مر مخطط عمل حكومة عبد المجيد تبون في هدوء تام في المجلس الشعبي الوطني، محتميا بمظلة "تنفيد مشروع الرئيس"، ومدعوما بغالبية أعضاء الغرفة السفلى، المشكلة لما يعرف ب"أحزاب الموالاة". ومثل ما مر "مشروع تبون" بسلام من مبنى زيغود يوسف، سيجد الترحيب ذاته وربما أشد، في مجلس الأمة الذي تبدو فيه اللعبة أكثر إحكاما في الغلق بحكم سيطرة حزبي السلطة، جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي، على الغالبية الساحقة لأعضاء هذه الغرفة. لكن هل فقدان المعارضة للمنطق العددي في التمثيل النيابي سيحرمها من القدرة على الإزعاج؟ لا شك أن الحكومة لها من المعطيات ما دافعت بها عن موقفها، لكن للمعارضة أيضا حججها في إبراز هفوات وإخفاقات الجهاز التنفيذي. فأين أصاب تبون، وأين أخفق في مخطط عمل حكومته؟ وما مدى صدقية وجدية وعود الحكومة، وهل هي قابلة للتجسيد؟ وهل رفض المعارضة لكل ما يأتي من الحكومة موقف مؤسس، أم أنه مجرد رفض من أجل الرفض وفقط؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول الملف السياسي لهذا العدد الإجابة عليها.
سجال لا غالب فيه ولا مغلوب التزامات تبون وحجج المعارضة حاول الوزير الأول عبد المجيد تبون أن يصنع لنفسه انطباعا مغايرا لمن سبقه خلال عرضه لمخطط عمل حكومته عند رده على ملاحظات وانشغالات نواب الشعب، مستلهما من تجارب سابقيه ومن الانتقادات التي كثيرا ما وجهت للحكومات السابقة. تبون سارع إلى التأكيد على جدية ما أطلقه من وعود، مؤكدا بأنه سيعكف على "ترجمة مختلف محاور مخطط عمل الحكومة إلى برامج قطاعية مشفوعة بآجال زمنية محددة"، وهو الانشغال الذي ظل القاسم المشترك لغالبية الملاحظات التي سجلها النواب على الحكومات السابقة، وخاصة في ظل عدم التزام من سبقه بعدم تقديم "حصائل" وفق ما ينص عليه الدستور. ولأن المشاريع الاقتصادية والتنموية التي أطلقها تزامنت وظرف اقتصادي خاص، فقد سارع تبون إلى تبديد مخاوف الجزائريين من سياسة شد الحزام التي أرساها الوزير الأول السابق، عبد المالك سلال، تحت ضغط الأزمة وملاحظات الغريم أحمد أويحيى، مطمئنا بأن المخصصات المالية لمشاريعه ستكون جاهزة في قانون المالية للعام المقبل، لكن من دون الإخلال بالتوازنات المالية الكبرى للدولة، وتجنيب البلاد العودة إلى الاستدانة الخارجية. وتأتي هذه التوجهات مناقضة لتلك التي بلورها الوزير الأول السابق، خلال الأشهر الأخيرة من عمر مهمته، حيث أشاع توجها ينزع نحو تجميد المشاريع الكبرى وكذا مراجعة بعض التدابير الحمائية تجاه الفئات الهشة والمحرومة، وهو ما سبب خوفا لدى شرائح واسعة من المجتمع، لطالما استفادت من ملايير التحويلات الاجتماعية. الرجل الأول في قصر الدكتور سعدان تحدث أيضا عن استحداث مفتشية عامة على مستوى الحكومة مهمتها مراقبة أوجه صرف المال العام وإضفاء المزيد من الشفافية في تمويل المشاريع العمومية وكذا إنجازها، لتضاف بذلك إلى العديد من الآليات التي تم إنشاؤها خلال السنوات الأخيرة لمواجهة تفشي ظاهرة الفساد التي نخرت الاقتصاد الوطني وأضرت بسمعة البلاد في الداخل والخارج. هذه التدابير والتطمينات تنطوي على الكثير من الواقعية والموضوعية بحكم الظرف الذي تعيشه البلاد، وهذا ما كان منتظر من الوافد الجديد إلى الوزارة الأولى، لكن هل أقنعت ال462 نائب؟ هذا هو السؤال المحوري المثار حاليا. لا شك أن تبون غير ملزم بإقناع جميع النواب بجدوى وجدية مخطط عمل حكومته، لكنه كان في أريحية من أمره في ظل تمتع الأحزاب الداعمة لبرنامج الرئيس بالأغلبية المريحة في المجلس الشعبي الوطني، وهو ما مكنه من تمرير مخطط عمل حكومته بسهولة. غير أن ذلك لا يعني أنه تمكن من تجريد المعارضة من حججها المنتقدة لمشروع حكومته، وهي ورقة وإن كانت لا تعرّض فريق تبون لأية إجراءات سياسية مثل طرح الثقة، إلا أنها تبقى عامل إزعاج أمام الرأي العام. وإن كانت أحزاب الموالاة تعتبر انتقادات المعارضة للحكومة مجرد "رياضة" و"موقف مألوف" بحكم موقعها الموجود في الضفة الأخرى، إلا أن المعارضة لها ما تقوله في هذا الصدد، فقد اعتبرت إعادة بعث المشاريع الكبرى استدعاء غير مباشر للمديونية الخارجية، ولاسيما في ظل تراجع أسعار النفط وتآكل احتياطي البلاد من العملة الصعبة ونضوب مكتنزات صندوق ضبط الإيرادات من فائض الجباية النفطية. الموقف ذاته ينسحب على موقف الحكومة من التحويلات الاجتماعية، وتوجهاتها الرامية إلى الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية للفئات الهشة والمحرومة، ومواصلة دعم القطاعات ذات الخصوصية العالية، مثل التعليم والصحة والسكن، ولاسيما في ظل الصعوبة التي ترافق مساعي الحكومة في الانتقال من الجباية التقليدية القائمة على موارد النفط، إلى جباية غير تقليدية تبحث في موارد أخرى لتعويض الضرر الحاصل من تراجع أسعار البترول. كل هذه المعطيات تعزز مصداقية طروحات المعارضة، التي عادة ما يكون موقفها معززا بحكم عدم تورطها في فشل تسيير دواليب الدولة، أما من هو في السلطة فعادة ما يكون موقفه ضعيفا بفعل تراكمات الماضي.
ناصر حمدادوش رئيس المجموعة البرلمانية ل "حمس" بالغرفة السفلى مشاريع حكومة تبون قد تجرّ البلاد إلى الاستدانة الخارجية "مجرد وعود وهروب إلى الأمام، لإسكات الرأي العام في ظل التقشف"... هذا ما وصفت به حركة مجتمع السلم مخطط عمل الحكومة الجديدة، بل ذهب رئيس كتلتها البرلمانية، ناصر حمدادوش، أبعد من ذلك، عندما أكد أن ما سماها بحكومة "الأزمة" لن تجد من حلول سوى اللجوء إلى الاستدانة الخارجية مع ما تشكله من خطر أو مزيد من التقشف. كيف تلقيتم مخطط عمل الحكومة وردود الوزير الأول على ملاحظات النواب، الذين رفعوا انشغالات ظلت قاسما مشتركا في كل المحطات التي نوقش فيها المخطط؟ هذا المخطّط هو نسخةٌ محيّنة عن سابقه لسنة 2014، وبالرغم مما توفّر للمخططات السابقة من البحبوحة المالية والصلاحيات المطلقة إلا أنها فشلت، وبقيت وُعود عامة وتعابير إنشائية وإعلان لنوايا متكررة، فهو يفتقد إلى تحليلٍ معمّق للوضع، ويفتقر إلى الأرقام الدقيقة، ويفتقد تحديد الأولويات والأهداف القابلة للقياس، ويفتقد آلياتٍ واضحة للإنجاز والتنفيذ والمتابعة والرّقابة، ويفتقد معايير القياس من أجل التقييم الآني والبعدي، ونعتقد أنّ مَن فشل زمن البحبوحة المالية سيكون أفشل في زمن التقشّف، خاصة أنها نفسُ الوجوه والسياسات والإجراءات، مع غياب الرؤية والاستراتيجية والإرادة. من بين الوعود التي أطلقها تبون، أنه ضبط وعوده بآجال محددة للإنجاز، ألا يُطمئن هذا مخاوف النواب؟ الأصل أنّ هذا مخطّط عمل وليس برنامج عمل، وبالتالي يُفترض فيه الوضوح والدّقة، لأنه يمثّل الآليات التنفيذية لبرنامج رئيس الجمهورية المحدّد بعهدة تنتهي سنة 2019، وهو البرنامج الذي وُضع سنة 2014 في زمن البحبوحة المالية. وقد تمّ التراجع عنه في "أزمة الرّيع البترولي"، وكثير من مشاريعه جُمّدت وحُوّلت في قانوني المالية 2016 و2017، وتمّ تسقيف الميزانية ب 6800 مليار دينار فقط، مع إجراءات تقشفية أخرى قاسية، وما أعلن عنه الوزير الأول من وُعودٍ ما هو إلا ترحيلٌ للأزمة، لانعدام مصادر تمويل محلية. تحدّث تبون عن رفع التجميد عن المشاريع التي كانت معطلة، ورفع المخصصات المالية لبعض البرامج القطاعية، هل هذا ممكن في ظل الأزمة المالية التي تعيشها البلاد بسبب تراجع أسعار النفط؟ الظاهرُ أنّ هذه الحكومةَ غيرُ معنيةٍ إلا بشراء السّلم الاجتماعي، والعبور الآمن بالعهدة الرابعة إلى نهايتها سنة 2019، ولو بالاستهلاك الكلّي لاحتياطي الصّرف، الذي تراجع إلى 114 مليار دولار فقط، بعد الإفلاس الكلّي لصندوق ضبط الإيرادات، وهذا يعني أنها مجرد حكومة تسيير أزمة. وبما أنّنا لا نملك اقتصادا حقيقيًّا، فالحكومة لن تجد أمامها من حلولٍ إلا المديونية الخارجية، وهذا يشكّل تحدّيًّا وتهديدا خطيرًا، أو الذهاب إلى الإجراءات التقشفيّة المؤلمة والمساس بالجبهة الاجتماعية، وبالتالي تهديد الأمن والاستقرار الاجتماعي، في ظلّ غياب التوافق السياسي لتسيير المرحلة القادمة، وضمان شروط التحوّل الديمقراطي. ماذا يعني قرار استحداث مفتشية عامة على مستوى الحكومة لحماية المال العام؟ المشكلة في "اللّصوص" وليست في "النّصوص"، والإعلان عن ذلك هو اعترافٌ ضمنيٌّ مفاده أن منظومة الحكم غير مُؤتمنة على المال العام، فمَن يحاسب مَن؟ وماذا ينفع استحداث الهيئات وتضخّم الترسانة القانونية أمام تغوّل منظومة الفساد المتنفّذة، وأمام انعدام الإرادة السياسية العليا في فرض سيادة القانون على الجميع، وضمان استقلالية القضاء. فبالرغم من وجود هيئات مكافحة الفساد والهيئات الرّقابية، الأمنية والإدارية والقضائية والبرلمانية، فهناك اعترافٌ بنهب المال العام وتهريب العملة الصعبة والإفلات من العقاب وتمييع المسؤولية السياسية. ألا يُعدّ هذا إقرارا بمحدودية نتائج هيئات محاربة الفساد التي تمّ إنشاؤها في وقتٍ سابق؟ إنّ استحداث هذه المفتشية ما هو إلا استنساخٌ لنفس منظومة الفشل السابقة، ولا تنتظر من نفسِ المقدّمات أن تعطيك نتائج مختلفة، وهي معالجةٌ لأعراض الأزمة وليس لأصلها، ولن تُحلّ الأزمة الراهنة والمستقبلية إلا بالتوافق السياسي، المبني على الشرعية الشعبية، وتوسيع قاعدة الحكم، من أجل ضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني للبلاد.
رئيس المجموعة البرلمانية ل "الأرندي" بالغرفة السفلى بلعباس "تشاؤم المعارضة من أداء الحكومة أمر مألوف" يرى رئيس المجوعة البرلمانية لحزب التجمع الديمقراطي بالمجلس الشعبي الوطني، بلعباس بلعباس، بأن مخطط عمل الحكومة، الذي تم عرضه مؤخرا على نواب الشعب من قبل الوزير الأول عبد المجيد تبون، سيستجيب لانشغالات وتساؤلات غالبية النواب، ولاحظ بأن انتقاد المعارضة لعمل الحكومة، إجراء اعتيادي وموقف مألوف هدفه استعراضي أكثر منه سياسي. كيف تلقيتم مخطط عمل الحكومة وردود الوزير الأول على ملاحظات النواب، الذين رفعوا انشغالات ظلت قاسما مشتركا في كل المحطات التي نوقش فيها المخطط ؟ ردود فعل الوزير الأول عبد المجيد تبون كانت منتظرة، ونحن كحزب ينتمي للأغلبية البرلمانية، نرى فيها تجاوبا مع انشغالات وملاحظات النواب تجاه مخطط عمل الحكومة، وأكبر دليل على ذلك هو التصويت بقوة على المخطط بأغلبية 402 صوت ومنها حتى نواب المعارضة. وبالنسبة لنا مخطط عمل الحكومة يتقاسم في بعض النقاط مع برنامج أحزاب الأغلبية في البرلمان، والتي تساند برنامج رئيس الجمهورية، والمخطط بدوره لم يخرج عن هذا الإطار، ما جعل الأغلبية توافق عليه في انتظار تجسيده في الميدان، وبما أننا من نواب الأغلبية سنعمل على الترويج له وتأييده والمساعدة على تنفيذه، خاصة أنه ينطوي على وعود وآفاق جيدة ومقبولة ونأمل أن تتجسد على أرض الواقع. من بين الوعود التي أطلقها تبون، أنه ضبط وعوده بآجال محددة للإنجاز، هل هذا الوعد كاف لتنزيه مخطط عمل الحكومة من الاتهامات المتكررة للمعارضة بأن برامج الحكومات المتعاقبة هي مجرد كلام إنشائي؟ المعارضة وطوال حياتها لم ولن ترضى ببرنامج الأغلبية، وتشكيكها في برامج الحكومة ومخطط العمل المعروض مؤخرا هو شيء طبيعي، لكن الأكيد أن كل ما قدمه الوزير الأول له مبررات وينطلق من إمكانيات واقعية، لأن الحكومة لديها موارد مالية للتجسيد الميداني، والآجال التي منحها تبون هي عادية وواقعية، وهذا لا يمنع بأن تتأخر بعض الملفات بسبب البطء في الدراسة أو الإنجاز، لكن الأكيد أن أغلبية الوعود سوف تنفذ في آجالها المحددة، أما فيما عدا ذلك فاللغة التشاؤمية للمعارضة شيء مألوف لدى الجميع ولها أن تنتقد ما تشاء. تبون تحدث عن رفع التجميد عن المشاريع التي كانت معطلة، ورفع المخصصات المالية لبعض البرامج القطاعية، هل هذا ممكن في ظل الأزمة المالية التي تعيشها البلاد بسبب تراجع أسعار النفط؟ أكيد أن رفع المخصصات المالية لبعض البرامج القطاعية شيء ممكن ووارد حاليا، لكن وجب التنويه بأن ما قصده تبون هو إعادة توجيه الموارد المالية نحو مشاريع قطاعية ذات صلة بالمواطن كالسكن والتعليم والصحة، لا رفع التجميد، لأنه لا يمكن أن يطالها التجميد باعتبارها قطاعات حساسة، ولن يتأثر ذلك بالأزمة الاقتصادية الراهنة لأن المخصصات المالية لهذه المشاريع موجودة وتكفي، كما أن صندوق ضبط الميزانية فيها أموال تسمح بتغطية هذه النفقات. تبون أعلن عن استحداث مفتشية عامة على مستوى الحكومة لحماية المال العام، ماذا يعني هذا؟ الإعلان عن استحداث مفتشية عامة لحماية المال العام على مستوى الحكومة، هو دليل على حرص الدولة ومؤسساتها على تعزيز إجراءات الرقابة على المال العام لأجل حمايته، وهذه الهيئة تعتبر مكملة للهيئات الموجودة، حيث ستعمل على تعزيز عمل الهيئات الأخرى على غرار مجلس المحاسبة وكذا القضاء. ألا يعد هذا إقرار بمحدودية نتائج هيئات محاربة الفساد التي تم إنشاؤها في وقت سابق؟ لا.. لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نربط استحداث هذه الهيئة بفشل هيئات محاربة الفساد السابقة، كما لا يمكن أن نقيم عمل هذه المفتشية إلا بعد الاطلاع على طبيعتها القانونية، ومبدئيا هي إجراء متمم لعمل باقي الهيئات الخاصة بمحاربة الفساد، وهو ما سيسمح بتأطير وتوجيه ومراقبة أوجه صرف المال العام.