رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: مجزرة بيت لاهيا إمعان في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ونتيجة للفيتو الأمريكي    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    توقرت: 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الباحث في الفكر العربي أحمد دلباني للنصر
نشر في النصر يوم 04 - 02 - 2013

أدونيس وأركون الأكثر جذرية في تناول قضايا العرب والمُسلمين
الإسلام العربيّ هو الأكثر تخلفا في الفضاء الجغرافي الواسع والمتنوّع الذي تغطيه الظاهرة الإسلاميّة
الأستاذ أحمد دلباني، كاتبٌ وباحث جزائري مُنشغل بقضايا الرَّاهن الفكري والثقافي والحضاري، وأسئلة العقل العربيّ من منظور نقدي / ثقافي.نشر العديد من الأعمال الفكرية والنقدية في الجزائر وسوريا، من أهمّها: السمفونية التي لم تكتمل، منشورات أرتيستيك، الجزائر 2007. فجيعة التروبادور (حول الشاعر عبد الله بوخالفة) ، منشورات البيت، الجزائر 2010. مقام التحوّل (هوامش حفرية على المتن الأدونيسي) ، دار التكوين، دمشق، سوريا 2009. سِفرُ الخروج، دار التكوين، دمشق، سوريا 2010. قدَّاسُ السقوط، دار التكوين، دمشق، سوريا 2012. وله مساهمات فكرية في عدد من الجرائد الوطنية والعربية.يصف الباحث ما تعيشه البلدان العربية منذ مدة بالكساح الحضاريّ الطويل، ويجيب في هذا الحوار عن بعض الأسئلة وفي نفس الوقت يطرح الكثير منها. ويرجع انفجارَ العنف إلى كون مُجتمعاتنا مكبوتة لم تترسّخ فيها بعد شروط التعبير الحر والإبداع والبحث الموضوعيّ عن الحقيقة.
حاوره: نورالدين برقادي
كتبتَ قبل مدّة مقالا بجريدة النصر بعنوان: "المثقف النقديّ العربي – نحو اختراق السّبات الإيديولوجي"، قلتَ فيه: ".. نعتقدُ أنَّ وضع المثقف العربيّ في اللحظة الرّاهنة يتجلّى، اليوم، في صورتين رئيستين: المثقف الشموليّ المذهبيّ من جهة والمُثقف النقدي من جهة أخرى..". كيف تنظرُ إلى صدى أفكار المثقف الأول والثاني شعبيا ؟
ذاك مقالٌ طويلٌ نسبيا ضمَّنته كتابي "سِفرُ الخروج" الصّادر في دمشق قبل نحو ثلاث سنوات، وقد نشرتُ منه نُبذا في جريدة النصر. أردتُ في هذا المقال أن أتناول مُشكلة حضور المُثقف في فضاء النقاش العام مُركّزا على وظائفه الحالية التي أرى، شخصيّا، أنها يجبُ أن تتمثل في التفكيك النقديّ استجابة لروح المرحلة التي تعرفُ انهيار منظومات الفكر الشمولية. أردتُ، بمعنى ما، أن أتناولَ وضع المثقف مُحاولا أن أحدّدَ مهامهُ في عصر العولمة وعصر تفكك المرجعيّات والمركزيّات التي كانت – إلى عهدٍ قريب - حصنَ الإيديولوجيات المُختلفة أمام أزمة الحداثة الكلاسيكيّة وهي تنفتحُ على فاجعة تصدّع العقل الكوني. من هُنا حديثي عن صُور المثقف عندنا عندما حصرتها في صورتين: المثقف الشمولي المذهبي من جهة أولى والمثقف النقديّ من جهة أخرى. فأما عن المُثقف الأول نحنُ نعرف جيّدًا أنه ملأ السّاحة - منذ أكثر من نصف قرن- بزعيقه وشعاراته التي أورثتنا خيبة وهزائم، وبمواقفه التي برّرت كل أشكال الاستبداد والأحادية الفكريّة والسياسيّة. هذا هو المثقف القوميّ والبعثيّ والناصري والاشتراكي. وأما المثقف الثاني فقد بدأ يتسلّلُ خفية إلى المشهد الثقافي والفكري عندنا من خلال الشقوق التي امتلأت بها قلعة الفكر الأحادي والمذهبيّ / الإيديولوجي في العقود الأخيرة. هو مثقفٌ ظلَّ همّهُ الخروج من السّبات الإيديولوجي أو "السبات العقائديّ" مثلما يحب أن يقولَ علي حرب. هذا المثقف حاولَ جاهدًا استعادة مهام الفكر النقديّة وانفتاحه على مسألة الحقيقة والمعنى وقضايا الإنسان الرّاهنة من مُنطلق غير مذهبيّ. إنه مثقفٌ ينهلُ من تراث الفكر النقدي / التفكيكيّ المعاصر في أكثر أشكاله طليعيّة، ومن لحظته التاريخيّة التي عرفت سقوط العقائديات الكلاسيكية وهجرة المعنى خارج أسوار الدوغماتيات والأصوليّات المُختلفة.
تسألني عن صدى أفكار المُثقفين شعبيا؟ علينا أن نلاحظ أوَّلا أنَّ مُجتمعاتنا العربية ليست "إلدورادو" المُثقفين، وليست المكان الذي يضمنُ لهم فعالية تدخلهم في الشأن العام، وهذا لسببٍ بسيط بالطبع: هو أنَّ الدولة الوطنية العربية ظلت – إلى عهد قريب جدّا – تحتكرُ الإعلام والمنابر المُختلفة، وتُهيمنُ على الفضاء المدنيّ العام بشعاراتها وتخنقُ صوت الحرية الفكرية. لقد كان همّ الأنظمة العربيّة، بالأحرى، أن تُحيط نفسها بحاشية من مُثقفي البلاط الذين يمنحُون الشرعيّة للوضع القائم ويعتبرون فاعليات السّؤال والنقد أمورًا نافلة أمام القضايا التي قصمت ظهورنا. ظلَّ هذا الوضع سائدًا، كما هو معروف، حتى لحظة إطلالة تكنولوجيا الاتصال والإعلام التي نخرت هيمنة الدولة وكسَرت احتكارها للخبر والمعرفة ومساحات التواصل التي يُبنى فيها الرّأي العام. وإذا صحَّ أنَّ المثقف هو فعلا "صوتُ من لا صوت لهم" كما يُعبَّر فعليْه، بالتالي، أن يقتحمَ المناطق المُعتمة حيثُ تنكشفُ شبكة المراسلات الخفيّة بين المعنى السّائد وعلاقات الهيمنة، وبين شرعيّة الوضع القائم وإرادة القوة التي تتلفعُ بخطاب الحقيقة.
في نفس المقال قلت: ".. حداثتنا تمَّت في سياق استهلاكيّ لا في سياق إبداعيّ..". ما هي الأسباب التي أدَّت إلى فشل الحداثة في العالم العربيّ ؟
لست الوحيدَ الذي قال هذا الأمر عن حالة استقبال الحداثة وتلقّيها في عالمنا العربيّ؛ وربّما لم يكن كلامي هذا إلا ترديدًا لما قاله مثقفون نقديّون عربٌ كُثر أثناء تأمّلهم في كُساحنا الحضاريّ الطويل. وفعلا، لم تكن الحداثة التي اخترقت مُجتمعاتنا بعد الاتصال التاريخيّ الصّدامي بالآخر الغربيّ إلا تحديثا شكليّا: كانت آلة لا عقلا، وتقنية لا روحا. هذا ما جعل أدونيس، مثلا، يطرحُ سؤاله الشهير بعد هزيمة حزيران في العام 1967 - مُجابها خواء الإنسان العربيّ وعجزه عن مُواكبة حركيّة العالم إبداعيّا ورؤيويا - مُتسائلا: "هل أستخدمُ السّيارة حقا، أم أنني أستخدمُ فرسًا من حديد ؟". الحداثة الفعليّة لحظة وعي وإبداع واحتضان لوجيب المرحلة التاريخيّة. الحداثة ليست استهلاكا للمُنجَز التقنيّ وليست بناءً لدولة أمنية تُلبسُ الاستبداد الدّيني التقليديّ العباءة العلمانيّة الحديثة. إنها، بالأحرى، زمنُ الإنسان الفاعل، وزمنُ انهيار المشروعيّات التي كانت تنهلُ من قداسة الماضي ومن المرجعيّات المُفارقة. فأين نحنُ من هذا ؟ هل وُلد الإنسانُ العربيّ الحديث فعلا ؟ هل تخلّصنا من حضور الأب الثقافي والرّمزي في حياتنا؟ وهل بوّأنا الإنسان مركز دائرة القيم؟ فكيف نتحدّثُ عن الحداثة؟ من الواضح أننا نعيشُ على سطح العالم ولا نُسهمُ في بناء الرؤى الخلاقة التي تصنعُ المُستقبل في أفق البحث والحرية والإبداع، وضمن هاجس عتق شرارة الإنسان من رماد مُؤسّسة التاريخ المُستَنفد. أنظر إلى بلدان الخليج العربيّ مثلا.
أعتقدُ، بالتالي، أنَّ عوائق الحداثة في المُجتمع العربيّ يجبُ ألا تُختصرَ في الأسباب الخارجية أو استبداد الأنظمة السّياسية فحسب، وإنما يجبُ أن يُبحثَ عنها أيضا في ثقل التاريخ الذي لا يُريد أن ينتهي، وفي مُجمل الكوابح السوسيو- ثقافية التي تُميّز مجتمعاتنا كالبنية الاجتماعيّة البطريركيّة وهيمنة الذكورة وسيادة الفكر المرجعيّ في صورته الدّينيّة بالأخص. إنَّ هناك مُقاومة للحداثة واعتصامًا بفراديس الماضي الوهميّة كلما شعر المُجتمع التقليديّ بهجمة التغيير وتهديد حركة التاريخ التي لا تهدأ. لذا أقولُ باختصار: الحداثة لا تُستعار. إنها انتفاضة الذات ضدَّ نظام عملها الذي لم يعُد على موعد مع التاريخ. وأعتقدُ أنَّ مُجتمعاتنا - في عمومها – ما زالت رهينة عند زبانية الماضي.
نشرت في نفس الجريدة، مؤخرا، مقالا بعنوان: "نسقُ المُغلق: في نقد النظام الثقافيّ العربيّ"، جاء فيه ما يلي: " على الثقافة العربيّة أن تخرجَ من مفهوم الزمن الدينيّ الذي أنتج عصمة الماضي وكماله ومعياريّته لتدخل زمن الحداثة الفعليّة، أي زمن التقدم..". كيف يُمكن أن يتحقق ذلك؟
وقع في يدي، مرّة، كتابٌ عن الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بعنوان: "نسقُ المُتعدّد". وكان من الواضح أنَّ صاحبه يتناولُ هواجس التفكيك المُعاصر عند دولوز وفلسفة الاختلاف التي قوّضت أركان المركزية الأوروبية وحطمت أمبرياليّة العقل الغربيّ. لقد أصبح التعدد يُفصح عن ذاته خارج أسوار المركز التاريخيّ التي رفعتها نرجسيّة المُنتصر. رُبما كان هذا هو المضمون الفعليّ للكتاب. تساءلتُ: إذا ما تحدثنا عن النظام الثقافيّ العربيّ فكيف يُمكنُ أن نصفه؟ وكيف نُقاربه نقديّا؟ من الواضح أننا لم نؤسّس للتعدد وإنما للانغلاق والتشرنق المذهبي وترسيخ معياريّة الماضي. هذا ما جعلني أرى في الثقافة العربية السّائدة مُؤسّسيا نسقا للمغلق لا للمُنفتح أو المتعدّد.
هذا ما جعلني، أيضا، أنتقدُ حضور الدّين عندنا باعتباره مُؤسّسة تكبحُ حركيّة المجتمع وإكليروس يلجم انتفاضات العقل النقديّ خارج الأستاذية العقائديّة المذهبيّة المكرّسة. أنظر تجريم الفكر النقديّ عندنا مثلا، وانظر مُمارسات التكفير وما تضمرهُ من عنف يكشفُ عن البنية القمعيّة للمُجتمع التقليديّ ومُؤسّساته الموروثة. هل هذا الأمرُ محمُود؟ هل هو خصوصيّة ثقافية وحضارية كما يرى البعض بكلّ أسف؟ إنَّ نقدنا لحضور الدّين الطاغي في مُجتمعاتنا ليس رغبة منّا في قمع الناس أو حرمانهم من الشعور بالانتماء وعيش تجربة التعالي والروحانية. إنه، بالأحرى، نقدٌ لحضور الدّين المُؤسّسي؛ وهو – بدون أدنى شكّ -حضورٌ قمعيّ يخدمُ النظام الأبويّ الذي يمثل أكبر حاجز أمام إمكان انبثاق الفرد العربيّ المُستقلّ والمُبدع.
هذا عن الدين من وجهة سوسيولوجية باعتباره عائقا أمام تحديث المُجتمع ومُؤسّساته. أما من الوجهة الفكرية / الإيديولوجية فنلاحظ أنَّ الدين الإسلاميّ عندنا لم يُتح له تاريخيّا أن يعيش بصورة جذرية ذلك التوتر الخصب مع قوى "الدَّنيوة"، أي مع حِراك تاريخيّ يدعوه إلى إحداث المُراجعات الضروريّة مع مورُوثه الخاص استجابة للتحديات المُختلفة. هذا ما أوقعهُ في الروح الماضويّة التي تعتقدُ بمعياريّة الماضي وكماله. وربّما نستطيعُ أن نلاحظ أنَّ الفكرَ المدعو "إسلاميّا" اليوم - بكلّ تياراته - لا يشذ عن هذا. من هُنا أعتقدُ أنَّ على الفكر العربيّ أن يتأمّلَ جيدا في قضية العلمنة بوصفها تحريرًا للدين من المؤسّسة، وعِتقا للإنسان من هيمنة المُقدّس والماضي الذي يشلّ العقل والروح.
تستعملُ كثيرًا التحليل الأدونيسيّ والتحليل الأركونيّ في قراءة الفكر العربيّ. لماذا أدونيس وأركون تحديدًا؟
لماذا أدونيس وأركون؟ لأنهما الأكثر جذرية في تناول قضايا العرب والمُسلمين، ولأنهما مفكّران جسّدا حرقة العقل النقديّ في تفكيك التراث، وجرأة المواقف الحداثية أمام ثقل الماضي ومُشكلاته بعيدًا عن أي هاجس توفيقيّ أو تلفيقي، وبعيدًا عن همِّ المُصالحة مع ما هو مُستَنفد مثلما نرى عند الكثير من المفكرين العرب كمحمد عابد الجابري أو حسن حنفي، تمثيلا لا حصرًا.
فأما عن صديقي الكبير أدونيس أعتقدُ أنه شاعرٌ ومفكر ومثقف غير مُهادن، مثل شعرهُ فتحا في الثقافة الإبداعيّة العربية أيقظها على فتنة مُغامرة اللغة والتشكيل والرؤيا خارج سيادة النماذج. كما مثل فكرهُ - منذ بواكيره - مُحاولة اختراق لقلعة الاستبداد المرجعيّ ونظام الحقيقة القائم على نصيّة المعرفة بمعزل عن صخب التاريخ وتراجيديا العالم. إنه مُفكرٌ يدعونا إلى أن نصغي قليلا إلى لَيل العالم، وأن نخرجَ من الرؤى الشموليّة إلى تجربة التفكيك في مُغامرة المعنى.
وأما البروفيسور الرَّاحل محمَّد أركون فأعتقدُ أنه أكبر مُفكر عربيّ في مجال الإسلاميّات. إنه مُفكرٌ فتحَ أضابير اللامُفكر فيه وجدّدَ، منهجيا، دراسة الإسلام وتراثه ودراسة الظاهرة الدينيّة من خلال دمج المثال الإسلاميّ ضمن برنامج ضخم للأنتروبولوجيا الدينيّة بعيدًا عن مُسبّقات الوعي القروسطي. لقد طرح أركون أسئلة غير مسبوقة على التراث الإسلامي وواقع المُسلمين اليوم؛ وكان في ذلك كله مُسلّحًا بمنهجية مفتوحة تنهلُ من فتوحات الفكر النقدي في أحدث تجلياته واختراقاته. وما يشدّني إليه أكثر هو نضاله أيضا من أجل الأنسنة الغائبة عن واقع المسلمين اليوم، رغم غنى التجربة التاريخية الإسلامية في هذا المجال كما بيّن، هُو نفسُه، في دراسات شهيرة.
أستاذ دلباني، هل تطورنا مُرتبط باتباع المسار التاريخيّ الذي سلكه الغرب من إصلاح دينيّ، ونهضة فكرية، وليبرالية سياسيّة واقتصادية ؟
لا يُمكنُ أن يكون تاريخ الحداثة الغربيّة مرجعا مُطلقا أو خطة جاهزة يجب إتّباعها من أجل الخلاص من الاغتراب التاريخيّ في دوائر القوى العمياء لإنتاج الواقع والمعنى. فرغم كون تجربة الحداثة الغربيّة تجربة عظيمة حدّدت المسارَ العام لتقدّم العالم نحو إنسانيّة مُتحرّرة ومُبدعة عرفت الخروج من سُلطة الماضي، إلا أنها مثلت خصوصيّة أوروبية غربية ارتبطت بمُشكلات التاريخ الغربيّ ونضال العقل الأوروبيّ من أجل تجاوز مآزقه وحلّ تناقضاته التي أفضت – كما نعرف - إلى علمنة الحياة وإزاحة المرجعية الدينيّة من الشأن العام وتحرير الفرد من الوصاية.
ولكن من جهة أخرى نعتقدُ أنَّ هناك قيمًا حديثة لا نستطيعُ أن نعتبرها جزءًا من التاريخ الثقافيّ الغربيّ فحسب، وإنما هي شيء يتمتعُ بطابع الكونيّة. من هنا قولنا إنَّ الحداثة، اليوم، لا تتمثل في ضرورة إعادة إنتاج التجربة الغربيّة وإنما في العمل على ترسيخ قيم الحرية والديمقراطيّة والأنسنة بعيدًا عن كل أشكال الوصاية التي تعتمد شِرعة الماضي لتسييج المُجتمع بالممنوع باسم الدفاع عن الخصوصيّة. فمن المعروف أنَّ بيننا من يدافعُ عن تخلفنا باسم الدّفاع عن الخصوصيّة في عهدٍ يحتفي كثيرًا بفضح المركزية الغربية وكونية ثقافتها المزعومة. كأنَّ نقد التمركز عند الآخر المُهيمِن يعني الدّفاع عن القرون الوسطى التي ترفضُ أن تموتَ عندنا. أو كأنَّ قمع الإنسان وإدانة الحرية الفكرية والإبداع وهضم حقوق المرأة تعتبرُ من خصوصيّاتنا التي يجبُ أن نستميت في الدفاع عنها. هذا المزعمُ برأينا باطلٌ ولا نتبنّاه. فلا شيء يعلو على الإنسان: هذا هو مبدأ الحداثة الفعليّة وهذا روحها. إذ إنَّ الحداثة – كما قلنا آنفا - ليست تقنية ولا يُمكنُ أن تُختزل في نموذج الحياة الاستهلاكي كما هو سائدٌ في بلداننا العربية التي يمنعُ بعضها المرأة من الانتخاب أو قيادة السيارة، ويُكفّر بعضها الآخر المُفكرَ النقدي مُطالبا بفصل زوجته عنه. إنَّ الحداثة الفعليّة هي – قبل كل شيء- نظامُ عمل جديد لمُجتمع أصبحَ مرجع ذاته في أفق تجربة تاريخيّة لا يتمّ فيها الاعتصامُ بالماضي وإنما بروح الابتكار.
إنَّ الحداثة، بالتالي، ليست تاريخا فحسب وإنما هي – بالأساس - موقفٌ كما أشار إلى ذلك ميشال فوكو. وأستطيعُ أن أجزمَ أنَّ الموقف العربي – الإسلاميّ المبدئي من قضايا المعرفة والنظر إلى الإنسان والعالم ليس من الحداثة في شيء ما دام يعتمدُ وصاية الماضي أو مرجعيّة الإيديولوجية التي تعتقدُ أنها أوقعت العالم في شباك النظرية المُتعالية. أقول هذا، طبعًا، مع ضرورة الإشارة إلى وجود استثناءات فكريّة تفكيكيّة تمثل مصابيحَ في عتمة السّائد.
يُطالبُ البعض بحوار الثقافات والحضارات. هل يُمكن ذلك في ظل غياب الحوار بين التيارات المنتشرة في العالم العربيّ، بل وانعدامه حتى داخل التيار الواحد ؟ وكيف هي علاقة هذه التيارات بالنقد الذاتي؟
أعتقدُ أننا يجبُ أن نؤسّس، فعلا، لأخلاقيات قبول الآخر ومُحاورته بانفتاح ورحابة عقل خارج سلطة المرجعيّات التي لا تقبل النقد أو تعتقد أنها تعلو عليه. إنَّ مُجتمعاتنا تعرفُ انفجارَ العنف لأنها مُجتمعات مكبوتة لم تترسّخ فيها شروط التعبير الحر والإبداع والبحث الموضوعيّ عن الحقيقة. لم نشهد حراكا تاريخيّا يغيّر من طبيعة علاقات القوة لصالح قوى التحديث والتقدم التي ظلت قليلة العدد سوسيولوجيّا. وفي هذا ما يُفسّرُ – ولو جزئيا – السلوك العنفيّ ورفض الآخر المُختلف في مُجتمعاتنا. إنَّ للنقد الذاتيّ شروطا حضاريّة ومعرفية أهمّها الإيمان بنسبيّة الحقيقة وتاريخيّة المعنى، وحق الآخر في الوجود الكامل بوصفه شريكا في بناء الذات المُتحرّرة من مركزيّتها. فأين نحنُ من هذا؟ ربما نطرحُ، هنا، مُشكلة الديمقراطيّة بمفهومها العقليِّ والثقافيّ باعتبارها شيئا غائبا عن البنيات الذهنية والاجتماعيّة التقليديّة التي تميّز مُجتمعاتنا. إنَّ هناك، بالتالي، عوائق سوسيو- ثقافية أمام مُحاولاتنا اجتراحَ آفاق الحوار مع الآخر أو مُراجعة الذات انطلاقا من همّ نقديّ يرومُ مدَّ الجسور نحو الحقيقة المُتخلّصة من إرادة الهيمنة.
أتفقُ معك على ضرورة دمقرطة حياتنا الثقافيّة والسياسيّة قبل الحديث السطحيّ الرّائج اليوم حول حوار الثقافات والحضارات – وهو الهاجسُ الحالي الذي يكشفُ عن حيلتنا الجديدة البائسة في تبرير تخلفنا بالتركيز على ضرورة احترام الخصوصيات الثقافية. كأنَّ ما يسودُ عندنا من فظائع مثل عدم احترام حقوق الإنسان والتمييز بين الجنسين وإدانة الفكر النقديّ تشكل كلّها هويّة عربية – إسلاميّة يجبُ صونها.
المُسلم مهتمٌ بالبحث عن تفسير لأحلامه (النوم)، أكثر من سعيه لتحقيق آمال الرّقي والازدهار (الواقع). لماذا هذا الهروب من الواقع إلى اللاواقع؟
أتفقُ معك في القول إنَّ المُسلم، اليوم، غيرُ فعَّال على أيّ مستوى في العالم. نحنُ أمة استهلاك، وأمة تعيشُ على نوستالجيا الفراديس المفقودة لأننا فقدنا زمام المُبادرة التاريخيّة منذ قرون طويلة. هذا الوضع المأساويّ جعلنا نعتصمُ بقشَّة الهوية المُهدَّدة في مُحيط التاريخ الأهوج. رُبَّما هذا ما ترى فيه أنت هروبًا من الواقع. ولكنّني أعتقدُ – بالإضافة إلى ما سبق أن قلتُ – أنَّ مُسلمَ اليوم لا يستطيعُ، أيضا، مُجابهة الواقع لأنه لا يملك العُدَّة المعرفية / النقدية الكفيلة بجعل الواقع حقلَ مُمكنات للعمل والإبداع والخروج من أسر القوالب الفكرية الجاهزة. المُسلمُ المُعاصر يريدُ تحيينَ الماضي "المثالي" لا الانقذاف في مجهول العالم وصنع التاريخ؛ أو تغيير صورة الواقع بما يُسهمُ في تقدّم الإنسان وازدهاره، وبناء علاقة جديدة بالمعنى تُفلتُ من دائرة إرادة الوصاية والإخضاع التي تميز المُجتمع التقليديّ.
لو عاش الأمير شكيب أرسلان مؤلف كتاب: "لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟" إلى اليوم لعدَّل، ربما، من سؤاله وجعله كالآتي: "لماذا تقدمت ماليزيا وتركيا وتخلفت جميع الدول العربية؟". بمَ تجيبُ عن هذا السؤال؟
من المؤسف أن يظلَّ سؤال الأمير شكيب أرسلان حيّا إلى اليوم. هذا يعني أنَّ زمننا الثقافيّ راكدٌ ولم يعرف انبثاقَ أسئلة جديدة تتجاوز جذريّا مُشكلاتنا العتيقة الموروثة عن صدمة لقائنا بالآخر الغربيّ. ما زالت أسئلة التحديث والنهوض والإبداع والمناعة الحضاريّة عالقة ولم تُحسم بعدُ رغم مرور نحو قرنين منذ أفقنا على فاجعة تأخرنا المُروّع. وأعتقد أننا – إلى اليوم – لم نُحقّق ما كان منشودًا، وإنما ما زلنا نتفنّنُ في إطالة أمد الأزمة بالهرولة وراء سراب الاستهلاك الواسع في ظل غياب التنمية البشريّة الفعليّة وهاجس بناء الإنسان العربيّ الجديد. أفهمُ الآن جيّدًا لماذا قال لي صديقي الكبير أدونيس – ذات يوم - في مُكالمة هاتفيّة: "لو زال العالمُ العربيّ كلّهُ، ما خسرَ العالمُ شيئا !". هذا الأمر فاجعٌ بكلّ تأكيد. أليس كذلك؟
أتركُ، هنا، مسألة ماليزيا لأننيّ لا أعرفها جيّدًا. ولكن هل تعرفُ، صديقي، لماذا تقدّمت تركيا كما تقول؟ الجوابُ واضحٌ: تركيا قطعت نهائيا وبصورة حازمة مع مورُوثها السياسيّ والحقوقيّ الذي مثلته السلطنة التقليديّة ودخلت مُغامرة العلمنة مع كمال أتاتورك. كان ذلك الأمر إيجابيّا بكلّ تأكيد، رغم حدّته وانقلابيّته على الفضاء الرَّمزي العريق الذي كان يؤثث نظام الحساسية والمعنى في المجتمع التركي. تركيا صنعت هويّة جديدة بعد أن تخلّصت من كوابح الهيمنة الدينيّة على الشأن السياسيّ وعلى الفضاء المدنيّ العام. ربما كانت هذه التجربة فريدة في العالم الإسلاميّ كله، ومثلت بعض تطلّعات الأنتلجنسيا والنخب الإسلاميّة التي سكنها مخيالٌ تقدّمي وفَّرهُ النموذج الغربي الظافر آنذاك. لقد ورثت تركيا إسلاما مُنهكا وغير قادر على تحقيق مناعته الذاتيّة في عالم أصبح يقوم على العلم والصناعة والأنسنة وإرادة القوة. من هُنا نفهم ذلك السّحر الذي مارسهُ الغربُ على نخبنا الإسلامية منذ القرن التاسع عشر. فهل بإمكان الإسلام بكلّ تياراته السَّائدة اليوم – الفكريّة منها والحركيّة - أن يُجابه التحديات التي تواجهُه أمام عولمة كاسحة تهدّدُ كل الثقافات التقليديّة الكبرى؟ هل بإمكانه أن يُسهمَ في بناء عالم جديدٍ على صعيد القيم وهُو ما زال يتشبَّثُ بموروث قروسطيّ لم يتعرَّض للتفكيك والمراجعات النقدية الضروريّة التي تفتحهُ على أسئلة العصر واحتجاجاته؟ أترك الجوابَ هنا لكلّ من يُصرّ على الدفاع "عمّا يسقط" كما يُعبَّر.
تجبُ الملاحظة هنا أنَّ الإسلام العربيّ هو الأكثر تخلفا في الفضاء الجغرافي الواسع والمتنوّع الذي تغطيه الظاهرة الإسلاميّة. وهذا الأمر لا يخرجُ عن كون الإسلام الموروث لم يعرف ثورة من داخله تقذفُ به خارج تقاليده الفكريّة والسياسيّة التي ارتبطت بالعصور الوسطى. ما زلنا لا نحترمُ حقوق الإنسان، وما زلنا نعتبرُ المرأة كائنا قاصرًا يحتاجُ إلى وصاية أبويّة. ما زلنا لا نحترمُ حرية التفكير والمُعتقد ونُجرِّمُ الفكر الحُرَّ إلى الحدّ الذي يجعلُ من كلّ مُفكر نقديّ عندنا شهيدًا بالقوة أو غاليلي ينوءُ تحت فداحة الإدانة الأبديّة. ما زلنا نرتابُ من الديمقراطية الفعليّة لأننا لم نستوعب أن يكونَ الإنسانُ مرجعا مُطلقا لكل مبادرة تاريخيّة بمعزل عن أشكال الوصاية التقليدية. هل عرفت الآن لماذا كل هذا التخلف الذي يكبحُ مُجتمعاتنا يا صديقي؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.