شيعت ظهر أمس بالمقبرة المركزية بقسنطنة، جنازة عميد أغنية المالوف الفنان محمد الطاهر فرقاني، الذي توفي ليلة الأربعاء بمستشفى جورج بومبيدو بالعاصمة الفرنسية باريس عن عمر ناهز 88 سنة. جنازة الفقيد حضرها إلى جانب أقارب وأهالي الفنان، جمع غفير من المواطنين، الذين جاءوا من بعض الولايات المجاورة لحضور مراسيم الجنازة والتي حضرها أيضا عدد من الوجوه الفنية والثقافية وأصدقاء المرحوم، إلى جانب بعض الشخصيات الرسمية يتقدمهم الوزير الأول عبد المالك سلال ووزير الثقافة عز الدين ميهوبي، إلى جانب عضو مجلس الأمّة زهية بن عروس. وكان جثمان الفقيد قد وصل إلى مطار محمد بوضياف بقسنطينة في حدود الساعة العاشرة صباحا، على متن رحلة جوية قادمة من باريس، وتم وضعه في القاعة الشرفية للمطار، قبل أن يتم نقله على متن سيارة إسعاف تابعة للحماية المدنية، إلى مقر مسكنه العائلي بحي سيدي مبروك في موكب رسمي، تتقدمه سيارات الأمن الوطني، في وقت كان المئات من المعزّين القادمين من مختلف أرجاء مدينة قسنطينة وحتى من بعض المدن المجاورة، قد تجمعوا أمام مسكن العائلة. وقد وصل جثمان المرحوم إلى البيت العائلي عند حدود الساعة الحادية عشر والربع صباحا، ولم يمكث بين أفراد عائلته لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، سوى ربع ساعة، ليتم نقله مرة أخرى على متن سيارة الإسعاف إلى بهو قصر الثقافة مالك حداد بإلقاء النظرة الأخيرة، وعند تمام منتصف النهار تم نقل الجثمان إلى مسجد الأمير عبد القادر، أين أقيمت صلاة الجنازة مباشرة بعد صلاة الجمعة لنهار أمس، والتي حضرها الوزير الأول عبد المالك سلال والوفد المرافق له من الشخصيات السياسية وبعض المسؤولين المحليين والمركزيين، لينطلق بعدها الموكب الجنائز المهيب باتجاه المقبرة المركزية بوسط مدينة قسنطينة، أين ووري جثمان عميد أغنية المالوف الثرى، في أجواء جنائزية مهيبة. ويعتبر المرحوم الحاج محمد الطاهر فرقاني، أول فنان في الشرق الجزائري تقام له جنازة رسمية، ويحضرها كبار المسؤولين في الدولة، مما يؤكد الاهتمام البالغ بالأعمال الفنية التي تركها الفقيد الذي افتقدته الساحة الفنية والثقافية، لكن أعماله وإبداعاته في الموسيقى الأندلسية وفن المالوف ستبقى خالدة للأجيال القادمة وعلى مدار عقود من الزمن.
قالوا عن الفقيد حمدي بناني (فنان): قضيت 60 سنة مع الحاج محمد الطاهر فرقاني، ليس كصديق، بل هو أخ أو أكثر، تربطنا علاقات مهنية في مجال المالوف، ولدينا أيضا علاقات عائلية، ويكفي أنه شرفني في حياته بإحياء كل المناسبات والأفراح لأفراد عائلتي... وفاته كانت صدمة بالنسبة لي ولمحبيه، وعشاق المالوف، الذي أبدع الحاج محمد الطاهر فرقاني في الحفاظ على المألوف، الذي ارتبطت موسيقاه باسم الراحل، الذي اعتبره أنه لم يمت، لأن بصماته وأعماله ستظل خالدة، وسأعمل بمقولته التي ظلّ يرددها منذ عشرات السنين "خلي الحال يسير على حالو..."، وانطلاقا من هذه المقولة التي بقيت خالدة في ذهني من أقوال الحاج سأواصل المسيرة وحمل مشعل فن المالوف من بعد الحاج رحمه الله. عنتر هلال (كوميدي): لا يسعني إلاّ أن أترحم على روح الفقيد وأعزّي نفسي وعائلته وكل الجزائريين برحيله... لأن الحاج محمد الطاهر فرقاني هو قامة من قامات الثقافة الجزائرية، التي بدأت تتهاوى أعمدتها برحيل كبار الفنانين، الواحد تلو الآخر، حيث فقدت الساحة الفنية والثقافية قبل أيام المرحوم عمر الزاهي، وهاهي اليوم تفقد محمد الطاهر فرقاني، أدعو الصحفيين ووسائل الإعلام المختلفة إلى زيارة الفنانين المتقدمين في السن، خاصة منهم أولئك المتواجدين على فراش المرض بين حياة وموت، لتسجيل تجاربهم الشخصية في الحياة الفنية، كشهادات حيّة ونقلها للأجيال القادمة في إطار الحفاظ على الموروث الثقافي للأمة، والتي تظهر فيه بصمات الحاج محمد الطاهر فرقاني جليّة، بأعماله في مجال موسيقى المالوف. صورية زبيري (عضو الجمعية الفرقانية للمالوف): تتلمذت على يد الحاج محمد الطاهر فرقاني رحمة الله عليه، ولم يكن مجرد أستاذ بالنسبة لنا، استلهمنا وتعلمنا منه موسيقى المالوف، بل أكثر من ذلك فقد كان بالنسبة لنا أخا وأبا عطوفا وحنونا، على تلاميذه الذين ينشطون ضمن الجمعية الثقافية، التي أسسّها، وترك أكثر من 60 شابا في هذا الفن الذي لم يبخل علينا المرحوم بخبرته حتى نتعلمه على قواعد وأسس سليمة، فالحاج بالنسبة لنا لم يمت، لأن كل نوتة من المالوف تذكرنا به، وكل صفحة في تاريخ المالوف نجد فيها بصمته.
المطربة فلة الفرقاني ابنه أخ الضحية عمي الحاج الطاهر شمعة انطفأت علينا جميعا لم تتمالك نفسها من شدة الصدمة، لتصرح للشروق اليومي قائلة: "لقد فقدنا كبير العائلة، زرت عمي رحمه الله قبل رجوعه إلى المستشفى بباريسبفرنسا منذ شهر بثلاثة أيام ببيته، وكان يبدو مرتاحا إلى حد كبير، ضحك معي كالعادة، وأوصاني أن نكون دوما سندا لبعضنا مهما كانت الظروف، لم أتصور أن يفارقنا بهذه السرعة "ما شبعناش منو"، كنا نأمل أن يعود إلينا معافى من مرضه، لكن لكل أجل كتاب، ربي يرحمو ويوسع عليه، ويجعل مثواه الجنة إن شاء الله".
منيرة فرقاني ابنة الفقيد كان والدي يتمنى أن يتمم علاجه بالجزائر منيرة فرقاني ابنة الفقيد، قالت: "إنه ظرف صعب بالنسبة لنا، ففراق الوالدين صعب جدا، رجعت منذ ستة أيام من فرنسا وتركته بخير، لكن قبل يومين من وفاته اتصل بي والدي الغالي والعزيز، وطلب مني أن نسرع برجوعه إلى أرض الوطن، ليتابع علاجه هنا بالجزائر، لكن نحن فضلنا أن يواصل علاجه هناك، لأننا كنا نأمل في شفائه من مرضه، كنا نتمنى أن نراه يمشي على رجليه ثانية، لكن هذا قدره، ذهب ماشيا وعاد في النعش، لن أصبر على فراقه أبدا، كان سندي في الحياة، كان أبي وصديقي وأخي، وكل شيء في حياتي، تعلمت منه الكثير، حب الناس، حب الخير، حتى الغناء علمني إياه وصرت أتقنه، أشكي له همومي وعلى كتفه، وفي حضنه أجد راحتي كلها، أبي الغالي لن أنساك حتى ألقاك، لأنك لم تمت بالنسبة لي، فصورتك لن تغادر مخيلتي، وصوتك الشجي لن يغادر مسامعنا، وكل زاوية من أرجاء البيت تحمل لك ذكرى جميلة، بالرغم من حزننا سنصبر ونطلب من الله أن يجعل مثواك الجنة ويلهمنا صبرا جميلا على فراقك وشكرا لكل من واسانا سواء من قريب أو بعيد.
بعد أن قتل المجاهدون الشيخ ريمون صهر ماسياس اليهود حاولوا اغتيال الحاج الفرقاني سنة 1961 بقسنطينة لم يكن مسار الراحل محمد الطاهر الفرقاني، ورديا، في رحلة الثمانين سنة مع أغنية المالوف، فقد شابته في بدايته الكثير من العراقيل، خاصة أن يهود قسنطينة حاولوا السطو على الموروث الثقافي القسنطيني في عز تألق الشاب محمد الطاهر في هذا النوع من الفن، بحجة أن عرب شمال إفريقيا واليهود عادوا معا إلى الجزائر بعد سقوط الأندلس، وعليهم أن يرثوا معا الأندلسي. وكان من أشهر فناني يهود قسنطينة الشيخ ريمون ليريس المولود في سنة 1912 في قسنطينة، وهو فنان له أكثر من ثلاثين أسطوانة، ويؤدي الأغاني باللغة العربية، وكان أكبر من زاحمه والد الفرقاني الفنان حمو، قبل أن يبزغ نجم محمد الطاهر الفرقاني، فقد تعلم ريمون علي يدي مشاهير الفن القسنطيني من أمثال عمار شقلب وعبد الكريم بسطانجي. كما ضمّ إلى فرقته أنريكو ماسياس عازف القيتارة ووالد ماسياس الذي يعزف الكمانجا، وتعلق أنريكو ماسياس بالشيخ ريمون إلى درجة أنه طلب يد ابنته سوزي وتزوج منها في قسنطينة، في سنة 1960 وكان عمر ماسياس حين ذاك 22 سنة، وعاش ماسياس في بيت صهره الشيخ ريمون، إلى غاية 22 جويلية من سنة 1961، في جو من التنافس بين فناني المالوف من عرب ويهود، إلى أن حان اليوم الموعود 22 جويلية 1961، حيث تلقى رصاصات المجاهدين في ساحة رحبة الصوف في قسنطينة القديمة، وهو ما جعل ماسياس يحمل كل هذا الحقد للمسلمين والعرب، تجلى في مواقفه الداعمة للصهاينة وحتى للموساد الذي كرّمه ومنحه النياشين، واتهم بعض اليهود عشاق المالوف وأهله من العرب بكونهم حاولوا توقيف مسار فنان يهودي، صار بارزا ويؤدي الحفلات لدى كل عائلات قسنطينة من أجل تغليب فتى المالوف الصاعد، فحاولوا اغتيال الحاج محمد طاهر الفرقاني في خريف 1961 ولكنهم فشلوا وهذا من خلال توظيف شباب يهود بترصد حركاته. وعندما دقت ساعة الاستقلال رحلوا عن قسنطينة جماعيا، وقد روى الحاج الفرقاني عمليات التربص به من خلال تتبع حركاته من يهود قسنطينة، في حوار مطول سابق مع أسبوعية الشروق العربي في تسعينات القرن الماضي، والغريب أن أنريكو ماسياس الذي يؤدي الكثير من أغاني المالوف إلى حد الآن، باللغة العربية، مثل "قم ترى براعم اللوز" و"يا بلارج يا طويل القايمة"، وغيرها من الأغاني، التي أداها الحاج محمد الطاهر الفرقاني، كان يتفادى الحديث عنه في كامل حواراته ويذكر كل شيوخ المالوف، ولم تلتقط أبدا صورا للراحل محمد طاهر الفرقاني الذي يغني باستمرار في فرنسا، مع انريكو ماسياس، رغم أن لماسياس صورا وأعمالا مع العديد من الفنانين الجزائريين مثل حمدي بناني وحسين لصنامي والشاب خالد ومامي وغيرهم.
زهية بن عروس عضو سابق بمجلس الأمة الحاج كان صديق العائلة وحضر حفل زفاف ابنتي صرحت، زهية بن عروس، عضو سابق بمجلس الأمة فيما يخص رحيل الفرقاني، والدموع تنهمر من عينيها، قائلة: "الجزائر تفقد اليوم عميد مدرسة المالوف، وهرما آخر من أهرامها الكبيرة بعد عمر الزاهي، الحاج محمد الطاهر الفرقاني رحمه الله، كان وطنيا قلبا وقالبا، أفنى حياته في خدمة الطابع الأندلسي الأصيل، كان مدرسة قائمة بذاتها بقسنطينة، من سمع فنه لا يمكن له أن ينساه أبدا، يؤثر فيك بكل المقاييس، يجعلك تعشق المالوف بصوته الشجي وأدائه المتميز. الفنان ليس شخصا عاديا، فهو يموت جسديا لكن فنه يبقى حيا. كان الحاج صديق العائلة،وقد حضر حفل زفاف ابنتي.. هذا هو أجله.. مدارس وشيوخ تذهب وتغادرنا، نودع اليوم الحاج الفرقاني.. هذه سنة الله في خلقه، لقد كان يحب الناس جميعا، يبتسم دائما في وجه كل من يراه، حتى إنه مات وهو مبتسما كما أكده لي ابنه، بأفعاله وأخلاقه أحبه الجميع". وتضيف في سياق آخر، متأسفة فيما يخص وضعية الفنان الجزائري بالجزائر التي ما تزال متدهورة، فلا يمكن أن نعلق للفنان العرجون بعد وفاته، الآن مادامت الجزائر مستقرة بخلاف التسعينات، فيجب أن تعطى أهمية أكثر للأوضاع الاجتماعية للفنانين من باب إنساني أولا".
محمد الطاهر الفرقاني في آخر حوار أجراه مع الشروق غنيت أمام بومدين وزقار وكاسترو وكرمني العربي بلخير التقت الشروق اليومي عميد أغنية المالوف الحاج محمد الطاهر الفرقاني في ماي 2015 أياما بعد افتتاح تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية. ودافع الفرقاني –رحمه الله- عن فن المالوف بوصفه فنا عربيا نافيا أن يكون إرثا يهوديا - كما يروج له -. كما نفى نفيا قاطعا أن يكون قد تتلمذ على يد ريمون وقال في السياق "تتلمذت على يد أستاذي حسونة بن علي خوجة المعروف جدا والذي كان يشرف وقتها على "الخمامسة" و"الصناع" عند بن شيكو. كما تعرض بالتفصيل في نفس اللقاء إلى علاقته بانريكو ماسياس "كنا نعرفه باسم "غاستو غيناسيا وكان معلما في شلغوم العيد "شاطودان" سابقا. التقيته مرة عندما كان يحاول توقيف سيارة في الطريق، كنت عائدا رفقة ابني سليم من العاصمة فتوقفت وأخذته معي إلى قسنطينة". وعاد إلى واقعة اغتيال ريمون "عندما قتل ريمون تنكرت في سروال جينز وقبعة وتوجهت إلى عنابة ثم سوق أهراس ثم ڤالمة ثم سكيكدة وودعت عائلتي.. خشيت من انتقام اليهود وحتى عندما كنت أقصد فرنسا كنت أخاف على نفسي." كما أشار إلى تعلقه بأغاني فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب. وغنى الراحل للكثير من رؤساء الجزائر في مقدمتهم الرئيس الراحل هواري بومدين وأيضا لمسعود زقار "غنيت في حضور الشريف مساعدية وأحمد دراية وأيضا العربي بلخير الذي كرمني في الدار البيضاء عندما كان سفيرا في المغرب ومازلت أحتفظ بالتكريم "زربية تقليدية وآلة الرباب لحد اليوم في منزلي. كما غنيت على شرف فيدال كاسترو في سيرتا وكان برفقة الرئيس بومدين، قدمت له كهدية أغنية من "الفلامينكو" أدهشته". وأضاف في سياق منفصل متحدثا عن الفرقانية "أسست جمعية الفرڤانية في الثمانينيات، توفي رئيسها وتوقفت أنا عن التدريس بعد إجرائي لعمليات جراحية في فرنسا. أكيد يبقى الحلم الأكبر تأسيس مدرسة قائمة بذاتها. درست الكثير من الشباب لمدة ثماني سنوات وأصبحوا الآن معروفين ويحيون أعراس القسنطينيين. ولدي 50 قرصا مضغوطا في السوق يمكن للشباب الاستعانة بها في التعلم". وختم الحوار بالحديث عن مشروع مذكرات "سيصدر كتاب عن حياتي في غضون شهر من الآن وتحدثت فيه عن حياتي وعن شيوخ المالوف على مر السنوات كتبه هشام دربال وينشره نفس الناشر الذي نتعامل معه في الالبومات. كما صدر أيضا آخر ألبوماتي "الطالب".