إن ما نعرفه عن تاريخ آث يعلى لا يعدو أن يكون نتفا لا تشفي الغليل، ولكن يمكن استنطاق ما تبقى من العمران والوثائق المكتوبة، لتعميق معارفنا التاريخية. وعلى أي حال فقد أشارت الدراسة الاجتماعية المذكورة لمؤلف مجهول أن قرى آث يعلى كانت ضمن القبائل المتمردة في عهد الأتراك العثمانيين. * * لمحات تاريخية * لذلك قرر هؤلاء تأديبها، فخرجت فرقة عسكرية تركية من برج زمورة قاصدة آث يعلى، وتشير الرواية الشعبية أنه لما تأكد اليعلايون من عجزهم عن مقاومة هؤلاء العسكر، قرروا استضافتهم، فاستقبلوا من طرف أبناء سيدي الجودي الذين أحسنوا ضيافتهم. لكن حدث أن لاحظ أحد الجنود الأتراك أثناء مأدبة الغذاء اختفاء فخذ إحدى الدجاجات المقدمة للضيوف، فاستفسر في أمرها، وأخبره صاحب الدار أنه منحها لطفله الصغير، وعلى اثر ذلك أمره الجندي بإحضار الطفل، ثم قام ببتر ساقه عقابا له. وفي طريق العودة انتقم الولي الصالح سيدي مُحند اُويَحْيَ من هؤلاء الأتراك الأجلاف، أثناء مرورهم بغابة الصنوبر، عندما تحولت بقدرة قادر ثمار الصنوبر إلى حجارة أتت على الكثير من أفراد الفرقة العسكرية، ومنذ ذلك التاريخ تواصل الرواية لم يجرؤ الأتراك على زيارة آث يعلى. إن ما يستخلص من هذه الرواية ذات الطابع الأسطوري، أن الأتراك العثمانيين كانوا يعاملون الجزائريين معاملة قاسية، خاصة أثناء تحصيل الضرائب. * * فترة الاحتلال الفرنسي * يفيدنا النزر اليسير من المعلومات عن هذه الحقبة، أن آث يعلى قد انضموا إلى مقاومة الأمير عبد القادر، فأرسل هذا الأخير ممثله سي موسى إليهم في حدود عام 1840م، وأسس زاوية في موقع ثاڤمه. وفي سنة 1846م أغار سي موسى على وادي السبت حيث مقر قايد وادي الساحل، وفرّ إلى سطيف. لكن سنة 1847م كانت حاسمة لآث يعلى، إذ تمكن الفرنسيون من تنظيم حملة كبيرة توجت بإخضاعهم، وكان ذلك في 3 جوان. غير أن ذلك لا يعني استسلامهم، فقد احتضن آث يعلى ثورة الشريف بوبغلة عند ظهورها سنة 1851م. ويبدو أن هذه المنطقة قد صارت ملجأ للمتمردين حتى في السنوات التي انعدمت فيها الثورات، والدليل على ذلك أن فرنسا قد قامت بنفي السيد أحمد ولد قدور إلى كاليدونيا الجديدة، وأقلعت به سفينة سيبيل Sybille يوم 27 أفريل سنة 1867م، وهو يحمل رقم 18675(3). وشارك آث يعلى أيضا في ثورة 1871م، تحت قيادة الشيخ أحميدة بوعمامة، الذي انسحب إلى تونس بعد الهزيمة، واستقر بمدينة الكاف(4). * * المؤثرات الفرنسية * تأثرت منطقة آث يعلى كغيرها من مناطق القطر الجزائري بالاحتلال الفرنسي في مجالات عدة: * 1 تم تأسيس أول مدرسة بها سنة 1888م، وظل عدد تلاميذها ضعيفا (حوالي30 تلميذا) بسبب عزوف الأهالي عن إرسال أبنائهم إليها، ومن أشهر معلميها Poisson الذي كتب تاريخ عادات وتقاليد آث يعلى كما سبق الذكر. * 2 إنشاء دوار إخليجن سنة 1886م، مقره ڤنزات، تابع لبلدية ڤرڤور المختلطة، دائرة بجاية، عمالة (ولاية) قسنطينة. * 3 فتح الحالة المدنية سنة 1890م بمكان يدعى لُوطا نَسُوقْ. * 4 الهجرة إلى فرنسا بكثافة، وقدر مجموع الحوالات المرسلة من هناك سنة 1948م، بحوالي8671 حوالة، بلغت قيمتها الاجمالية 70.211.956 فرنك. * 5 الهجرة الداخلية، خاصة إلى مدينة الجزائر، وتركزت اليد العاملة اليعلاوية بصفة خاصة في مؤسسة البريد PTT، ومؤسسة النقل الحضري RSTA. * * الخصائص الثقافية المحلية * تتميز الثقافة المحلية بطابعها العرفي الأمازيغي، الذي نظم الحياة حول محور التعاون والتعاضد، ومن أبرز مظاهرها: * جني التين بعد 15 أوت، وجني الزيتون بعد 15 ديسمبر. * ثيويزي: (التعاون لجمع المحاصيل الزراعية). * لوزيعة: ذبح عدد من رؤوس الأنعام بمناسبة الأعياد الدينية والفلاحية، لإعداد عشاء، يبعث السرور في قلوب جميع القرويين. * وتقام لوزيعة أيضا، عندما يصاب ثور أحد السكان بجرح، ولا يرجى شفاؤه، وفي هذه الحالة يذبح ويباع أسهما للقرويين، وهذا من باب مساعدة صاحب الثور. * ثيشمليث: التطوع لخدمة المصالح العمومية،كالطرقات ومنابع المياه. * الجنازة: يتعاون الأقارب لتجهيز الجنازة وإعداد الطعام، ويعفى أهل الميت من القيام بأي عمل. * انقسام الناس إلى الصفوف (أصف واده / أصف اُوفَلا) * الرعي الجماعي * توزيع مياه الري: يتم توزيع المياه الخاصة بسقي البساتين بين الفلاحين، بطريقة عادلة، على أن يتداولوا على فترات السقي، المقسمة على النحو التالي: * 1 إيمُودَنْ = من منتصف الليل إلى الساعة الثالثة صباحا. * 2 أنْقارْ = من الساعة الثالثة إلى الساعة السادسة صباحا. * 3 أنْشَارْ = من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة صباحا. * 4 ثامْدُونْتْ = من الساعة التاسعة إلى الساعة الثانية عشرة. * 5 أطهُورْ = من سا 12 الى سا 15. * 6 العَاصَرْ = من سا 15 الى سا 18. * 7 أڤلْوي = من سا 18 الى سا 21. * 8 ثاڤُونِي = من سا 21 الى سا 24. * والجدير بالذكر أن هذه المواقيت كانت تحدد بحركة الشمس، أو بالساعة العصرية. * * التأريخ المحلي * اعتاد أهل آث يعلى كغيرهم من سكان الجبال على التأريخ بالأحداث الكبرى، على النحو التالي: * 1865 = أسُوڤاسْ نَشّرْ (عام المجاعة) * 1866 = أسُوڤاسْ أنْبُوشْحِيط ْ (عام الطاعون) * 1871 = أسُوڤاسْ نَنْفَقْ (عام الثورة) * 1907 = أسُوڤاسْ أنْزَلزْلا (عام الزلزال) * 1908 = أسُوڤاسْ وَجْرَاذ ْ (عام الجراد) * 1911 = أسُوڤاسْ أنْتِيفِيسْ (وباء التيفوس) * 1920 = أسُوڤاسْ وُبريذ (عام الطريق بين بوقاعة وڤ) * * التعليم العربي * انتشر التعليم العربي (تحفيظ القرآن وتدريس العلوم الشرعية واللغوية) انتشارا واسعا في آث يعلى، وكانت تتعاطاه عائلات المرابطين في منازلها ومساجد القرى، لذلك كان معظم الناس يحفظون ما تيسّر من القرآن، ويقرؤون ويكتبون. وذكر العلامة الشيخ المهدي البوعبدلي أن المستوى التعليمي بآث يعلى كان لا يقل عن مستوى جامع الزيتونة بتونس. * وكان من عادة اليعلاويين أنهم يكرمون الأطفال يوم دخولهم إلى الكتاب، ويسمى هذا التكريم محليا (الفتوح)، وأول آية تكتب على الألواح هي الآية 113 من سورة النساء: * [وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما] * وكان من عادة الأطفال أنهم يقومون بتزيين الألواح عند كل عطلة، ثم يختار المعلم أحسنها، ويتجول بها الأطفال في أزقة القرية لجمع التبرعات للمعلم من أهل القرية، وهم يرددون [ثامَلالتْ أتزويقْ، وينْ يَتزالانْ يَتْصَدِيقْ] معناها تصدقوا ببيضة من أجل هذا الرسم، فالصدقة من شيمة المصلي. * * العائلات العريقة في تعاطي التعليم والإفتاء * هناك عدة عائلات اشتهرت بتوارثها للعلم،خاصة في قريتي ڤنزات، وشريعة، ومن أشهر علمائهما: * أ قرية ڤنزات: الشيخ مُحند أوقري (1635 1720)/ الطيب بن قري / الشيخ الصالح بن قري/ الشيخ أرزقي صالحي/ السعيد صالحي/ الهاشمي بن الحاج الطيب/ عبد الرحمن أكتوف/ الشاعر الربيع بوشامة. * ب قرية الشريعة: الشيخ بلقاسم محجوبة/ الشيخ يحي محجوبة/ الشيخ السعيد بن أعمر/ الشيخ يحي الشريف/ الشيخ الزروق معروك/ الشيخ الصالح أحمسي/ الشيخ الصالح محروش/ الشيخ يوسف يعلاوي. * وهناك علماء كثيرون آخرون في قرى أخرى: * الشيخ المولود بن حميدة، من قرية لمقاربة. * الشيخ عبد الله بن سيدي سليمان، من قرية أثوبوحربيل. * الشيخ بن الخراط، من قرية ثيطسث. * الشيخ المولود كرجاني من قرية كرجانة. * الشيخ بلقاسم موفق، من قرية كرجانة. * وغيرهم كثيرون لا يسمح المقام بذكر الجميع. * * الحركة الإصلاحية في آث يعلى * تعتبر منطقة آث يعلى قلعة من قلاع الحركة الإصلاحية، ولا أدل على ذلك من زيارتها من طرف الإمام عبد الحميد بن باديس سنة 1927م، واستقبله الشيخ أرزقي صالحي، ثم عاد إليها بعد عشر سنوات أي سنة 1937م، واستقبله ابن أخيه الشيخ السعيد صالحي. وقد أقيمت نواة المدرسة الإصلاحية في جامع الجمعة، قبل تأسيس المدرسة سنة 1944م على يد الشيخ السعيد صالحي، لكنها سرعان ما أغلقت وزج بمؤسسها في السجن، بسبب أحداث 8 ماي 1945م، ثم عادت إلى نشاطها بعد إطلاق سراحه. وفي سنة 1947م أشرف الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، بمعية الشيخ السعيد الزموشي على وضع حجر الأساس لمدرسة كبيرة ذات خمسة أقسام وجناح إداري، وضع تصميمها المهندس عبد الرحمن بوشامة، وتم انجازها سنة 1953م، ومن معلميها، عبد الرحمن بن الموفق، بلقاسم خيار، محي الدين بن المولود، محمد بورزق، وغيرهم، ولعبت هذه المدرسة دورا كبيرا في نشر العلم. * ومكن هذا الجو العلمي آث يعلى من إرسال بعثة طلابية إلى قسنطينة، ومن أعضائها الربيع بوشامة، بلقاسم كريس، أمحمد عادل، الطيب شاوش، عبد الله بن عدودة، محمد أكلي وسليمان، محمد المسعود بوعمامة، يوسف اليعلاوي، عبد الحميد ألمان، المكي بن حالة (5). * * الحركة الوطنية * ساهم اليعلاويون في تأسيس وتنشيط الحركة الوطنية، ولعل أبرز أسماء الوطنيين الكبار، محند أرزقي كحال الذي ساهم في تأسيس حزب الشعب سنة 1937م، واستشهد سنة 1939م. والشهيد أمحمد بوڤرة، والشهيد خليفة بوخالفة، والشهيدة مليكة قايد، والشهيد محمد الشريف ميدوني، والشهيد ذبيح الشريف. وقدرت ضريبة الدم التي قدمتها منطقة آث يعلى خلال الثورة التحريرية بحوالي 600 شهيد. * * زاوية سيدي الجودي بحمام ڤرڤور * أخبرني رئيس بلدية ڤنزات الدكتور عمار بن عدودة، أن أجداده قد درجوا على تحديد موقع عرش آث يعلى، بقولهم: "آث يعلى من سيدي الجودي إلى سيدي الجودي" والقول إشارة إلى مسجدين اشتهرا بتحفيظ القرآن، أحدهما في ڤنزات، والآخر في حمام ڤرڤور. * اقترح عليّ رئيس البلدية زيارة زاوية سيدي الجودي ببلدية حمام ڤرڤور، فكان نعم الاقتراح. وقد حظينا باستقبال حار من طرف شيخ الزاوية السيد لحلو مرابطين، وبعض أعضاء الجمعية الدينية، ومكننا من زيارة جل مرافقها العصرية التي تستجيب لمتطلبات المؤسسات العلمية الحديثة، علما أن السيد رئيس الجمهورية قد اشرف على تدشينها في شهر جوان 2007م، وتعد تحفة معمارية رائعة الجمال، سيكون لها شان في نشر المعرفة في المنطقة. * تلكم هي الفكرة العامة عن اللمحة التاريخية لعرش آث يعلى، الذي لم يكتف برصيده العلمي والثقافي فقط، بل أنجب أيضا إطارات عالية ساهم بعضها في الماضي، ويساهم البعض الآخر حاليا في بناء الدولة الجزائرية. ومما يبعث على التفاؤل في المستقبل أن اللحمة متينة بين منطقة آث يعلى وأبنائها المقيمين خارجها، خاصة في مدينة الجزائر، ويتفانون في تقديم يد العون لها في كل المجالات. * * الهوامش * 1 د/ جمال ڤنان، ديوان الشهيد الربيع بوشامة، منشورات المتحف الوطني للمجاهد، 1994، ص 145. * 2 شارل فيرو، المجلة الإفريقية، العدد 70، سنة 1868م. ص 245. * 3 Melica Ouennoughi, Algériens et Maghrébins en Nouvelle ?Calédonie, * De 1864 a nos jours, Casbah éditions, Alger, 2008, P 372. * 4 عبد الكريم بوعمامة، بنو يعلى ، لمحات من التراث اليعلاوي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2006، ص 52. * 5 محمد الحسن فضلاء، المسيرة الرائدة للتعليم العربي الحر، ج1، دار الأمة، الجزائر، ط1، 1999م، ص 183. *