شهر مارس هو شهر حافل بالمناسبات المختفية بالبيئة يم الشجرة، ويوم الماء و يوم البيئة.. وأعتقد بأن الإنسان الذي وضع أياما للتذكير بأفضال البيئة على كل كائن حي، لم يضعها لمجرد الذكرى، إنما وضعها لتكون محطة للقيام بعملية جرد لما أنجزه من أعمال تحافظ على سلامة البيئة، وتقييم تلك الأعمال استعدادا لأغمال أخرى تتجنب السالب منها، وتدعم الإيجابي، ومساهمة مني، أقدم هذا الجهد البسيط بالحديث عن بخيرة الرغاية من حيث وضعها وما ينتظر مستقبلا من مشاريع لإصلاح ذلك الوضع. خيرا تعمل شرا تلق! هكذا يقول المثل الشعبي، وتلك حالنا مع البيئة، تعطينا كل شيء ولا نرد لها من جميل غير النكران، رغم أن عاداتنا المتوارثة لا ترضى بأن يرد صاحب الهدية فارغ اليدين، الطبيعة منحتنا، وتمنحنا كل يوم أسباب الحياة المتزنة، ونحن نقابل منحها بمنحها أسباب زوال الحياة، ونحن إذ نفعل ذلك، لا ندري بأننا نسعى إلى دمارنا، نخل بتوازن حياتنا بالإخلال بتوازن الطبيعة، فمنذ أن تفتح عيوننا ونحن نسعى في خرابنا بالبحث عن الحياة السعيدة في جسد الطبيعة المنهكة، فاستنزفنا بجشعنا غير المحدود، كل أسباب الحياة المتزنة، لا شيء سلم من معول الهدم، البر والبحر والجو. في البر، الغطاء النباتي يكاد يختفي، ولم يبق منه سوى براقع هنا وهناك تستغيث وتستجسر ولا من مغيث ولا مجير، فالمغيث والمجير هو نفسه الجلاد، هو الخصم والحكم، العمران الفوضوي سيد الموقف، ينتصب قاضيا على كل أخضر متهم بعرقلة التقدم، ويحكم حكمه الجائر، بإعدام الجنس الأخضر واستئصال عمده من جذورها ليقيم مكانها عمدا اسمنية تناطح السحاب، فتستعمر الفضاء بعد الأرض، وترتفع أدخنته النتنة، تنشر سمومها التي تبتلع ذرات النقاء. قبل أكثر من عشرين سنة، كنت ماشيا بجانب الطريق الوطني رقم 24، في منطقة يقال لها هراوى، هي الآن بلدية، من بلديات العاصمة، التي تقع إلى شرقها بحوالي 30 كلم، ولم أدر إلا وسيارة مرسيدس فخمة سوداء اللون بترقيم دبلوماسي، تتوقف بالقرب مني، ونزل منها رجل وامرأة من الجنس الأصفر، تقدم نحوي الرجل وقال بلغة فرنسية مكسرة ما معناه: "هل تدلنا على بحيرة الرغاية؟ فقلت له أنا أسكن قريبا منها، فقال: اركب معنا، فركبت وأوصلتهما إلى كدية تشرف على البحيرة، فلما رأيا المنظر صاحا معا إعجابا، وراحا مستغرقين في استنشاق ذلك الجمال و نسياني، فلما شعرت أني لم أعد ذا منفعة لهما، عدت إلى البيت، أحكي مغامرتي الأولى مغ بحيرة الرعاية. موقع البحيرة تقع بحيرة الرغاية شرق العاصمة على بعد 30 كلم تقريبا، تتربع على 1500 هكتار منها 75 من الماء العذب، وقد صنفت واحدة من بين 42 بحيرة محمية في الجزائر، يتواجد بها أكثر من 140 نوع نباتي تم إحصاء ما يقارب 206 نوع من الطيور بينها 82 مائيا وحوالي 55 نوعا محميا من قبل القانون الجزائري ولأجل هذا تم إنشاء مركز لتربية المصيدات بالرغاية سنة 1983 بهدف تفريخ الطيور والاعتناء بتحسين سلالتها وتكاثرها، كما صنفت ضمن قائمة ''رمصار'' للمناطق الرطبة عالميا. بحيرة الرغاية هذه التي صارت محمية عالمية، دخل عليها "الساحق والماحق" منذ ذلك التاريخ الذي أشرت إليه، فقد كانت منطقة ولا أجمل، هي قطعة من روائع المبدع، أرض منخفضة يتجمع فيها الماء يحيط بها حزام غابي من الجهتين الشرقية والغربية، ومنفتحة شمالا على البحر. أما من الجنوب، فيصب فيها واديان، يتسللان إليها قاطعين منطقة الرغاية، تتميز بكونها ملتقى الطيور المهاجرة التي تتخذها محطة عبور للاستراحة فيها أياما قبل رحيلها نحو الجنوب، وهي منطقة تستقطب أيضا أصنافا من الطيور الأخرى، التي تعيش في الجوار، صانعة بيئة يحسن فيها العيش وتطيب فيها الحياة، كان يقطن بهذه المنطقة الجميلة بعض الفلاحين من مالكي بعص الأراضي، التي تدر خيرات زراعية، فهي معروفة ببساتينها الكثيرة، ولعل ذلك ما جعل "القوري" يقيم فيها معهدا للبستنة، مازال موجودا إلى اليوم، غير أن التدهور والاهمال طاله مثلما طال تلك البساتين التي تحيط به، والمنطقة كاملة. برنامج في الأفق لتنمية المناطق الرّطبة ورد على لسان بعض المسؤولين وجود برنامج لإدماج السكان القاطنين بالقرب من المناطق الرطبة بإنجاز مشاريع جوارية للتنمية الريفية، وقد تمت برمجة نحو 12.000 مشروع جواري للتنمية الريفية المدمجة في إطار هذه المشاريع التي تمتد آجال إنجازها على مدى خمس سنوات (20092014). يرمي هذا البرنامج إلى التكفل بانشغالات السكان المجاورين لهذه المناطق أي تعزيز نشاطاتها التي تكتسي أساسا طابعا فلاحيا. كما أن هذا البرنامج يتضمن كذلك إنجاز مشاريع سياحية بهدف تحسين ظروف حياة السكان وتثبيتهم في مواقعهم. كما يتعلق الأمر أيضا بإشراك السكان وإدماجهم في التسييرالعقلاني لهذه المسطحات المائية التي قد تتعرض للجفاف إذا ما أفرط في استغلالها. ويرتقب حسب بعض المصادر القيام بأعمال عديدة منها إنجاز نقاط مائية ومراكز مراقبة وإنشاء مناطق رعوية وتثبيت الكثبان الرملية وغرس أشجار مقاومة للرياح. وبالنسبة لبحيرة الرغاية ونظراً لأهميتها البيئية والجمالية، صُنفت دولياً كمنطقة رطبة ذات أهمية عالمية سنة 2002، ويعدّ وادي الرغاية أحد أهمِّ مصادر مياه البحيرة إلى جانب ستة منابع جوفية ومياه الأمطار، ويمكن اعتبار وضعها الآن أفضل بكثير مما كان عليه سابقاً حسب نظر المسؤولين حيث دخلت محطة لتصفية المياه المستعمَلة الخدمة، وبذلك يمكن اعتبارأن مشكلة تلوث مياهها منتهية، بعد أن كانت مياه وادي الرغاية تصب فيها مباشرة دون تصفية وهي محملة بنفايات المنطقة الصناعية. أما اليوم، فتستعمل للري فقط وتضمن سقي 1200 هكتار من الأراضي الزراعية المحيطة بها. وتعدُّ بحيرة الرغاية محطة لاستراحة الطيور المهاجرة من أوروبا إلى أفريقيا في كل موسم خاصة في الشتاء بحثاً عن الدفء والغذاء خلال موسم تكاثرها. هناك أربعة أنواع من طيور نادرة يتمُّ تربيتُها وتوفير الحماية لها بالبحيرة لأنها مهددة بالانقراض ومصنفة ضمن “القائمة الحمراء الدولية” وهي”الفرخة السلطانية” و”عفاس أبلق” و”حذف جميل” و”رسمتور تذروجي”، وهي طيور ذات جمال رائع بألوانها الزاهية. كما تعيش بالغابات المجاورة بغابتها الفسيحة مجموعة من الحيوانات البرية ومنها ابن آوى والثعلب والقنفذ والثعابين، إلا أنها لا تشكل أي خطر على الزوار والسكان المجاورين للبحيرة لأن أعدادها قليلة وسلسلتها الغذائية مضمونة نظراً دون أن تكون بحاجة إلى الاقتراب من الإنسان. لو يعود أولئك الصينيون اليوم إلى بحيرة الرغاية، سوف يتأسفون على المناظر التي خلبت عقولهم ذات يوم، من سنة 1982، وستضيع من أقدامهم الطريق، فقد كانت الطريق الوطنية يومئذ تحيط بها أراض فلاحية مزروعة أو أشجار غابية نمت طبيعيا، أما اليوم فالطريق تحفها هياكل اسمنية فوصوية، قتلت كل جميل، وقتلت رغبة الحياة في المنطقة، وحتى رغبة التنزه على جنبات البحيرة. لا شيء يغريك اليوم بالقدوم إلى هنا، سوى الوقوف على الأطلال، فكل ما يمكنك أن تراه هو عمارات وعمارات، فالبحيرة محاصرة بحزام من البنايات الخانقة، وماؤها الذي كان يسقي البساتين ويصطاد فيه هواة الصيد السمك صار ملوثا بفعل تدفق النفايات القادمة من كل جهة، من المنطقة الصناعية ومن المحيط السكاني المتزايد بتسارع رهيب، وإقامة مصنع بجانب البحيرة منذ سنوات لتصفية المياة القذرة المتدفة فيها، لم يشفع لها في استعادة رونقها وطبيعتها الجذابة، سمعنا ومازلنا نسمع عن مشروع سياحي في المنطقة، ولكن كل ما رأيناه هو ذلك الملهى الذي دمره زلزال 2003، وما عدا ذلك لم نر شيئا ذا بال، رغم ما أدخل من تحسينات على مركز تربية الطيور في الجهة الشرقية بغرض استقبال الزوار من العائلات الباحثة عن لحظات من العيش الطبيعي في وسط طبيعي محض، ولكن في بلادنا لا شيء يدوم، ما إن تألف شيئا حتى تفطم منه، حتى لا تألف طبعا. ماذا بقي من بيئة هذه البحيرة؟ بقي ماؤها الذي انعدمت فيه الحياة، وانمحى نبات البردي الذي كان يشكل حزامل حول محيط البحيرة، بقي ماؤه الآسن وانقطعت جموع هواة الصيد لاندثار السمك، وبقي ماؤه عاريا بعدما بدأ الغطاء النباتي يتناقص، بقي ماؤه ينحسر نحو الوسط هروبا من زحف جيش مدجج من دبابات الاسمنت المسلح والنفايات، وبقي لها في النهاية الموت المحدق بها من كل جهة يتربص بها الدوائر. وعندما نسمع المسؤولين وهم يكشفون عن البرامج و المشاريع للنهوض بهذه المناطق، ننبهر بقدرتهم على تقريب الجنة للمواطن، بل يضعونها بين يديه، وعندما ننظر إلى الواقع نصاب بدوار، ونحن نشاهد أموال الشعب تهدر دون أن تحقق المبتغى، وعلى سبيل المثال، يلاحظ الزائر لبحيرة الرغاية بأن هناك مشروعا لجسر يربط ضفتي البحيرة، وانطلق هذا المشروع منذ سنوات، ولكن الانطلاق في مشروع عندنا، يعني من بين ما يعنيه، بداية لموته و قبره، وهانحن اليوم، نسمع عن مشاريع سياخية في المنطقة وأخرى تنموية، ولكن لا ندري ماذا ماذا يكون مصيرها، وهو ما يدعونا للقول بأنه من الأفضل أن تبقى الطبيعة على طبيعتها، لأن ما توفره لنا فوضى الطبيعة أفضل بكثير مما تقدمه لنا يد التعديل. وإذا كان لابد من مشاريع لإسعاد الإنسان، فليكن هذا الإنسان أيضا شجاعا في إتمام عمله، وإيصاله لنهايته حتى يكون مثمرا ويعود عليه بالمنتظر من الفوائد. لذلك عندما أعود لنفسي، أتساءل عن العقل الساكن فينا والقلب الذي ينبض في جوانحنا، ما باله لا يرى في الطبيعة التي تحتضنه غير ضرع يمتص حليبه، لماذا تتسم أعمالنا كلها بدون استثناء بالفوضوية، فحيثما وليت وجهك لا ترى سوى فوضى متغطرسة، لاشيء فيه تنسيق، وكأننا أعداء النظام، والتنسيق، لماذا لا نتعلم من الطبيعة نظامها وتنسيقها، ونسبغه على حياتنا؟ لماذا نصر على عقاب أنفسنا بأيدينا؟