لا أدري لماذا تهتم الأنظمة العربية بتشييد العمارات والبنايات الشاهقة أكثر مما تهتم بكثير ببناء الإنسان، فعندما تصادف مسؤولاً عربياً لتسأله عن تعثر النهضة في بلاده... يثور في وجهك قائلاً: "ألا ترى هذه الأبراج العظيمة من حولك؟ ألا تشاهد الأبنية الفخمة في كل مكان؟ ألا ترى النهضة العمرانية المتصاعدة في بلدنا؟" ثم يمضي المسؤول ليحدثك بإسهاب ونشوة كبرى كيف ارتفع عدد المستشفيات والمدارس والأسواق والكراجات والطرقات والأوتوسترادات والفنادق والمطاعم والمنشآت السياحية مترامية الأطراف بنسب هائلة. باختصار، قلما تجد مسؤولاً يفاخر بتنمية الإنسان في بلده، إلا ما ندر، فالكل يقيس معدل الحضارة بعدد البنايات والمراكز والصروح الخرسانية الضخمة، وكأن أنظمتنا أصبحت متعهدة إنشاءات. ناهيك عن أن التوسع العمراني يجب أن لا يكون منة على الشعوب من قبل الحكام، فهو ببساطة مجاراة للتكاثر السكاني لا أكثر ولا أقل. طبعاً لا أحد ينكر أهمية البنية التحتية في المجتمعات الحديثة وضرورتها الملحة. لكن أليس من الأجدر أن تسير النهضة الخرسانية يداً بيد مع النهضة الإنسانية؟ ما قيمة البنايات والعمارات إذا لم يقطنها ويدرها أناس أكفاء؟ بعبارة أخرى ليس المهم أن تكون قادراً مالياً على بناء العمارات، بل في أن يكون لديك المهارات البشرية، فعندما تتوفر الأخيرة تصبح الأولى تحصيل حاصل. ولعلنا نتذكر كيف قامت أميركا وإسرائيل بقتل معظم العلماء والأطباء العراقيين بعيد الغزو الأمريكي للعراق لأن أعداءنا لا يخشون من بناياتنا العملاقة بقدر ما يخشون من طاقاتنا البشرية المتقدمة كالعلماء والماهرين في مختلف الاختصاصات. وما دمنا في العراق، فإن العراقيين تمكنوا من إعادة بناء كل الجسور العملاقة التي دمّرها القصف الأميركي لبغداد خلال فترة قياسية، وذلك دون الاعتماد على الخبرات الأجنبية التي تقوم عادة ببناء كل المرافق الضخمة في هذه العاصمة العربية أو تلك. بعبارة أخرى، فالعبرة دائماً في المهارات القادرة على البناء والإدارة لا في البنايات نفسها التي يتفاخر بها العديد من الحكومات العربية عمّال على بطّال. لا أعتقد أن المسؤولين العرب مغفلون أبداً عندما يتناولون النهضة العمرانية ويتجاهلون النهضة البشرية، فهم يركزون عمداً على الإنجازات الإسمنتية لأن سجلهم في التنمية البشرية مزرٍ للغاية، ولا يمكن لعاقل أن يتفاخر به. زد على ذلك، أن من الأسهل والأسلم للأنظمة العربية التركيز على البناء الخرساني منه على البناء الإنساني، لأن الأبنية العالية مهما ارتفعت لا يمكن أن تهدد عروش الحكام العرب، بينما يمكن للإنسان الذي تم إعداده إعداداً جيّداً أن يشكل خطراً على الأنظمة الحاكمة، وبالتالي، فمن الأفضل للحكومات أن تهتم بالحجر وتهمل البشر. وهو للأسف ما تفعله منذ زمن بعيد. لو نظرنا إلى المشاريع التي حققتها الدول العربية النفطية منها وغير النفطية لوجدنا أن جل استثمارها يتركز في الأبنية الإسمنتية، إذ ترتفع في معظم المدن العربية بنايات ضخمة تناطح عنان السماء. والمضحك في الأمر أن جل تلك البنايات الهائلة الحجم لم يبنها عرب، بل تم التعاقد على تشييدها مع شركات غربية أو كورية. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على فشل الحكومات العربية في الاستثمار في الإنسان. هل يعقل أنه لا يوجد لدينا شركات ومهندسون ومصممون قادرون على بناء أبراج وناطحات سحاب. ولعل الأنكى من ذلك أن معظم الدول العربية لم تفشل فقط في تخريج المهندسين والمصممين القادرين على بناء الأبراج، بل أيضاً فشلت في إدارة تلك الصروح. فمن المحزن جداً أن ترى الكثير من الفنادق العربية الضخمة المبنية بأشكال هندسية حديثة ورائعة لا تجد من يديرها من أهل هذه الدولة أو تلك. وكم شعرت بحزن شديد عندما وجدت بعض الفنادق العريقة في بعض البلدان العربية وقد آلت إدارتها إلى شركات أجنبية بعد أن فشلت الخبرات المحلية في إدارة تلك الفنادق. ففي أحد البلدان العربية مثلاً تخلت إحدى الشكات العالمية للفنادق عن إدارة فندق في عاصمة عربية، فقامت الدولة بتعيين إدارة محلية للفندق. لكن الإدارة الوطنية حولت الفندق ذي الخمس نجوم إلى فندق رديء بكل المقاييس في التضييف والإطعام والنظافة، مع العلم أنه كان فندقاً ذا سمعة طيبة عندما كان خاضعاً لإدارة غربية. وبعد أن وجدت الدولة أن الفندق أصبح مضرباً للأمثال في الرداءة بفضل الإدارة المحلية قامت بالاستنجاد بشركات أجنبية لتنقذ سمعته من السقوط المتتالي. وفعلاً نجحت الشركة الأجنبية في إعادة الهيبة للفندق شكلاً ومضموناً واسماً. ولا ننس أن معظم الفنادق العربية يديرها أجانب!! وفي بلد عربي آخر انهارت سمعة كل الفنادق الضخمة التي كانت تديرها خبرات وطنية محلية، فأصبحت تلك الفنادق الضخمة جداً عنواناً للعفن والبؤس والتهكم. وكم شعرت بالحزن عندما وجدت الشركات الأجنبية تتولى إدارة بعض الفنادق التي تغيرت حتى أسماؤها العربية لتحمل أسماء أجنبية معروفة. ومن المضحك أنك عندما تسأل بعض المسؤولين عن مصير تلك العمارات الفندقية الضخمة المتدهورة يجيبونك بنوع من التفاخر بأنهم أسندوا أمرها لشركات أجنبية، وكأن الحل في استيراد الخبرات الخارجية بدل تنمية الخبرات الداخلية لتدير تلك الفنادق وغيرها من المرافق الحيوية. الكل يستثمر في الإنسان، بينما ما زال العرب دون غيرهم يتباهون بالاستثمار بالبُنيان!!