الوحدة الوطنية غير قابلة للمساومة أو التفاوض    أنباء عن قتيلين في عملية إنزال جوي للتحالف الدولي : تفكيك خلية ل "داعش" بريف دمشق    جيجل..تخصيص 2،5 مليار دج لحماية الموانئ الثلاثة    وكالة "عدل" توضّح آليات الدفع الإلكتروني لأشطر سكنات "عدل 3"    انتشال جثماني طفلتين من أنقاض مبنى في غزة..اتفاق يترنح وإبادة تتواصل في غزة    البليدة : بعث أشغال إنجاز محطتين جديدتين لتصفية المياه المستعملة قريبا    بومرداس..اجتماع لمتابعة وضعية مشاريع الاستثمار العمومي    وزير الاتصال : "الوحدة الوطنية أقوى من مناورات الحاقدين"    سعداوي يُعلن عن إعادة هيكلة هيئة التفتيش    الجزائر المنتصرة لا تُساوم أبدا على ذاكرتها    كأس إفريقيا كل 4 سنوات مستقبلاً    اختتام المسابقة الوطنية للطيران    الرئيس يُجدّد التزام الدولة بدعم الشباب المبتكر    دور الجمعيات هامّ في ترقية العمل التطوعي والخيري    مشروع متكامل لرسم ملامح حاضرة نموذجية بالجنوب    مقروط اللوز يفتك المرتبة الثانية عالمياً    حضور بارز للجيش بمعرض الإنتاج    فيلم أحمد باي يُعرض في هذا التاريخ..    لاناب حاضرة..    اختتام الدورة التأهيلية التاسعة للمرشحين    غزّة تحت الشتاء القاسي والدمار    غرة رجب 1447ه هذا الأحد والشروع في قراءة صحيح البخاري بالمساجد ابتداءً من الاثنين    "عش رجبا تر عجبا".. فضل رجب وأهميته في الإسلام    فتاوى : حكم قطع صوم النافلة    إطلاق أول مسابقة وطنية لطلبة الطب في الجزائر لتعزيز التميز العلمي والابتكار الشبابي    إطلاق منصة رقمية جديدة لاستقطاب الاستثمارات النفطية تحضيرًا لمناقصة "Algeria Bid Round 2026"    عطاف يشارك في اجتماع تنسيقي لآلية دول جوار ليبيا ويؤكد ضرورة توحيد الجهود لدعم الاستقرار    المذكرات الورقية تنسحب من يوميات الأفراد    بناء وعي متبصر لحماية الجزائر    الشعب الجزائري سيظل موحدا في الدفاع عن الوطن    شراء وبيع أسهم وسندات "بورصة الجزائر" إلكترونيا    تناغم بين الصناعات العسكرية والمدنية لتحقيق النمو الاقتصادي    تطوير المصطلح الإعلامي ليواكب التحوّلات الرقمية    مجلس الأمن يدين بشدة الهجمات على قاعدة بجنوب    يوم إعلامي حول واقع وآفاق الاستثمار في إيليزي    إبراهم مازة ورقة "الخضر" الرابحة في كأس إفريقيا    تحويل الزجاج إلى لغة فنية نابضة بالروح    الموت يغيّب الفنّانة سمية الألفي    حيماد عبدلي يعد الجزائريين بالتألق في "الكان"    أكاديمية العلوم تكشف عن قصة توعوية مصوَّرة    "الخضر" جاهزون لرحلة النجمة الثالثة في "الكان"    مصادرة 3552 وحدة من المشروبات الكحولية    إحباط تهريب 97510 علبة سجائر    "حماية المعطيات الشخصية" محور نقاش قانوني وأكاديمي    بلمهدي يشرف على اللقاء الدوري    الرُضّع يموتون يومياً من البرد في غزّة    أوّل هزيمة للعميد هذا الموسم    الخضر في المغرب.. والعين على اللقب    ضرورة الحفاظ على إرث وتراث الدولة السورية الغني    الشعب الفلسطيني ما زال يقف على عتبة الأمم المتحدة منتظرا نيل حريته    انطلاق المرحلة الثانية للأيام الوطنية للتلقيح ضد شلل الأطفال    شبيبة القبائل توقع عقد شراكة مع مستثمر جديد    كرة القدم / الرابطة الثانية /الجولة ال13 : مواجهات حاسمة على مستوى الصدارة وتنافس كبير في ذيل الترتيب    تمكين الطلبة للاستفادة من العلوم والتكنولوجيات الحديثة    دعم السيادة الصحية بتبادل المعطيات الوبائية والاقتصادية    أبو يوسف القاضي.. العالم الفقيه    الجزائر تُنسّق مع السلطات السعودية    الاستغفار.. كنز من السماء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرية
نشر في الشروق اليومي يوم 15 - 10 - 2017

في تعليق على مقال الأسبوع الماضي في هذا الركن، كتب إلي أحد القراء قائلا إنك تتكلم في موضوع حساس، يفتقر إلى أهم ركن له وهو مفقود في عالمنا الإسلامي، وهو الحرية حيث أن مجتمعاتنا المغبونة كلها تعيش مكتومة الأنفاس في ظل أنظمة استبدادية.
والحرية في تقديري ليست مفقودة، وإنما هي ممارسة في غالب الأحيان في غير أوعيتها الطبيعية، وإلا في الواقع هي موجودة وممارسة بصيغ مختلفة، يمارسها رجل السلطة في تمرير مشاريعه وبرامجه عدلا وظلما، ويمارسها المواطن العادي وفق ما يقضي مصالحه كيف ما كان وكيف ما اتفق، داخل القانون وخارجه، ويمارسها الباحث بوصوله إلى نتائج بحثية علمية موافقة للبعض ومخالفة للبعض، وتمارسها الشعوب تجاه بعضها البعض وتجاه أنظمتها، بموافقة الأنظمة ومخالفتها، وتمارسها الأنظمة وفق إرادة الشعوب ومخالفتها، ويمارسها النقاد تجاه بعضهم البعض، بالصدق والحب والوفاء، وبالإدعاء والبغض والحسد...، ولولا مستوى معينة من الحرية وممارستها لحصل الانسداد الكلي.
ذلك أن الحرية إذا لم يترك لها المجال في حياة الإنسان لتمارس سجية وطبيعة، فإنها تمارس وفق الأهواء والمصالح الخاصة والفئوية، كل شخص وكل فئة يمارسونها وفق ما يرونه مناسبا، فالشعب الذي يحرم العدل من قبل حكامه، فإنه يمارس حريته في التمرد عليكم بعصيانهم ومخالفة قوانينهم وربما يصل الحد إلى خيانتهم؛ لأن الحرية في جوهرها عطاء ومنة من الله، ليس لأحد القدرة على انتزاعها إلا بالقدر الذي يتنازل عنه صاحبها؛ بل إن من سولت له نفسه التنازل عن حريته التي أكرمه الله بها، لن يتمكن من التسليم فيها كلها إلا إذا فقد أنانيته كلية، ولكن ما يشعرنا بأن الحرية مفقودة هو أنها تمارس في غير مواقعها المفترضة، ولا توجد مساحات مشتركة كافية بين ممارسيها، فالمعارضة مثلا في المجتمعات تمارس الحرية في معارضتها، ولكنها تمارسها أيضا في تصفية حساباتها مع خصومها السياسيين والأيديولوجيين، في حين أن ممارسة الحرية تقتضي على المشترك الجمعي وليس على الخصوصيات الحزبية والأيديولوجية.
إن مجال ممارسة الحرية واحد ولكن له جملة من الدوائر، مثل الدار الواحدة التي لها غرف. وهذه الدوائر هي مجالات جامعة لشؤون حياة الإنسان عامة وهي: الدائرة الكونية العامة التي تخضع لقانون واحد يحكمها بنفس الصيغة، والدائرة الدينية التي هي علاقة بالله، والدائرة الأخلاقية التي هي قيمية جامعة، أما الدائرة القانونية، والسياسية فتعاقدية، والتعاقد تتساوى فيه الفئات، لكون التعاقد مبني على حقوق وواجبات.
فالحرية في الدائرة الكونية هي أن الإنسان جزء من الكون، ينطبق عليه ما ينطبق على الكائنات الحية والجامدة، وهذ الصورة لم تعد محل جدل كبير كما كانت في القرن الماضي، عندما كان موضوع الحرية، يناقش إمكانية الاستغناء عن الله، والتمرد عنه في إطار المد الشيوعي الإلحادي، الذي كان يعمل على عزل الدين عن الحياة العامة، فضخَّم من مستوى قوة الإنسان وإرادته، في التأثير على الحياة بحيث يمكنه أن يفعل كل شيء بإرادته وحده وقرته وحده بمعزل عن إرادة الله وقدرته، وذلك بسبب ما توصل إليه هذا الإنسان من مستويات هامة في القدرة على الإتقان والتحكم في الكثير من ساحات الحياة، في حين أن هذه القدرات الهائلة التي يتمتع بها الإنسان لا تساوي شيئا في هذا الكون الفسيح أمام قدرة الله المطلقة، ولكن الإنسان عندما يغفل عن جوانب ضعفه ولا يذكر من حياته إلا تلك الإيجابيات، يقع فيما وقعت فيه تلك المعزة –كما يقول الشيخ البوطي رحمه الله- التي وُضع لها حبل وأرخي لها عدة أمتار، فذهبت تقفز وتتنطع وتذهب وتجيء شعورا منها أنها حرة طليقة، ولم تشعر بأنها غير حرة إلا عندما ابتعدت عن الموقع الذي ثبت في الرباط إلى حد طول الحبل.
أما ممارسة الحرية في جانبها الديني، الذي يعتقد البعض أنه كابح لقوى الإنسان، هو في الواقع ليس كذلك، وإنما هو السند الحقيقي للحرية الفاعلة؛ لأن الدين هو خضوع واستسلام لله سبحانه، والإنسان عندما يخضع لله يتحرر من كل كوابح الحياة مادية ومعنوية.
قد يكون الدين كذلك في الشرائع السابقة، بسبب المنطق اللاهوتي الذي تبناه المتدينون بها، وبسبب محدوديتها إذ كانت الشرائع قبل الإسلام قومية، أما في الدين الإسلامي فالأمر مختلف، حيث تجاوز خطابه القومية إلى الخطاب الحضاري الإنساني الأعم، بحيث يعتبر ممارسة الحرية واجبا يحاسب الإنسان على التفريط فيه يوم القيامة، وليست مجرد حق للإنسان ممارسته والمطالبة به إذا فقد (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء 97]. وخلاصة ممارسة الحرية في جانبها الديني في تقديري، هي الربط بين الإيمان بالغيب والعمل في عالم الشهادة. أما الإيمان بالغيب فلبه الإيمان بالله والخضوع له فيما شرع، عبادة ومعاملة، وقمة الحرية عندما يصل الإنسان إلى مستوى الخاضع المستسلم لله، طاعة له وحبا وعبادة وطلبا لرضاه، وأما العمل في عالم الشهادة، فمتعلق باحترام سنن الله في الوجود ومنها العناصر الباقية التي سنذكرها بعد قليل.
الحرية في جانبها الأخلاقي، متعلقة بالسلوك الإنساني؛ لأن الإنسان في سلوكه العام ينتج قيما ثقافية اجتماعية حضارية، وهي ما نطلق عليه مصطلح العرف أو العادة، والعرف والعادة على العموم محل إجماع، وهي الأخلاق التي تحكم سلوك الناس، قد يكون في هذه الأخلاق قيما ذميمة، ولكنها تستمد شرعيتها من قبول الناس لها واعتيادهم عليها، ولذلك كان من الشروط الأساسية في ممارسة الحرية في ذلك مراعاة كل ما يتعلق به الناس كعرف عام بينهم ولو كان ذميما. ومن بين صيغ المراعاة الصبر على الذميم منها والتريث في مواجهتها؛ لأن من الحرية عدم تغيير الذميم إذا تسبب فيما هو أذم منه.
يمكن للإنسان أن يدعي أنه يملك خلقا جديدا ويريد دعوة الناس إليه لتعميمه بينهم، وهذا معقول، ولكن مبدأ الحرية يقتضي منه أن يحترم حريات الآخرين ويراعيها، بما في ذلك القيم الدينية..؛ بحيث إذا رفض لا يسرع إلى فرض ما يدعو إليه؛ لأن ضمان الحرية هو الذي يبقي على القيم الصالحة ويقضي على القيم الفاسدة، ولأن الحرية تصنع الصادقين المخلصين، ولا الكذابين المنافقين.. وذلك لا يتحقق إلا باسبعاد الإكراه من المعادلة.
أما الحرية من جانبيها القانوني والسياسي، فتتمثل في احترام القانون في ممارسة القيام بالواجب والمطالبة بالحق والحرص على الاستقرار الإجتماعي؛ لأن القانون والسياسة تعاقد بين أفراد المجتمع الواحد، والتعاقد اختيار وتوافق مبني على ممارسة الحرية واحترامها بين الأطراف المتعاقدة، وذلك يفرض ومن ما يحرص على فرضه هو المحافظة على ممارسة الحرية لأنها من ضرورات دوام العقد وحمايته من الفسخ والإنحلال؛ بل إن التفريط فيها يعني خيانة المجتمع.
لا شك أن للمتعاقدين أراء في بعضهم البعض، بقدر ما بينهم من اختلاف، مما يوهم بضرورة تقييد الحريات، بينما من ينظر إلى الغايات التعاقدية، يلاحظ أن جوهرها هو ضبط الخلافات التي تثير التنازع بوضع صيغ توافقية لها، والقاعدة الأهم في ذلك في تقديري هي الحرص على تثمين المشترك والاستثمار فيه، واحترام الخصوصيات الفردية والفئوية التي لا تقيض المشترك والصالح العام، وممارسة النقد السياسي والإجتماعي والثقافي في إطار ذلك المشترك واحترام الخصوصيات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.