانين الأحوال الشخصية سارية المفعول، وإنما خوفا من أن تستغل تلك النصوص في تفكيك الأسرة الجزائرية المتماسكة، من خلال تشجيع المرأة على التمرّد على الأعراف والقيم الجزائرية الأصيلة. ولم تترك السلطة هذه المناسبة تمر دون أن تستغلها سياسيا، وتجلى ذلك من خلال مبادرة الرئيس بوتفليقة بالدعوة إلى مراجعة قانون الأسرة الذي لم يمض على تعديله سوى عشر سنوات فقط، في توجه فهم أيضا من قبل المتابعين على أنه محاولة من قبل السلطة لامتصاص غضب الجزائريين من منح حقوق إضافية للمرأة قد تدفع بها إلى التعسف في حق أسرتها وزوجها في قانون العقوبات، ما قد يعطي الانطباع أيضا لدى الجزائريين، أن السلطة حريصة على الاستماع إلى انشغالات الرأي العام، وفي ذلك ورقة تبدو أنها تصب في صالح السلطة.
بعد فشل الحكومات في التكفل بالانشغالات الحقيقية للمواطن لعبة إلهاء الرأي العام بملفات هامشية! تلجأ السلطة كلما فشلت في تحقيق مطالب الشعب وحل مشاكله، إلى قضايا هامشية بعيدة عن هموم المواطن وانشغالاته، وتنفخ فيها عن طريق الإعلام والطبقة السياسية، حتى تكبر وتشد إليها الرأي العام لينشغل بها، لتشتيت اهتمامه وتحويل انتباهه عن قضايا مهمة. تعتبر سياسة إلهاء الرأي العام عن طريق تمرير قوانين وإجراء تعديلات على أخرى، إلى حد اليوم ورقة رابحة للسلطة، حيث نجحت إلى حد بعيد في إبعاد الرأي العام عن التفكير في قضاياه المصيرية، من خلال تمرير حزمة قوانين في إطار ما سمي بإصلاحات الرئيس، كقوانين العقوبات، الإعلام، الأسرة وتطليق المرأة للرجل، قانون الطفل، القروض، وكوطة المرأة في المجالس المنتخبة، وملف استغلال الغاز الصخري، التقسيم الإداري، وسكنات عدل1، وعدل2... وبالرغم من هذا يرى مراقبون أن الجزائريين بمختلف فئاتهم، وحتى "النخب" السياسية والإعلامية، خاضعة لشروط هذه اللعبة ولا تحاول الخروج منها، حيث نرى عددا كبيرا من القضايا المثيرة للرأي العام، وهي في الواقع أبعد ما تكون عن المشاكل الحقيقية التي يأمل الجزائريون في حلها، كالعدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد، والفقر والبطالة، والتداول على السلطة، قبل أن تتحول بقدرة قادر إلى قضايا حلال وحرام، كقرار وزير التجارة بشأن تحرير تجارة المشروبات الكحولية وإعفائها من الرخص التي تقدمها الولاية، قبل أن يتدخل الوزير الأول عبد المالك سلال في صورة البطل المنقذ لتجميد القرار، ليس إلا لكسب الرأي العام وإلهائه مجددا. لو لم يكن الهدف من هذه القوانين إلهاء الشعب وتشتيت انتباهه، لماذا استبقت السلطة تعديل قوانين "هامشية" قبل الدستور الذي يعتبر أبا القوانين؟ حيث لم يكن يتصور أحد أن إعداد وثيقة الدستور سيستغرق كل هذا الوقت وكل هذه المزايدات والصراعات، وكأن هذا الدستور سيأتي ليحل مشاكل البلاد برمتها، غير أنه لن يكون بنظر مراقبين سوى عبارة عن مواد يغلب عليها طابع الإنشاء والشعارات. ورغم هذا، وبعد قرابة أربع سنوات من الجدل والصراعات والمزايدات، ما زال الدستور أكبر لعبة انغمس فيها الإعلام والنخبة السياسية من موالاة ومعارضة، بينما المشاكل الحقيقية للشعب الجزائري خارج دائرة الاهتمام، وحتى ملف الدبلوماسية والسياسة الخارجية، للجزائر تم استغلالها من قبل السلطة، لإلهاء الرأي العام، من خلال زيارات مكوكية لرؤساء ووزراء أجانب، واستضافة مفاوضات بين أطراف متنازعة في دول الجوار، ورغم أن نتائج هذا "الحراك الدبلوماسي"، محل جدل وحتى تشكيك، فإن السلطة تسوقها على أنها فتوحات دبلوماسية. ولا تقتصر أساليب السلطة وأحيانا بالتواطؤ مع المعارضة أو جزء منها- حسب ما يشخصه محللون- على النفخ في القضايا الهامشية فقط لإلهاء الرأي العام، وإنما تلجأ أيضا إلى أساليب "ماكرة"، كسياسة إغراق المواطن في مشاكله اليومية وهمومه المعيشية حتى تستهلك وقته وقواه وتشغل تفكيره، كندرة المواد الاستهلاكية ومواد الطاقة والحديث عن ارتفاع الأسعار، والطوابير اليومية، إلى جانب سياسة الإلهاء بالنشاطات الرياضية والثقافية، خاصة كرة القدم وما صاحب خسارة الجزائر تنظيم كأس أمم إفريقيا 2017 خير دليل على ذلك، وإن اعتبر المتابعون تفويت استضافة هذا الحدث الرياضي، قد حرم السلطة من توظيفها، فضلا عن سياسة الإلهاء عن طريق اللهث وراء الاكتناز وجمع المال في إطار تعميم الفساد وتوسيع دائرته، بهدف تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، إلى سياسة تكميم الأفواه من جهة، وتنفيس الرأي العام من جهة أخرى عن طريق أحزاب "المعارضة"، دون أن ننسى سياسة كبش الفداء، التي تلجأ إليها السلطة كلما اشتدت عليها الحال في محاولة للهروب من العقاب، وآخر حلقات هذا المسلسل المحاكمات الأخيرة ل "سوناطراك والطريق السيار والخليفة"، التي يُجمع المتابعون، وحتى الشارع، أنها لن تطال القطط السمان، وسوف تقتصر على محاكمة إطارات من الصف الثاني والثالث.
المحلل والكاتب محمد أرزقي فراد ل "الشروق": الارتجالية والطرح الخاطئ للحلول سبب الجدل في الملفات استبعد المحلل السياسي محمد أرزقي فراد، فكرة "الجدل افتعال" حول بعض الملفات التي شغلت بال الرأي العام في المدة الأخيرة، خاصة ملف الغاز الصخري الذي اعتبره مشكلة حقيقية طرحها الشعب في عين صالح، في وقت يرى أن النظام تعامل بطريقة ارتجالية مع ملفات أخرى أحدثت ضجة واسعة كقانون الأسرة ومسألة تحرير تجارة الخمر. ويرى الدكتور محمد أرزقي فراد، في تصريح ل"الشروق"، أن الجدل الواسع حول عديد الملفات التي شهدتها الساحة السياسية مؤخرا، لا يمكن أن يكون حوادث مفتعلة لشغل الرأي العام عن ملفات أخرى كتعديل الدستور، وإنما مرده إلى الطبيعة التي يتعامل بها النظام مع ما هو مطروح من مشاكل، والتي تكون غالبا إما بطريقة خاطئة أو ارتجالية، وهو ما حدث تماما مع مسألة الغاز الصخري وتحرير تجارة الخمور وقانون الأسرة، في وقت يرى أن قضية تعديل الدستور التي أعلن عنها الرئيس بوتفليقة أملتها الأوضاع التي كانت تمر بها عديد الدول العربية سنة 2011، أين سارع الرئيس- بحسبه- إلى الإعلان عن إصلاحات سياسية واسعة لتفادي رياح الربيع العربي. وخص فراد في حديثه قضية الغاز الصخري، عندما أكد أنه من غير المعقول أن يكون الجدل والنقاش الذي أخذه مفتعلا، لأن المبادرة- يقول- جاءت من الشعب، معتبرا أن تداعيات قرار الحكومة لاستغلال الغاز الصخري خلقت مشكلة حقيقية وليست مفتعلة، طرحها الشعب في عين صالح، لكن الخطأ الذي ارتكبه النظام القائم- يضيف- في أنه لم يحسن التعامل مع ما طرحه الشعب. أما قانون الأسرة الذي أخذ نصيبه من الجدل السياسي الذي وصل إلى حد التراشق بين التشكيلات السياسية، قال المتحدث إن السلطة طرحته بطريقة خاطئة، وكان من المفروض أن يكون قانونا أساسيا بمثابة حجر الزاوية، من خلال فتح نقاش واسع على مستوى الجامعات، الثانويات، الإعلام المجتمع المدني، من أجل الوصول إلى بر الأمان، بناء على المناقشة الواسعة، وبعدها تستطيع الحكومة تقديم مشروع قانون. من جهة أخرى، حمل فراد الحكومة مسؤولية الضجة التي أحدثتها تعليمة وزير التجارة عمارة بن يونس القاضية بتحرير الخمور والتي ألغاها بعد ذلك الوزير الأول عبد المالك سلال، حيث واصل قوله في هذا الشأن: "الخمر مسؤولية الدولة وليست مسؤولية وزير التجارة، ومن غير المعقول تحميل الوزير مسؤولية بيع الخمور"، لأن التعليمة التي أصدرها بن يونس حكومية، غير أنه يرى أن القضية تحتاج إلى نقاش واسع"، مضيفا: "نحن نعيش في مجتمع مسلم وهذا واقع يفرض علينا أخذه بعين الاعتبار، لكن المسؤولية تتحملها الحكومة وليس وزير التجارة".,
البعض يتعمد فتح ملف الإيديولوجية ويغيب الملفات المصيرية.. أبو جرة ل "الشروق": الحراك الحاصل اجتهادات.. وعلى المسؤولين تحمل مسؤولياتهم اعتبر زعيم حركة مجتمع السلم السابق، أبو جرة سلطاني، الحراك الحاصل على المستويين الاجتماعي والسياسي والتجاذبات القائمة بخصوص بعض الملفات، أمرا طبيعيا أملته الضرورة التي تصاحب هذه الأحداث، وقال إنه لا يعتقد أن يكون الذي يجري قائما على برنامج أو مخطط وإنما هو اجتهادات من بعض الوزراء لإحداث ما سماه ديناميكية في قطاعاتهم. ورد أبو جرة على سؤال "الشروق" عما إذا كانت السلطة تتعمد خلق تجاذبات كهذه لإلهاء الرأي العام عن القضايا الجادة، ومن ذلك قرار تحرير الخمور، قانون الأسرة، الغاز الصخري، بالقول إن بعض الوزراء والمسؤولين جانبوا الصواب في تعاملاتهم، لأن الديناميكية التي تستفز الرأي العام تصبح مشكلة- في نظره- لقطاعاتهم وللحكومة، كما أنها تعطي حججا أخرى للذين ينتقدون بعض الوزراء للقول إنهم يمارسون سياسة الهروب إلى الأمام- يقول أبو جرة- مشيرا إلى أن الوضع الذي تعرفه الجزائر في الوقت الراهن لا يحتمل المزيد من الاستفزازات، وأنه على الوزراء أن يدركوا أن عالم اليوم صار شفافا وأنهم يتحركون تحت رقابة الرأي العام الوطني وعليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم أكثر تجاه المهمات الوطنية. وذكر الوزير السابق في حديثه عن الأحداث التي شهدتها الساحة الوطنية، في رده على سؤال تعلق بقرار وزير التجارة عمارة بن يونس المتعلق بتحرير بيع الخمور، بالقول إن إجراءاته طغت على الساحة الوطنية كونها مست ثوابت الأمة، قبل أن يضيف أن هناك آخرين أيضا لم يراعوا المتغيرات الحاصلة في المجتمع وليس الوحيد الذي صنع الاستثناء ومن ذلك الحديث عن الخمور منزوعة الكحول والاعتداءات التي حدثت ببعض المساجد بسبب بعض الأفكار وقضية الوصفات الطبية واللغة العربية. ورد على سؤال تعلق بتعويم الساحة بأمور لا تسمن ولا تغني المواطن، عوض التطرق إلى القضايا المصيرية، بالقول إن هذه المسائل لا تنتهي وتخرج في كل مرة من الأرشيف، وعدم طيها والذهاب إلى فتح الملفات الجادة من مسؤولية المعنيين بها، مبرزا أن الرأي العام لا يصنع الفعل بل رد الفعل، قبل أن يشير إلى أن بعض الجهات التي لم يذكرها بالاسم تحبذ إعادة المعركة الإيديولوجية في كل مرة رغم أنه كان من المفروض أن تطوى وتحفظ دون العودة إليها احتراما لهذه الأفكار، والتوجه إلى الحديث عن المشاكل التنموية الاقتصادية والاجتماعية. وقال سلطاني إن بعض الأطراف تعيد إخراج ملفات من الأرشيف والإعلام يتناولها "وهذه مهمته"، غير أن الإعلام لا ينبغي أن يكون إعلاما وصافا بل إعلاما مستشرفا ومحللا، وأضاف بخصوص "مسؤولية من" في التركيز على هذه القضايا وتغييب القضايا الهامة بأنه لا توجد جهة مسؤولة، ويبقى المسؤول هو من يطرح الملف ويكون للإعلام والرأي العام المسؤولية في كيفية تناول هذه الملفات.