قلعة آث عباس (قلعة ونوغة)، حصن منيع ارتبط بتاريخ بجاية منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وتاريخ محلي شكل عنصرا مهما في فهم تاريخ الجزائر في القرن السادس عشر الميلادي. قلعة آث عباس أي الجغرافيا التي لبت نداء التاريخ، عندما تعرضت بجاية للعدوان الإسباني في مطلع هذا القرن 16م، فتحالف أجوادها من أجل إخراج المحتلين، مع الأخوين بابا عروج وخير الدين اللذين شكلا رأس الحربة للخلافة العثمانية، التي هيمنت على حوض البحر الأبيض المتوسط لأزيد من ثلاثة قرون من الزمن. وظلت قلعة آث عباس وفيّة لثقافة المقاومة، عندما تعرّضت الجزائر للغزو الفرنسي، فرفع الحاج مُحند ناث مقران (المقراني) راية المقاومة في ربيع 1871م، التي كانت بمثابة جوهرة هامة في عقد المقاومة الشعبية الجزائرية. موقع قلعة آث عباس تقع قلعة آث عباس في بلدية إغيل علي (ولاية بجاية)، التي تحدها بلدية آث رزين (ڤندوز) شمالا، ولاية برج بوعريرج جنوبا، ودائرة ثاموقرا شرقا، ودائرة بوجليل غربا. تتميز بتضاريسها المرتفعة (أكثر من 900م فوق مستوى سطح البحر)، وتندرج ضمن سلسلة جبال البيبان الشهيرة بمضيق أبواب الحديد، المتحكم في الطريق الرابط بين شرق الجزائر ووسطها. وقد حبا الله هذه القرية بموقع حصين تحميها جروف عالية من ثلاث جهات، وعليه لا يمكن الوصول إليها إلا من جهة واحدة فقط، الأمر الذي ساعد أهلها على الدفاع عنها. لذا برزت أهميتها الاستراتيجية منذ عهد الدولة الزيرية (القرن 10م)، إذ مازالت بعض آثارها القديمة تحمل اسم أخريب اُوزيري (أي أطلال بني زيري). ولم تخف هذه الميزة على قادة ثورة نوفمبر 1954م، فاختارها الشهيد عبان رمضان لاحتضان مؤتمر الثورة، لكن فرار البغلة بما حملت من وثائق، ووقوعها في قبضة الفرنسيين جعله يتخلى عن خياره، ونقل المؤتمر إلى منطقة إفري بوادي الصومام(20 أوت 1956م). إشكالية المصادر التاريخية رغم أهمية هذا الدور التاريخي الذي قامت به قلعة آث عباس، فإن المصادر التاريخية شحيحة في ذكر تاريخها، فهل يعود ذلك إلى غياب التدوين أم إلى ضياع الكتب المدونة؟. وبالنظر إلى استقبال قرية آث عباس لبعض سكان بجاية - مسلمين وغيرهم - المشهورين بعلمهم وصناعاتهم وحرفهم، فإننا نرجح احتمال ضياع الكتب المدوّنة، ولعل ما يرجح ذلك، عثور الضابط الفرنسي شارل فيرو Charles Féraud، على مخطوط هام في آث يعلى، بعنوان: "عنوان الأخبار فيما مر على بجاية"(1) ألّفه الشيخ أبو علي إبراهيم المريني البجائي، اللاجئ - حسب تقديري - إلى آث يعلى، وقد تحدث فيه بإسهاب عن نكبة احتلال الاسبان لمدينة بجاية سنة 1510م، إلى غاية تحريرها على يد صالح رايس سنة 1555م. وماعدا ذلك، فإن التأريخ لهذه النكبة وما نجم عنها من انسحاب حضر بجاية نحو الجبال (خاصة نحو قلعة آث عباس)، قد تم على أيدي كتاب أجانب أشهرهم ليون الإفريقي Léon L'africain(2)، ومرمول Marmol الإسباني، الذين تميزت كتابتهما بالسطحية، والتحيّز للجانب الاسباني بشكل ملفت للانتباه، كما هو شأن الكاتب مرمول. أما ما ذكره الإسباني دييڤو دى هايدوDiego de Haedo (من القرن 16م) عن قرية آث عباس، في كتابه الموسوم: الحياة في الجزائر في سنوات 1600م "La vie à Alger les Années 1600" فهو لا يعدو أن يكون مرور الكرام في سياق حديثه عن عنصر الزواوة في تشكيل سكان مدينة الجزائر. ويمكن أن نضع في نفس هذه الخانة أيضا مذكرات وليام شالر القنصل الأمريكي في الجزائر ما بين(1816 - 1824)، والرحالة الألماني هاينريش فون مالتسان، الذي زار بلاد الزواوة سنة 1857م، وكذا الرحالة الانجليزي الدكتور توماس شي Thomas Shaw الذي زار الجزائر في القرن 18م. ونظرا لغياب المصادر التاريخية المحلية، فإن ما وصل إلينا من المعلومات لا يشفي الغليل، لأن ما كتبه الأجانب هو قراءة خارجية، غير دقيقة، تشوبها الكثير من الثغرات في سرد الأخبار، فهم - على سبيل المثال - قد اختلفوا في تحديد الشخصية المحورية التي أسست الإمارة، فذكروا عبد الرحمن بن عبد العزيز أحيانا، وذكروا أخاه العباس أحيانا أخرى. ولم يساعد موقعها المعزول في الجبال الوعرة على زيارتها من طرف الرحالة، الذين زخرت كتبهم بالمعلومات الغزيرة حول الحياة الاجتماعية للمناطق التي زاروها. وبالنسبة للمراجع الحديثة، فإن أهم ما اطلعت عليه هو كتاب: "قلعة بني عباس في القرن 16م La Kalaa des béni abbés au XVIe siècle" لمؤلفه يوسف بنوجيت، وما كتبه أيضا السيد مولود ڤايد، وأخيرا تناهى إلى مسامعي وجود رسالة ماجستير حول قلعة بني عباس، في قسم التاريخ بجامعة الجزائر، أشرف عليها الدكتور أرزقي شويتام. بالإضافة إلى بعض كتابات السادة: جمال عليلات، وجمال الصديق، وجميل عيساني. ولا شك أن هناك مراجع أخرى لم أتمكن من الوصول إليها. ارتباط آث عباس ببجاية يعود تاريخ ارتباط قلعة آث عباس ببجاية إلى القرن 11م، جراء زحف بني هلال على منطقة المسيلة، الأمر الذي جعل الحماديين يختارون بجاية - ذات الموقع الحصين - عاصمة لمملكتهم أيام السلطان الناصر بن علناس، الذي يحتمل أنه أقام مؤقتا في القلعة خلال فترة بناء العاصمة الجديدة، ثم صارت بمثابة قاعدة خلفية هامة لهذه المملكة، ويبدو أن القلعة قد احتفظت بمكانتها الهامة خلال حكم الموحدين لبجاية. وعندما احتل الإسبان مدينة بجاية، كانت القلعة بمثابة القرش الأبيض لليوم الأسود - كما يقال - لمن تبقّى من أسرة الأمير عبد العزيز بن أبي محمد عبد الله، إذ انسحب إليها ابناه الأمير العباس وأخوه الأمير عبد الرحمن، وبذلك دخلت في مرحلة تاريخية جديدة، وهي مرحلة الارتقاء إلى مستوى الإمارة، كان لها شأن وذكر خلال الحكم العثماني للجزائر، تميزت بسيطرتها على مضيق أبواب الحديد الاستراتيجي المتحكم في الطريق الرابط بين الشرق والغرب. والجدير بالذكر، أن القوات الإسبانية قد حاولت استمالة الأمير العباس بن عبد العزيز، من أجل قطع الطريق أمام عمّه أبي بكر، الذي قتل والده في سياق الصراع على إمارة بجاية. هذا وقد اعترفت اسبانية بإمارة آث عباس الناشئة في المناطق الداخلية (دون الساحلية التي أعطيت لحليف إسبانيا مولاي عبد الله، الذي تنصّر لاحقا) بموجب الاتفاق الموقع بين القائد الاسباني أنطونيو دى رافادينا، والأمير العباس بن عبد العزيز، في غضون سنة 1511م، قدم بموجبه هذا الأخير نجله محمد رهينة لدى القوات الاسبانية(3). علاقة الإمارة بالعثمانيين كانت العلاقات بين إمارة آث عباس، والإيّالة العثمانية تتأرجح بين السلم والحرب، وبقدر ما تحمّس الأتراك العثمانيون لإخضاع هذه الإمارة لنفوذهم، بقدر ما حرص أمراؤها على الاحتفاظ باستقلالهم، لذلك لم تتوان هذه الأخيرة عن استقبال الفارين من نفوذ الأتراك، وخاصة العنصر الأوروبي المتميّز بخبرته الواسعة في فنون الصناعة، وقدمت لهؤلاء امتياز الاحتفاظ بديانتهم المسيحية مقابل الاستفادة من خبرتهم العسكرية. ولا شك أن الحكام العثمانيين في الجزائر قد استفادوا من فترات تدهور العلاقات بين إمارتي بلاد القبائل (أحمد بن القاضي في جرجرة، وآل المقراني في آث عباس) بفعل الصراع من أجل السيطرة على الساحة المحلية. وهكذا فقد تحالف الأمير العباس مع خير الدين بربروس خلال فترة (1520 - 1525)، التي تميزت باستيلاء أحمد بن القاضي أمير كوكو (بجبال جرجرة) على مدينة الجزائر، وانسحاب خير الدين إلى مدينة جيجل. وتم في غضون سنة 1529م - التي نجح فيها الأتراك العثمانيون في طرد الاسبان من جزيرة البينون بميناء الجزائر - عقد اتفاق بين الإمارتين القبائليتين، كوكو، وآث عباس من جهة، والإيالة العثمانية من جهة أخرى، وهو ما يعد اعترافا متبادلا بهذه الكيانات السياسية الثلاثة. وذكر الكاتب الفرنسي أ. بيربروڤير أن إمارة آث عباس قد جددت تحالفها مع الأتراك العثمانيين سنة 1550م، أي في عهد حسن باشا (4). لكن هذه العلاقات الحسنة لم تلبث أن تدهورت، بسبب قيام الأمير عبد العزيز بن العباس بجمع الضرائب في منطقة المسيلة التي كانت تابعة لإمارة بجاية سابقا، وهو الأمر الذي امتعض منه الحكام الأتراك، ونظروا بعين القلق إلى هذه الإمارة، فاتخذوا مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى تضييق الخناق عليها، فشيّدوا برجي زمورة، ومجانة لمراقبة تحركات إمارة آث عباس (1558). لكن الأمير عبد العزيز بن العباس تمكن من تخريب برج مجانة، وغنم أسلحته، لذلك عزم حسن بن خير الدين على تأديبه، فقاد حملة في السنة الموالية، والتقى الجمعان في معركة ضارية في شهر سبتمبر 1559م، كان النصر فيها حليفا للأتراك، الذين نجحوا في قتل الأمير عبد العزيز بن العباس. وعلى إثر ذلك خلفه أخوه أحمد أمقران، الذي سرعان ما عقد معاهدة الدفاع المشترك مع الأتراك العثمانيين. لكن هذه المعاهدة لم تحل دون هجوم لخضر (أو خيضر) باشا على هذه الإمارة سنة 1590م، أي بعد سنة واحدة من وصوله إلى سدة الحكم في الجزائر، وأمام عجز الأتراك عن اقتحام القلعة الحصينة، التجأوا إلى تطبيق سياسة الأرض المحروقة، فأحرقوا المزارع وقطعوا الأشجار. وانتهت هذه الحملة العسكرية بفضل وساطة أحد المرابطين الذي أقنع الطرفين بوجوب إيقاف الحرب، لحقن دماء المسلمين، ولتلافي هدر قواتهما في معارك هامشية، لا تخدم إلا الكفار. وأمام سيطرة آث عباس على مضيق أبواب الحديد وسهول مجانة، وحرصا على توفير الأمن للقوات العثمانية المتنقلة بين العاصمة وشرق الجزائر، قرر مصطفى باشا بناء برج سور الغزلان سنة 1595م. غير أن ذلك لم يمنع الأمير أحمد أمقران من الهجوم على مدينة الجزائر سنة 1598م ، وتمكن بفضل عامل المفاجأة ودعم أهل العاصمة له من اقتحام باب عزون، والمكوث داخلها مدة أحد عشر يوما، ثم قفل راجعا، ولا نعلم أسباب هذا التراجع السريع. وفي سنة 1600م نظم الأتراك حملة ضد إمارة آث عباس، لكن عيون الأمير أحمد أمقران كشفتها في الوقت المناسب، فاستعد للمواجهة، وتلاقى الجيشان في منطقة وادي الساحل، ورغم انهزام الأتراك وفرارهم إلى برج البويرة، فقد تمكنوا من قتل الأمير أحمد أمقران في المعركة. وعلى إثر ذلك خلفه نجله سي الناصر، ودام حكمه حوالي نصف قرن، ثم مات في ظروف غامضة سنة 1625م. وإذا أخذنا في الحسبان إخضاع الأتراك العثمانيين لبلاد الزواوة في هذه السنة، حين نجحوا في اقتحام قرية كوكو عاصمة آث القاضي، فإنه من غير المستبعد أن يكون الأمير سي الناصر قد مات في المعركة. أما السيد جمال عليلات فله قراءة أخرى، مفادها أنه قتل سنة 1620م من طرف بطانته بسبب إهماله للأمور السياسية، ثم سلموا مقاليد الحكم لابنه بتقه الذي بقي على سدة الحكم إلى أن توفي سنة 1680 ودفن ببرج بوعريرج، تاركا الحكم لابنه بوزيد. ورغم أفول نجم هذه الإمارة عقب هلاك الأمير أحمد أمقران، فقد ظلت قلعة آث عباس محتفظة باستقلالها، وبسيطرتها على مضيق أبواب الحديد، لذا كان الأتراك يدفعون الرسوم مقابل مرور جيشهم من هناك، نحو بايلك الشرق، أو منه إلى دار السلطان (عاصمة الجزائر). ولهذا السبب قام يحي أغا بحملة لتأديب آث عباس سنة 1824م، أحرق خلالها الحقول، وقطع الأشجار، وخرب القرى، لإرغام آث عباس على الاستسلام، لكن دون جدوى. - يتبع - الهوامش 1- Revue africaine, N!70, Année 1868, p245. 2- ليون الإفريقي(1483 - 1554) مؤرخ ورحالة عربي (حسن الوزان)، ولد في غرناطة ومات في تونس، أسره القراصنة الإيطاليون فسيق إلى مدينة نابولي، عاش في روما بعد تنصّره حيث كان يعلم اللغة العربية، وكتب باللغة اللاتينية كتابا مهما عن إفريقيا بعنوان (وصف إفريقيا). 3- Youssef Benoudjit, La Kalaa Des béni Abbés, Editions Dahleb, 1997, P 134. 4- IBID, P 206.