جدل بين سلطاني و حنون حول الغاء عقوبة الإعدام مع أن المواطن العادي، لم يعد متحمّسا لمتابعة ما يجري بين الحين والآخر، من ملاسنات بين زعماء الأحزاب، أو المشتغلين بالسياسة، إلا أن موضوع الندوة الصحفية التي خصصتها السيدة لويزة حنون (الإثنين الماضي 22 مارس) للرد على الأخ أبو جرة سلطاني، وردّ هذا الأخير عليها (الثلاثاء 23 مارس)، يمكن أن يعيدنا إلى أجواء الجدل، حول موضوع العلمنة، وما يرتبط به من أسئلة سياسية ودينية معقّدة. * ولعل أهم سؤال في هذا السياق هو: من يعلم من.. ومن يسلم من؟ أو بمعنى آخر: هل ستكون السيدة لويزة قادرة على علمنة الأخ أبو جرة، وإخراجه من عباءته الدينية؟ * أم سيكون الأقدر على أسلمتها، وإخضاعها لله؟ * أنا شخصيا، لا أعتقد أن الموضوع، مرتبط في عمقه بمثل هذا البعد الديني، أو الإيديولوجي، الذي أدى في أوربا إلى حروب شرسة، بين العلمانيين ورجال الدين في القرون الوسطى. * أعتقد أن المسألة في الحالة التي نتحدث عنها، لا تتجاوز مجرّد تصفية حسابات سياسية بين الطرفين، يحركها لدى الأخ أبو جرة، شعوره بأن السيدة لويزة استطاعت بلعبة سياسية ذكية أن تكون المرشّح الأفضل لخلافته في التحالف الرئاسي، أو البديل المناسب في أي تحالف سياسي مقبل، يمكن أن يشكل "الأرندي" أحد محاوره الأساسية. * ويحرّكها لدى السيدة لويزة، شعور قديم، بأن الأخ أبو جرة مازال يلعب لعبة "الوجه والقناع"رغم الرغبة الإندماجية، التي أبداها في السنوات الأخيرة للذوبان في النظام، والقبول بالتفسخ فيه، وشعور جديد يقول أن الرجل لن يعود إلى الحكومة (الحالية أو القادمة) رغم أن المبرّر الذي قدم تحت غطائه استقالته كوزير دولة، لم يعد قائما. * وهنا يمكن أن نسأل: لماذا يقحم الله في مثل هذه التصفيات الضيقة، أو الإستقطاب السياسي المحدود؟ * ولماذا يكون خطاب هذا الطرف أو ذاك معتدلا ومرنا وهادئا، كلما كان مستفيدا من ضرع الدولة وسلطتها وريوعها؟ * * الدولة والخيار الأمريكي * لنفرض أن الضجّة الإعلامية التي أثارها الأخ أبو جرة، كانت باسم الله، وكانت لدى السيدة لويزة باسم تروتسكي، هل العلمانيين والإسلاميين، هم من سيحدّد مستقبلا شكل الدولة التي يريدون، بعد التدخل الأمريكي السافر، لفرض القيم والأفكار الكونية، التي تراها أمريكا وليس غيرها، مناسبة للبشرية اليوم، وفق المصالح الأمريكية الإستراتيجية، وقيمها التي تجلت في مشروعاتها الجديدة، التي تريدها للشعوب المتخلفة من وجهة نظرها، وعلى رأسها الشعوب العربية والإسلامية في العالم الثالث، ومنطقة الشرق الأوسط التي شرعت في إعادة بنائه، على أنقاض ما ترى أنه كان يهدّد مصالحها الحيوية في المنطقة؟ * أليست مشكلة الإسلاميين في هذا الموضوع، تبدأ عندما ترى الإدارة الأمريكية، أن نشر أولويات الحريات والديمقراطية في العالم، منسجم تماما مع مطلب إعلان الحرب على ما تسميه الإرهاب، الذي أصبح مرادفا للإسلام، بعد أحداث سبتمبر 2001؟ * ألا تبدأ مشكلة العلمانيين أيضا، عندما يكتسب الطرح الأمريكي أو الغربي عموما، صفة محاولة استيعاب الإسلاميين علمانيا (والمحاولة جارية مع بعض الحركات الإسلامية في الوطن العربي) والقبول بوصولهم إلى السلطة في حالة قبولهم بالحفاظ على مثلث الصيغة الأمريكية، وهي الهيمنة على النفط الخام، والحفاظ على القاعدة العسكرية الإسرائيلية متفوقة في المنطقة، وضمان عدم الإنقلاب على المصالح الأمريكية، وإلحاق الضرر بها؟ * طبعا، نقول هذا، ونحن لا نتصوّر أن يصل التدخل الأمريكي في الجزائر، إلى حدّ الغزو أو الإحتلال، مثلما هو في الحالتين العراقية والأفغانية، ولكن نتوقع أن يتدخل الموقف الأمريكي الرسمي في كل الإصلاحات السياسية والإقتصادية التي يمكن أن تحدّد ملامح الدولة القادمة، ودفعها باتجاه التخلص من أي حمولة تراثية، يمكن أن تكون في الميزان الأمريكي، مرادفة للإرهاب أو منبعا له أو أي حمولة إيديولوجية يمكن أن تعيد الحديث عن المشروع الإشتراكي، كخيار فكري تاريخي وسياسي، مثلما تؤمن السيدة حنون. * ألا يفترض في مثل هذه الحالة، أن يتجاوز أصحاب الشأن السياسي الوطني، أنفسهم وتنظيماتهم الحزبية المختلفة، للسعي إلى تحقيق أرضية مشتركة في المرحلة التاريخية الراهنة، التي يفترض أن يتعامل فيها الجميع مع الطرف الغربي، كطرف خارجي، لا يمكن احتضانه، أو القبول بإملاءاته، التي تعني التحوّل الجذري عن أصالة المجتمع وتقاليده وخصوصياته؟ * أليس من المفترض أن ترتفع أحزابنا بمختلف توجهاتها، إلى هذا المستوى من التفكير الإستراتيجي، بدل الهبوط في هذه اللحظة التاريخية الخطيرة، إلى مستوى أقل؟ * ألم يكن بإمكان الأخ أبو جرة أن يقول:"مابال قوم" بدل أن يسمي السيدة حنون باسمها، ويفتح على الحركة باب "بوزنزن" هي في غنى عنه؟ * * النموذج التركي والخطأ * أعتقد أنه من الخطأ، أن يتطلع العلمانيون أو الإسلاميون أيضا، إلى التجربة التركية، ونموذجها (الإسلامي العلماني)، دون مراعاة الفروق الشاسعة بين هذه التجربة، ومثيلاتها في العالم العربي، خصوصا من حيث طبيعة النظام أولا، ثم من حيث طبيعة المجتمع ثانيا. * وقد تكبر فوارق المقارنة أكثر، عندما نتحدث عن النموذج التركي، قياسا على الحالة الجزائرية، من حيث النظام السياسي والانتخابي، الذي يسمح في تركيا، بوصول أي معارضة إلى الحكم عن طريق الانتخاب، وتسلم السلطة بناء على ذلك بضمونها الحقيقي بينما تظل طبيعة النظام في الجزائر وفي العالم العربي محكومة بديمقراطية الشكل، ومعارضة الديكور التي تجعل السعي إلى الوصول إلى السلطة ديمقراطيا، كالسعي وراء الريح!! * أما من ناحية طبيعة المجتمع، فإن الأتراك، تعرّضوا كما هو معروف، لعلمنة قسرية طويلة الأمد، جعلتهم يتقبلون مثلا، تصريحات "أردوغان" رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم، عندما قال أنه ليس إسلاميا، أو إنه مسلم علماني، بينما المجتمع الجزائري، مازال لا يتقبل مثل هذا الطرح، ويرفض أن يغيّر إسلامي من طبيعته وهويته، ويتحوّل إلى سياسي لا يحرم ولا يحلل. * ومن هنا، قد يعتقد الكثير من الناس، أن الدعوة إلى إقامة دولة علمانية، مثلما دعت إلى ذلك السيدة حنون، وإعجابها بالنموذج التركي، هي دعوة لجرّ الإسلاميين إلى لغة جديدة، ليس فيها أي نكهة دينية إسلامية، وهو ما سينهي وجودهم، ومعهم منظومة التدين التي تسيّدت الساحة في العقدين الأخيرين. * * حقائق ينبغي أن تعرف * صحيح أن من الأولوية أن يتجه العلمانيون والإسلاميون الآن، إلى الإهتمام بالديمقراطية، كضامن للحريات والحقوق العامة، لكن هل يعني ذلك فتح الباب أمام حرية الإنحطاط الأخلاقي التي وصلت في الحالة الأمريكية إلى حدّ الدفاع الذي وصلت إليه الحالة التركية، حيث يستطيع أي مواطن تركي، أن يتهجم على الدين، أو حتى على الذات الإلهية، ولكنه لا يستطيع أن يتهجّم على شخص أتاتورك! * وإذا كانت السيدة لويزة، تقرّ بأننا دولة مسلمة، فهل تعرف أن السقف في ممارستنا الديمقراطية كمسلمين، يتمثل في أمرين يصعب الخلاف حولهما، هما مقاصد الشريعة، والنصوص القطعية فيها. * صحيح أن الجزائريين، قريبين من أوربا، ومن فرنسا تحديدا، وأكثر انفتاحا عليها ثقافيا، ولكنهم ليسوا مندمجين فيها إلى حدّ التماهي، الذي يمكن أن ينفي خصوصياتهم المرتبطة بعمق أصالتهم ودينهم. * ولسنا هنا، نتحدث عن بعض النخب الثقافية أو السياسية،التي وصلت للأسف، إلى هذا الحد من التفسخ والذوبان، إنما نتحدث عن الأغلبية الساحقة التي يصعب إخضاعها لنموذج علماني مستورد، دون أن يثير ذلك في كنه ذاتها، الشعور بالتناقض والتعارض، أو حتى الشعور بخيانة الدين والوطن. * إن هناك دستورا ينصّ على أن الإسلام دين الدولة، وليس سليما من الناحية الديمقراطية، ولا حتى من الناحية الأخلاقية، أن يطالبنا أحد باسم الديمقراطية، أو باسم غيرها، أن لا نحترم هذه المادة، في مجتمع غالبيته العظمى من المسلمين. * * علمانية وعلمانية * كما أعتقد أن على الإسلاميين، أن يفرقوا بين العلمانية اللائكية، التي لا تؤمن بالدين أو تعتبره أفيونا للشعوب، وبين العلمانية الجزئية، التي تؤمن بالدين، وتؤمن في نفس الوقت بمدينة السلطة وعقلانيتها. * ولا أظن، أن الأخ أبو جرة، سيجد مشكلة في التعامل مع النوع الثاني، من العلمانيين، وإن كان ذلك سيقوده إلى إثارة السؤال المتكرّر: هل السلطة في نظام الحكم الإسلامي، مدنية أم دينية؟ * ولا أعتقد أنه سيجد صعوبة كبيرة في الإجابة، بعد أن قدمها لنا قبل مئة عام، الإمام محمد عبده، عندما قال بوضوح "ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير". * لكن تبقى الإجابة الأصعب، عن سؤال وجّهه لي أحد المواطنين قائلا: لو افترضنا أن الشيخ أبو جرة، وصل إلى السلطة فجأة، وتحوّل في لحظة تاريخية نادرة إلى أمير للمؤمنين، هل سيترك السيدة حنون معارضة عمالية باسم "تروتسكي"؟ * وهل، إذا وصلت هي إلى السلطة، هل ستترك الشيخ أبو جرة، يضع رجلا في المشاركة وأخرى في المعارضة باسم الوسطية والإعتدال؟ * لم أجد جوابا غير التعليق على هذه الضجة بالقول لسائلي: دعها فإنها مأمورة!!