مواطنون يبحثون عن لقمة العيش، وآخرون صامدون من أجل أراضيهم ويقاومون قساوة العيش، هم مواطنون اختاروا منطقة تقع وسط الرحال كمكان مفضل لهم وسط الرمال لا تسمع فيها سوى أصوات العواصف الرملية في جميع الفصول حتى في فصل الربيع. لم نكن نتوقع منذ بداية رحلتنا إلى أقصى جنوبالجلفة أن نجد مواطنين مطحونين يبحثون فقط على لقمة العيش وشربة ماء وسط رمال تكاد تكون متحركة... اتجهنا من عاصمة الولاية الجلفة باتجاه الجنوب مقصدنا منطقة ريفية تابعة لبلدية أم العظام تبعد بنحو 200 كيلومتر والتي نادرا ما تزورها وسائل الإعلام. منذ دخولنا المنطقة استقبلنا كلب الرعي الذي يحاول أن يفسح لنا الطريق وعلامات السرور على وجهه في مشهد استغرب له ويبدو أن يقول لنا أهلا وسهلا. بعد أن ودعنا كلب الرعي دخلنا تراب هذه المنطقة التي غمرتها العواصف الرملية التي أصبحت جزءا من يومياتهم. دخلنا القرية المسماة "القعو"، بدأنا نبحث عن سكانها ووجدنا هذا الشيخ الذي جعل من الحجر وسادة له ومن التراب فراشا له، تقدّمنا من هذا الشيخ المسمى سليليح ويبدو عليه حالة الفقر وملامح البداوة وقساوة العيش تظهر في جميع تجاعيد وجهه، فصمته كلام وللحديث بقية. وصلنا البحث في أطلال هذه القرية رفقة شاب من المنطقة ويبدو أن سكانها قد هجروها بسبب الفقر والتهميش الذي يعيشونه هنا في أقصى الجنوب. وبعد بحث مستمر سمعنا صوتا يكسر هدوء السكون، وما هي إلا لحظات وقدم إلينا الطفل يوسف يلعب بإطار عجلة، وهي اللعبة الوحيدة التي وجدها، واستفسرنا عن مصدر هذه العجلة التي يلعب بها يوسف فقيل لنا إن والده له محل لتصليح العجلات، واستغربنا وجود هذا المحل في منطقة نائية.
عمي المسعود 30 سنة في تصليح العجلات بطريقة تقليدية اتجهنا لمحل عمي المسعود الواقع في هذه القرية، فتح لنا عمي المسعود محله الوحيد هنا في القرية إنه محل قديم جدا يعود إلى حوالي ثلاثين سنة، كل ما يوجد داخل هذا المحل البسيط يعود إلى ثلاثين سنة للوراء ولم يتغير شيء، إنه محل لتصليح العجلات بطريقة قديمة جدا، فقد تابعنا رفقة عمي المسعود عملية إصلاح ثقب العجلة التي تستغرق حوالي نصف ساعة، فهناك مراحل عديدة بدءا بتسخين هذه الحدادة والتي هي في أصل حدادة ملابس جعل منها وسيلة أخرى، تستغرق عملية التسخين نصف ساعة ثم يقوم بعملية حك مكان الثقب وإلصاقه بالنار وبعد نصف ساعة تكون الحدادة قد سخنت وتوضع فوق الثقب، المرحلة الأخيرة وهي النفخ ونظرا لعدم وجود الكهرباء فعمي المسعود يشغل هذا المحرك بالمازوت ومرات يستنشق هذه الروائح المضرة ليقوم بعدها بنفخ العجلة ويكون قد انتهى من عمله مقابل مبلغ زهيد، ويقصد هذا المحل أصحاب المركبات القديمة من منطقة أم الهشيم وغيرها وحتى أن بعضهم يفضله على المحلات المتطوّرة.
يوميات متشابهة لسكان يبحثون عن لقمة العيش غادرنا محل عمي المسعود وواصلنا بحثنا عن القاطنين بهذه المنطقة، وجدنا هذا الشيخ الذي روى لنا جزءا من يومياته، إنه يستيقظ باكرا وهمه الوحيد البحث عن بقايا الحطب للتدفئة، هنا في المنطقة غالبية السكان يستعملون الحطب رغم أنه غير متوفر لكون المنطقة رملية ويجدون صعوبة كبيرة في الحصول عليه، وربما يتوفر الحطب في حال فيضان الوادي الذي يجلب معه أشجارا وأشجارا قد ترفع الغبن عليه لأيام، وفي حال عدم فيضان الوادي فمصيرهم البرد أو قارورات الغاز التي تأتي إليهم مرات متفرقة. يواصل هذا الشيخ سرد يومياته، فغالبيتها البحث عن لقمة العيش التي أصبحت صعبة جدا في الوقت الراهن، يوميات محدثنا لم تخل من المتاعب والشقاء. بعد دقائق انتشر خبر وجودنا بالمنطقة وهرع إليها السكان، هناك من قدم مهرولا... وآخر على متن شاحنات قديمة، كان الاستقبال حارا والفرحة بادية على وجوه الخلق، ووصلنا تجوالنا في أرجاء القرية واستغربنا كيف لهؤلاء السكان أن يصمدوا في هذه المنطقة يحاورون العواصف الرملية. ولنكتشف سرّ بقائهم من خلال محاورتنا لهم، فالفقر أصبح جزءا لا يتجزأ من هذه المنطقة المعزولة، التي لا كهرباء بها ولا ماء ولا طرقات. غادرنا القرية وكلنا حزن على هؤلاء الصامدين والمفروض أن تمنح لهم الدولة جوائز ومكافأة لصمودهم أمام هذا الوضع المبكي والمحزن في جزائر العزة والكرامة.
صامدون من أجل أراضينا يا ناس أجمع كل من تحدثنا إليهم أنه رغم المصاعب اليومية في قرية القاعو إلا أنهم قرّروا الصمود هنا حتى يدفنون والسبب عدم الاستغناء على أراضيهم التي ورثوها عن أجدادهم، حيث أردف شيخ قائلا "ولدت هنا وآبائي ولدوا هنا وأجدادي كذلك كيف أترك هذه المنطقة. أنا أفضلها على كل الدنيا"، وسألناه كيف يستطيع أن يقاوم فقال "مثل آبائي أتدفأ باستعمال الحطب وأرعى الماعز والحمد لله".