الحصانة البرلمانية امتياز يمنحها المشرّع للنائب، لدعم شجاعته وجرأته في كشف ألاعيب وتقصير الجهاز التنفيذي، غير أن هذا الامتياز تحوّل إلى آلية للهروب من العقاب، إذ هناك من النواب من زهق نفسا، ومن رفع سلاحا في وجه أعزل، وهناك من اعتدى على هيئة نظامية.. ومع ذلك لم تكن لأي منهم الشجاعة كي يتنازل طواعية عن الحصانة لتتم محاكمته، كما لم تتجرأ السلطات المخولة على إسقاط الحصانة عن المذنبين وما أكثرهم. فهل الحصانة امتياز مطلق؟ أم لها حدود وأين تنتهي؟ ولماذا لم ترفع الحصانة ولو لمرة واحدة؟ وهل تحولت إلى امتياز للهروب من العقاب؟ هذه الأسئلة وأخرى يجيب عنها "الملف السياسي" لهذا الخميس. بعد توفر أركان رفع الحصانة في حالة حنون لعبيدي هل تتحقق المعجزة؟ فجّر "الخناق" الذي نشب بين زعيمة حزب العمال، لويزة حنون، وبعض الوزراء وفي مقدمتهم وزيرة الثقافة، نادية لعبيدي، جدلا قديما متجددا، حول الحصانة البرلمانية، التي تحولت لدى بعض النواب، إلى آلية للهروب من العقاب. وعلى الرغم من أن البلاد شهدت العديد من حالات المطالبة برفع الحصانة البرلمانية عن النواب لمتابعتهم في قضايا اتهموا فيها، إلا أن قضية حنون لعبيدي تبقى الأكثر إثارة للجدل، لكون القضية هذه المرة تتعلق بنائب برتبة رئيس حزب ووزيرة تؤدي مهامها، مسنودة بالكثير من زملائها ممن تعرضوا بدورهم لذات الهجمة ومن ذات النائب. جل الحالات السابقة التي تمت فيها المطالبة برفع الحصانة البرلمانية، تتعلق بقضايا جنائية، مثل القتل، أو رفع السلاح في وجه أشخاص عزل، أو التعدي على هيئة نظامية وهي تؤدي مهامها، إلا أن حالة حنون لعبيدي، يغلب عليها الطابع السياسي كونها تتعلق بالتسيير، وإن كانت التهمة تندرج تحت طائلة جريمة القذف. ولم يسبق أن شهد البرلمان بغرفتيه، حالة واحدة تم فيها رفع الحصانة عن نائب لمتابعته قضائيا، وكانت إجراءات رفع الحصانة تتوقف عند الهيئة التشريعية وعلى مستوى مكتب المجلس بالضبط، وفي حالات قليلة جدا، تلملم بطريقة غامضة، كأن تتراجع الضحية أو ذويها عن المتابعة القضائية، وبعد ذلك يتنازل النائب المتهم عن حصانته البرلمانية، ويطوى الملف، وإن كان القانون في مثل هذه الحالات، يجبر ممثل الحق العام على متابعة النائب المتهم مهما كان الأمر. وفي حالة حنون لعبيدي، يبدو أن كلا الطرفين متمسك بموقفه، فالوزيرة نفذت تهديدها بإيداع الشكوى لدى العدالة، أما الطرف الآخر، ممثلا في حنون، فقد التزم بشرفه وأعلن استعداده التنازل عن الحصانة البرلمانية إذا توجه الطرف الآخر للعدالة، مثلما أكد رئيس المجموعة البرلمانية لحزب العمال بالغرفة السفلى، استعداد جميع نوابه للتنازل عن الحصانة. ومعنى هذا أن جميع أركان رفع الحصانة البرلمانية عن حنون، باتت متوفرة.. فهل يحدث الاستثناء وتتحقق المعجزة؟ وبتوفر جميع أركان رفع الحصانة البرلمانية عن حنون (تقييد الدعوى القضائية مقابل تنازل صاحب الامتياز) أصبحت الكرة في مرمى السلطة بشقيها التشريعي والتنفيذي، وفي ذلك اختبار حقيقي لجدية أصحاب الحل والعقد في التراجع عن توجه ترسّخ منذ الاستقلال، قوامه توفير الحماية لرجالات السلطة من العقاب.. وهنا يرى متابعون أنه لا يستبعد أن تتم لملمة القضية في الظلام ويطوى الملف، بالصيغة التي تريدها السلطة، ولو تطلّب الأمر وقف الإجراءات على مستوى الهيئة التشريعية باختلاق عقبة ما، حتى وإن تمسّكت الهيئة التنفيذية (الحكومة) بحقها في المتابعة، خوفا من أن تسجل سابقة، غير أنه وبالمقابل، يمكن أن تلعب أمور ضد لملمة القضية، وهو أن يتجنّد النواب وما أكثرهم، انتقاما من حنون، لاعتبارات سياسية، لاسيما وأن زعيمة حزب العمال كسبت الكثير من الأعداء، بصراعها مع زعماء أحزاب لها ثقلها التمثيلي في الغرفة السفلى، مثل الأفلان و"حمس".. نماذج عن الإفلات من العقاب بسبب الحصانة البرلمانية قتل واغتصاب وضرب واعتداء على هيئات عمومية تقدر إحصاءات غير رسمية عدد حالات الاعتداءات التي ارتكبها المستفيدون من الحصانة البرلمانية، بنحو 200 حالة، وصلت حد القتل وإطلاق النار على مواطنين وموظفين، ورغم ذلك خرج المذنبون كالشعرة من العجين. وتراوحت التجاوزات التي تورط فيها نواب وأعضاء في الغرفة العليا بين الجنح والجنايات، متعلقة بالقتل، إطلاق النار على مواطنين، الفساد والتهديد، إشهار السلاح، استعمال النفوذ، المخالفات والجنح المرورية وخاصة جنحة السياقة في حالة سكر، فضلا عن الفضائح الأخلاقية التي تشكل حصة الأسد في مجموع القضايا التي ارتكبها النواب مثل الاغتصاب والتعدي على قصر، مما يكشف جسامة الأخطاء التي وقع فيها بعض ممثلي الشعب، غير أن تمتع هؤلاء بالحصانة النيابية حول هؤلاء إلى مواطنين فوق القانون، وجعل كثيرا منهم يختفون وراء الحصانة البرلمانية في أسوإ استغلال لهذا الامتياز. ولعل أبرز "الفضائح" التي ارتكبت تحت غطاء الحصانة البرلمانية ولا تزال، حالة النائب إسماعيل ميرة الذي قتل شابا ببجاية، والسيناتور السابق ياسف سعدي الذي تحدته المجاهدة لويزة إغيل أحريز برفع الحصانة عنه والتقابل في أروقة المحاكم بعد الاتهامات المتبادلة بينهما، والنائب الذي ضرب شرطيا بمطار عنابة، والرئيس السابق للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية سعيد سعدي بصفته نائبا عندما تعدى على شرطية وصفعها وعندما صعد فوق سيارة الشرطة بما يشكل إهانة لهيئة نظامية، دون أن ننسى قضية الساعة المتمثلة في قضية زعيمة حزب العمال لويزة حنون مع وزيرة الثقافة نادية لعبيدي، بعد أن رفعت الثانية دعوى قضائية ضد الأولى في أعقاب حديثها عن ملفات فساد في قطاع الثقافة . وعرفت العهدة البرلمانية 2007 - 2012 حادثة اغتصاب نائب برلماني - ينتمي إلى أحد أحزاب التحالف الرئاسي - في 2009 فتاة جامعية في معهد الحقوق ببن عكنون، جدلا إعلاميا كبيرا. والحال نفسها تكررت مع نائب من الشرق الجزائري تورط في اغتصاب فتاة في السادسة عشرة من عمرها عنوة، كما لا يزال الرأي العام يتذكر تورط 3 نواب خلال العهدة البرلمانية السابقة في الاعتداء على قصر لم تتجاوز أعمارهن 17 سنة، إلى جانب تورط 3 آخرين في قضايا أخرى تتعلق بالمساس بالحق العام، إلى جانب تورط نائب في العهدة الحالية في تهمة إصدار صك من دون رصيد . ولم يتوقف الاستغلال البشع للحصانة البرلمانية عند هذا الحد، بل وصل حد فصل أحد أعوان الشرطة من منصبه وشطبه من صفوف الجهاز، بسبب أحد النواب الذي أقدم على صفعه بمطار هواري بومدين جراء إصرار الشرطي على تفتيش النائب الذي كان يستعد للسفر، فضلا عن عشرات النواب المتورطين في اعتداءات جسدية ولفظية ضد مواطنين وموظفين وإشهار السلاح والتهديد . وتشير مصادر مطلعة إلى أن وزارة العدل تتلقى على امتداد سنوات، عشرات التقارير من مختلف أجهزة الأمن، عن تورط برلمانيين في جنح وجنايات، ضد مواطنين وموظفين ولكن من دون أن يكون لذلك تبعات من ناحية إسقاط الحصانة البرلمانية عنهم، ومن ثم متابعتهم قضائيا.
رئيس لجنة الشؤون القانونية بالغرفة السفلى عمار جيلاني هكذا ترفع الحصانة البرلمانية عن النواب أفاد رئيس لجنة الشؤون القانونية بالبرلمان، عمار جيلاني، أن الدستور الجزائري حصر مسألة رفع الحصانة البرلمانية في القضايا ذات الصلة بالجنح والجنايات دون بقية المخالفات، وأشار إلى أنه ومنذ بداية العهدة النيابية الحالية لم تسجل أي حالة لإسقاط الحصانة البرلمانية. وقال عمار جيلاني في تصريح ل"الشروق": إن إسقاط الحصانة يكون عبر طريقتين، الأولى بتحريك من وزير العدل وبطلب من النيابة العامة، حيث يحق لوزير العدل أن يقدم على هذا الطلب أو يكلّف النيابة المختصة إقليميا بطلب إجراءات رفع الحصانة عن النائب في مسألة جنائية ما، أما الثانية فتكون إرادية بطلب النائب التنازل عن حصانته، فيما لا يجوز للأشخاص العاديين تقديم طلب رفع الحصانة عن نائب ما. أما من الناحية الإجرائية، فيتم رفع الحصانة البرلمانية عن نائب بالمجلس الشعبي الوطني أو مجلس الأمة، عبر إحالة من طرف رئيس الغرفة العليا أو السفلى، بمعية مرفقاته "الوثائق المطلوبة"، إلى اللجنة القانونية على مستوى المجلس المعني، وهذا بغية بحثه وإبداء الرأي فيه، وهذه الأخيرة أي اللجنة تعد تقريرها الخاص برفع الحصانة البرلمانية خلال شهرين على الأكثر من تاريخ إيداع الطلب. ويضيف عمار جيلاني، أن التقرير الذي تعده اللجنة القانونية، يتم عرضه لاحقا على المجلس للبت فيه، وهذا بعد الاستماع لمن لهم الحق في المناقشة، وهما مقرر اللجنة القانونية والعضو المعني بسحب الحصانة، الذي يمكنه الاستعانة بأحد زملائه عند الاستماع إليه. أما التصويت على إسقاط الحصانة من عدمها، فيكون حسب رئيس لجنة الشؤون القانونية في جلسة مغلقة، وبالاقتراع السري، ويجب أن تكون نسبة التصويت بالأغلبية أي أكثر من 50 بالمائة حتى يتم إسقاط الحصانة عن النائب، وذكر في هذا الصدد، أنه خلال هذه العهدة هناك466 نائب، ولذلك يجب أن يصوت 233 نائب حتى يكون إسقاط الحصانة البرلمانية ساريا. أما الحالة الثانية وهي حالة طلب إسقاط الحصانة البرلمانية إراديا، وهنا يقول محدثنا إن المشرع الجزائري اعتبر التنازل سببا صريحا من أسباب زوال الحصانة البرلمانية، ويقدم الطلب مكتوبا حتى لا يدع أي مجال للتأويل والشك وبدون شروط، ويصبح بعدها الشخص عاديا لا يتمتع بالحصانة وبالإمكان متابعته قضائيا. وعدد عمار جيلاني حالات أخرى تسقط فيها الحصانة البرلمانية، وهي تلك المتعلقة بالوفاة أو الاستقالة أو نهاية العهدة النيابية أو عدم استيفاء شروط القابلية للانتخاب، مؤكدا أن العهدة الحالية لم تشهد أي طلب لرفع الحصانة، سواء إرادية أو بطلب من الجهات المخولة.
القانوني والنائب المستقيل مصطفى بوشاشي المجاملات السياسية بين الحكومة والبرلمان شوهت معنى الحصانة ما هدف المشرّع من إقرار الحصانة البرلمانية؟ العلة في إقرار الحصانة البرلمانية، هي لحماية النواب من الضغوطات التي تسلط عليهم من السلطة السياسية أو الأنظمة التسلطية، أثناء أداء البرلماني لمهامه النيابية، باعتباره منتخبا من طرف الشعب ولا فضل للسلطة السياسية في وصوله إلى المقعد الذي يحوزه، بالتالي يجب أن لا يكون تحت ضغطها، وهذا السبب في إقرار حصانة للنواب في كل التشريعات المقارنة. لكن الواقع يقول أمرا آخر، فالحصانة لم تعد لحماية ممثل الشعب والدفاع عن تطلعات منتخبيه، بل وسيلة للتهرب والتعسف في استعمال السلطة والتعدي على الحدود، وفي ظل هذه الاختلالات، فإنه بدأ التفكير في إدخال تعديلات على مفهوم الحصانة البرلمانية، وجعلها حصرا لحماية ممثل الشعب أثناء القيام بمهامهم داخل قبة البرلمان، حتى لا تٌخرج عن إطاراها القانوني الذي وٌجدت من أجله وتتحول إلى أداة لخرق القانون والتملص من المسؤوليات المنوطة بمثل الشعب.
لم يحدث وأن رفعت الحصانة القضائية، رغم تورط نواب في جرائم قتل؟ هل هذا مؤشر على وجود تواطؤ بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؟ أعتقد أن السلطة التشريعية والتنفيذية، عندما لا تقومان برفع الحصانة البرلمانية، فهما يخلان بالتزاماتهما السياسية والأخلاقية اتجاه الوطن والناخبين، وهنالك الكثير من المجاملات والتفاهمات السياسية تقع بين السلطتين، مجملها بأن تمرر السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية مشاريع القوانين، بالمقابل تتغاضى السلطة التنفيذية عن تجاوزات السلطة التشريعية، ولهذا صار من الضروري التفكير بشكل جدي في إعادة النظر في مفهوم الحصانة البرلمانية وأن لا تكون مطلقة، وجعلها محصورة في قبة البرلمان فقط.
تتحدث عن وجود تفاهمات بين السلطتين، ما مدى تأثير هذا التواطؤ لدى الرأي العام؟ نحن في نظام مغلق متسلط، السلطة لا تضع القانون ولا تولي اهتمام لحمايته، والحاصل أن هنالك تبادلا للأدوار، فالسلطة التشريعية منبطحة أمام السلطة التنفيذية، حتى تستفيد من الحصانة لنوابها، وبالمقابل تتحصن السلطة التنفيذية وراء السلطة التشريعية لتنفيذ أجندتها، لنصل إلى نتيجة واحدة هي أن هنالك حصانة ومصلحة متبادلة على حساب القانون والناخب.
رفعت وزيرة الثقافة دعوى قضائية ضد النائب لويزة حنون وهذه الأخيرة أعلنت عزمها الامتثال للقضاء والتنازل عن الحصانة، ماذا تتوقع في هذا المسار القضائي؟ لا تعليق لدي عن القضية.