رأينا فيما سبق علاقة التنظيم الدّولي والإخوان المسلمين المصريّين خصوصا بالجهاد الأفغاني وكيف تبنّوه تبنّيا كاملا (إعلاميّا وإغاثيا وأحيانا عسكريّا) وكيف انعكس ذلك على جماعة التّنظيم الدّولي في الجزائر – نتيجة لكلّ هذه العوامل والارتباطات . إلاّ أنّ الإخوان المسلمين المحليّين باعتبار أنّ الرّباط التّنظيمي منعدم بينهم وبين كبار متبنّي الجهاد الأفغاني من الإخوان المصريّين (السّنانيري، أبو الفتوح) فإنّ علاقتهم بهذا الجهاد كانت علاقة إعلاميّة إشهاريّة لا أقلّ ولا أكثر، وأنّ أيّ فرد من هذه الجماعة التحق بالجهاد الأفغاني فقد كان التحاقا فرديّا لا علاقة له بمؤسسات وهياكل هذه الجماعة. ومشاركة هذه الجماعة في الجهاد الأفغاني بالأفراد كانت شبه منعدمة ومازلت أذكر رواية شفاهيّة رواها لي الأخ الحاج محمد كنيوة عندما زارني قبل توجّهه لأفغانستان مشاركا في الجهاد الأفغاني مع بعض أبناء بلدته (وادي سوف) التي كانت من أكبر خزّانات تزويد أفغانستان بالمقاتلين الجزائريّين وقد تفوّقت حتى على العاصمة في نسبة الملتحقين بأفغانستان وذلك في بعض مراحل سنوات ما بين: 1980- 1989 حيث أخبرني أنّ من أفضل الدّعاة الجزائريّين المتفاعلين مع الجهاد الأفغاني هو الشيخ محفوظ نحناح فقلت له ما هو موقف الشّيخ جاب الله ومحمد السّعيد؟ فقال: لا يكاد يذكر موقفهما إذا قورن بموقف الشّيخ نحناح الذي ما بخل على الجهاد الأفغاني بالوقت والجهد والمال – ثمّ قلت له: لقد سمعت شريطا مسجّلا في محاضرة للشّيخ عبد الله جاب الله ينوّه بالجهاد الأفغاني ويربطه بالآمال في أن يكون لفلسطين جهاد حاضر في نفوس العرب والمسلمين كالجهاد الأفغاني قال بحسرة: إنّ ذلك لا يكاد يتجاوز هذه الأماني، والجهاد في أفغانستان يحتاج إلى مشاركة الرّجال، وأنّ الشّيخ عبد الله عزّام قد أبرأ ذمته إلى الله عندما أعلن أن الجهاد في أفغانستان فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة، ثمّ نظر إليّ نظرة فاحصة – وأنت ما رأيك؟ فأجبته على استحياء: أرى أنّ مكاني هنا في بلدي وبلدتي، وودّعني باكيا – فلم أره بعد ذلك حتّى التقيت به في موسم حج عام 1994م في منىً، ورأيته حينها أقلّ عاطفة وأكثر عقلانيّة وزوّدني بالكثير ممّا لم أكن أعرفه عن "الصّدمة الأفغانيّة"، ولم أعد أسمع عنه شيئا حتّى قرأت في بعض الصّحف الصادرة في بريطانيا موضوعا يحتجّ فيه كاتبه على المبالغ المالية الطّائلة بالجنية الإسترليني التي تكلفّها إقامته في بريطانيا كلاجئ سياسي مع زوجتيه وعدد كبير من أبنائه. يرى بعض الملاحظين أنّ حركة الشيخ جاب الله أقرب إلى الفكر القطبي المتشدّد منها إلى الفكر البنّائي (نسبة للبنّا) الذي يتميّز بالمرونة مقارنة بفكر سيّد قطب وهو ما جعل أحد أقطاب السّلفيّة العلميّة الجزائريّة هو الشّيخ عبد المالك رمضاني يمدح جماعة الشّيخ جاب الله ويميّزها عن تياري "الإخوان العالميّين – والبناء الحضاري (الذي يسميّه تيّار الجزأرة)" يقول في كتابه: مدارك النّظر في السّياسة بين التطبيقات الشرعيّة والانفعالات الحماسيّة (... ثمّ انقسم الإخوان المسلمون... إلى إخوان عالميّين وآخرين إقليميّين اشتهروا بالجزأرة بينهم بأس شديد وتبديع ثمّ عن العالميّين انشقت جماعة النّهضة وهي أبعدها عن التّميّع وأقربها عناية بالتّربية لكنّها بلا تصحيح ولا تصفية...). وأشهد وقد رأيت الشّيخ عبد الله جاب الله عن قرب في بيته في قسنطينة وفي بيته في درارية بالعاصمة ومكثت معه أيّاما أنّه فعلا أبعد عن التّميع وأقرب للعزيمة في التّربية، كما عايشت عن قرب الكثير من أبناء هذه الحركة الذين رافقوا الشّيخ "جاب الله" منذ البدايات الأولى للعمل الإسلامي في مرحلة السّريّة فكانوا بالفعل أبعد عن التّميّع والمكيافيليّة وأقرب للعزيمة في السّلوك والسّمت العامّ ومن أقرب هؤلاء جميعا إلى قلبي الأستاذ كمال لعروسي ابن مدينة بسكرة المعطاءة. فلم أر منه إلاّ تمسّكا بالمبادئ وثباتا على المنهج في الوقت الذي ضيّع فيه الكثير من أبناء التّيارات الإسلاميّة خطّ سيرهم فلا هم أصحاب مبادئ ولا هم رواد موانئ ينتظرون وصول الحاويات "ليتبايعوا السّمك في البحر". ولولا الحالقة التّي أصابت هذه الجماعة وفرّقتها أحزابا وجماعات لكان لها دور في تطوير المجتمع الجزائري بما تملكه من إطارات وكفاءات علميّة وفكريّة فقد أحصيت وجود نسبة 30% في بعض المراحل من أعضاء المكتب الوطني أساتذة الجامعات وباحثين وذكر لي الأستاذ كمال لعروسي أنّهم لمّا التقوا بوزير الدّاخلية في حكومة سيد أحمد غزالي السيّد: أبو بكر بلقايد هتف السيد الوزير إلى رئيس الحكومة قائلا له وذلك في حضورهم: "إنّ جماعة النّهضة اكتشاف" (قالها بالفرنسيّة على عادة مسؤوليتنا الذين ليس لهم من همّ إلاّ التشدّق باللّغة الفرنسية". ومازلت آمل في أبناء الحركة وعلى رأسهم الشيخ عبد الله جاب الله والمؤسّسون الأوائل في أن يعيدوا النّظر في ترتيب أولوياتهم وإعادة قراءة المستجدات فالتّحدّي اليوم أكبر من أيّ وقت مضى – ولا يفوتني أن أهمس في آذانهم أنّ التّربية السّياسية في الإسلام وفي تجارب البشر ليست "انقلابات وتغلبّات وتمرّدات وانتهازيات وعهدات مفتوحات" إنّما قراءة للموروث السّياسي الإسلامي بانتقائيّة عاقلة واقتباس للموجود السّياسي البشري باستراتيجية واعيّة.
السّلفيون "العالميّون" ثمّ "الجهاديّون" ثمّ "المدخليّون" أعني بهذا التّيار جموع أبناء الصّحوة الإسلاميّة الذين تفاعلوا في مرحلة "البراءة" التّي سبقت التّحزّبات "في الشّكل وفي المعنى" مع كتابات الشّيخ أبو بكر الجزائري، وكتابات ابن تيميّة وابن قيمّ الجوزيّة وكتابات علماء المدرسة الوهّابيّة ولم يكن المراقب يومها يفرّق بين – الإخواني والسّلفي والتّبليغي والبنّبي (نسبة لابن نبي) وقد كان الجميع يعتقد أنّهم في خندق واحد هو مواجهة "الاستغراب" وتأثيراته السّلوكيّة والفكريّة والاجتماعية والسّياسيّة ولما دخلت مدفعيّة البيعة للتّنظيم الدّولي ومشاتها كتاب الشّيخ سعيد حوّى "المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين" – الذي جعل جماعة الإخوان المسلمين – جماعة المسلمين وليست جماعة من جماعات المسلمين على خطّ العمل الإسلامي- ارتفعت الأصوات الرّافضة لهذا التّضييق بدءا من مبدأ "عالمية الفكرة ومحليّة التّنظيم" إلى رفض "المرجعيّة الإخوانيّة تفصيلا" كحال جماعة البناء الحضاري ورفضها جملة كحال التّيار السّلفي الذي كان أعلى صوت فيه صوت الشّيخ علي بلحاج والهاشمي سحنوني وعبد المالك رمضاني والعيد شريفي وصالح فركوس ثمّ جاءت أسماء أخرى كثيرة ومتنوعة، لينمو هذا التّيار نموّا متضخّما بمحنة حرب الخليج الثانيّة التي جعلت علي بلحاج السّلفي ينتقل من معسكر وصف صدّام حسين هدّام الدّين إلى جعله صلاح الدين الأيّوبي المنتظر الذّي يحرّر الأقصى ويذلّ الصّهانية وما نتج عنها من ظهور تيّار "الجامية والمدخليّة" في المملكة العربيّة السّعوديّة التي جعلت "الاستعانة بالقوّات الكافرة لردّ العدوان واجبا شرعيّا"، ثمّ طوّرت توجّهاتها إلى آداب التّعامل مع الحكام حتّى جعلت "نقد الحكام يجرّؤ العوامّ ويفتح الباب للموت الزّؤام" وانقسم التّيار السّلفي إلى ثلاث سلفيّات أو أربع – السّلفيّة العلميّة، السّلفيّة الجهاديّة، السّلفيّة المدخليّة "بعد وفاة الشيخ محمد آمان الجامي"، السّلفيّة الألبانيّة (إذا أخذنا بالاعتبار بعض المخالفات للشيخ الألباني رحمه الله على السّلفيّة السّعوديّة في بعض المسائل) وأصاب التّيار السّلفي ما أصاب التّيارات الحركيّة الإسلاميّة الأخرى وتمايزت معسكرات السّلفيّة فأصبح المشايخ "رمضاني، شريفي وفركوس" رموزا للسّلفيّة العلميّة في الجزائر وتأرجح الشّيخان بلحاج وسحنوني بين السّلفية العلميّة والسّلفيّة الجهاديّة ليفصل علي بلحاج في توجّهه نحو سلفيّة لا هي علميّة ولا هي جهاديّة إنّما هي سلفيّة أقرب ما تكون لسلفيّة القرّاء في ثورة ابن الأشعت (وهي ثورة النّخب ضدّ تجاوزات الحجّاج) وفشلت لأنّها لم تكن تملك مشروعا تقنيّا لعمليّة التّغيير المنشودة. أمّا صنوه الشيخ الهاشمي سحنوني فقد انكفأ على نفسه (ضمن ما يشبه إطار السلفيّة العلميّة) بعد هوجة الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ والإضراب المفتوح. ودخلت دولة خليجية على خطّ السّلفيّة العلميّة – دعما وإشهارا وتمويلا- وتمدّدت هذه السّلفيّة في فراغ الجزائر من المرجعيّة العلميّة – وكسبت بعد فشل المشاريع السّياسيّة للحركات الإسلاميّة وفشل مشاريع التّغيير بالقوّة: ساحات واسعة في الجزائر السّطحيّة والجزائر العميقة كما هو حال كل البلاد العربيّة وأصبح المعبّر شبه الوحيد اليوم عن الإسلام في كلّ مكان هو التّيار السّلفي. وغابت وغيّبت مرجعيّات: الأزهر الشّريف، علماء الشّام، الزّيتونة، القرويّين، ندوة العلماء، المدرسيّين، الشّانقطة، علماء المذهب الحنفي في العراق، شوافع وزيود اليمن. وصدرت أوامر عليا عربيّة وغربيّة بمحاصرة أيّ عمل إسلامي لا يمتّ لهذه المرجعيّة بصلة، وتمتّ المحاصرة باستعمال كلّ الوسائل المتاحة بدءا من تهمة مخالفة السّنة واحتقارها مرورا بتهمة الاعتزال والقرآنية والقدريّة والجبريّة والرّفض وانتهاء بتهمة الجهل والبدعة والضّلالة والفسق. أو بالأحرى كلّ ما حواه قاموس "البربهاري" من شتائم وقذف لينتهي الأمر بالأمّة الإسلاميّة إلى بعث الحرب الضّروس بين الرّوافض والحنابلة، وتأمّل معي السّطور التالية: الواردة في كتاب الكامل في التاريخ - لابن الأثير المجلّد السابع (ص355) (... في هذه السنة ربيع الأوّل تجدّدت الفتنة ببغداد بين السّنة والشيّعة وكان سبب ذلك أنّ الملقّب بالمذكور أظهر العزم على الغزاة واستأذن الخليفة في ذلك فأذن له وكتب له منشورا من دار الخلافة وأعطى علما فاجتمع له لفيف كثير فساروا واجتاز بباب الشّعير وطاف الحراني وبين يديه الرّجال بالسّلاح فصاحوا بذكر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقالوا: هذا يوم معاوي فنافرهم أهل الكرخ ورموهم وثارت الفتنة ونهبت دور اليهود لأنهم قيل عنهم أنّهم أعانوا أهل الكرخ فلمّا كان الغد اجتمع أهل السّنة من الجانبين ومعهم كثير من الأتراك وقصدوا الكرخ فاحرقوا وهدموا الأسواق...). وأسقط ما قرأته على ما يحدث في البلاد العربيّة والإسلاميّة – اليمن- العراق – سوريا – باكستان – أفغانستان فمن المسؤول عن اختطاف حوادث سنة 422 ه التي ذكرها ابن الأثير في الكامل وإعادة استنساخها في واقع النّاس اليوم من طرف من أساء فهم السّلف وابتعد عنهم في الشّكل والمضمون وإن زعم أنّه "الوكيل الشّرعي لمرجعيّتهم".
السّلفيون والجهاد الأفغاني: في مرحلة البراءة التي لم تظهر فيها الفروق بين الإسلاميين تبنّى هذا التّيار كغيره من التّيارات الجهاد الأفغاني بالتّعاطف والدّعاء والتّمويل، وعندما تبنّى التّيار السّلفي في السّعوديّة الجهاد الأفغاني بالقوّة التّي ظهرت بها فتاوى كبار مراجع السّعوديّة كان رجع صدى السّلفيّين في الجزائر هو نفس موقف المراجع السّعوديّة وإن كان سبق الإخوان في تبنّيه ظاهرا فأعلى الأصوات في مرحلة 1980-1988 كان صوت الإخوان المسلمين. وقد رأيت في تلك الظرّوف بعض النّشريّات الموزّعة في الجزائر تنوّه بجهود المجاهد الشّهيد "جميل الرّحمان" ممثّل التّيار السّلفي في أفغانستان الذّي تبنّته المراجع السّعوديّة خاصّة الشيخين (ابن باز وابن العثيمين) رحمهما الله وذهب الشيخ جميل الرّحمان ضحيّة غدر من بعض من كانوا يسمّون بالمنافقين ولقد سجّلنا يومها ضعفا في إقبال جمهور التّيار السّلفي في التّوجه نحو أفغانستان من البلاد العربيّة باستثناء مصر والدّول الخليجية حيث كان تواجد التّيار السّلفي فيها جليّا والصّورة التي نراها اليوم للتّيار السّلفي في كلّ المدن والقرى الجزائرية لم تكن موجودة في المرحلة التّي أتحدث عنها خاصّة السنوات الأولى (ما بين 1980-1988). ولمّا حدثت واقعة حرب الخليج الثانية سنة 1991 وما نتج عنها من حوادث قوي شأن التّيار السّلفي –العلمي والجهادي- وقد تزامن ذلك مع صعود أسهم أسامة بن لادن باعتباره السّلفي الجهادي الأوّل في العالم (قبل أن يصطدم مع بلده المملكة العربيّة السّعوديّة) وقد سجّل له موقف عند اجتياح العراق للكويت عندما قابل وليّ عهد المملكة في ذلك الوقت الأمير سلطان بن عبد العزيز وطالبه بعدم الاستعانة بالقوات الأجنبيّة واستعداده لجمع العرب الأفغان والتّصدي للجيش العراقي فقد ذكر ستيف كول في: حروب الأشباح قصة هذا اللّقاء فقال: (... شرح ابن لادن أنّ المملكة السّعوديّة تستطيع تفادي الاستعانة بجيش من الكفّار الأمريكيّين من أجل خوض حربها في حال دعمّت جيشه الذّي يضمّ مقاتلين متمّرسين خاضوا الحرب الأفغانيّة وتمّ اختبارهم في ساحة المعركة عامل الأمير سلطان بن لادن بلطف واحترام ولكنّه اعترف بأنّه يشكّك في نجاح الخطّة فبحوزة الجيش العراقي أربعة آلاف دبّابة قال الأمير سلطان: لا نملك أيّ كهوف في الكويت لا نستطيع أن نحاربهم من الجبال والكهوف ماذا ستفعل عندما يقذف الصّواريخ في اتّجاهك ويستخدم أسلحة كيميائية وبيولوجيّة؟ قال بن لادن سنحاربه بإيمان...). لتشتدّ قوّة التّيار المدخلي بعد هزيمة صدّام حسين والقضاء على الجيش العراقي وزوال الآمال في هزيمة إسرائيل وأمريكا.