من دواعي الأسف أن صار الكثير من الإعلاميين يروجون - عن قصد أو عن غير قصد - لصورة نمطية حول منطقة القبائل (الزواوة)، أساسها التنصير والنزعة الانعزالية، رغم كونهما حالة شاذة، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه كما قيل. يحدث هذا في الوقت الذي تعرف فيه الساحة الثقافية في هذه المنطقة إنجازات كبرى، كترجمة معاني القرآن، والسيرة النبوية، ونشيد "طلع البدر علينا" إلى الأمازيغية، وتكثيف النشاطات الثقافية المتنوعة، هنا وهناك، وقد حالفني الحظ في حضور بعضها. كثيرة هي الاتصالات الصحفية التي تصلني، والمؤسف أنها تركز في معظمها على موضوعي التنصير والحركة الانعزالية، خاصة بعد إعلان مسؤولها عن تشكيل ما أسماه بالحكومة في المنفى. ولئن كانت الحكمة قد أشارت إلى أن "معظم النار من مستصغر الشرر"، فإن اختزال بلاد الزواوة في القضيتين المذكورتين، ينمّ عن جهل حقيقتها الاجتماعية والثقافية والسياسية. وقد سبق لي أن صرّحت لبعض هؤلاء الإخوة الصحافيين أن الكتابة عن مهاترات فرحات مهني، هي بمثابة دعاية مجانية لمغامراته الدونكيشوطية، التي لا أثر لها في الواقع، اللهم إلا لدى بعض المتطرّفين الذين لا يخلو أي مجتمع منهم، وصار أمره حديثا تلوكه الألسن للتسلية في مجالس القرى والأحياء، وليس إلاّ. والجدير بالذكر أن التيار السياسي الانعزالي المستفيد من ظاهرة التنصير، يحظى برعاية منبر إعلامي مرئي هام، يبث من خارج الجزائر، مشهور بإقصائه لكل ما له صلة بالثقافة الإسلامية في بلاد الزواوة، التي يختزلها في أشكال مشوهة تجمع بين رواسب الوثنية والممارسات الدينية المنحرفة كالدروشة والشعوذة. لذا فمن واجب الإعلاميين أن يتلافوا ترويج الصورة النمطية التي تصور منطقة القبائل على أنها جزيرة معادية للمحيط الوطني، لأن أصحاب النزعة الانفصالية هم الجهة الوحيدة المستفيدة من نشر مثل هذه المغالطات. مدرسة قرية أحريق، مشتلة للمعلمين تلقيت أيضا دعوة من أعيان قرية أحريق (بلدية بوزڤان) لحضور حفل تكريم الأستاذ صالح صالح (يوم 28 ماي الماضي)، الذي درّس في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بمدرسة القرية، التي أنشئت بمال أهلها، ثم ألحقت بمدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وقد شارك الأستاذ محمد الصالح الصديق في هذا الحفل بإلقاء محاضرة قيّمة حول الحركة الإصلاحية في بلاد الزواوة، أثارت إعجاب المواطنين الذين حضروا بكثافة. أما المحتفى به الأستاذ صالح صالح، فقد نوّه بمآثر المدرسة التي أنقذت العشرات من الشباب من ظلمات الجهل، وصارت بمثابة مشتلة لتكوين المعلمين المعربين غداة الاستقلال، كما أرسلت قيادة الثورة بعضا من طلبتها إلى الخارج لمواصلة تعليمهم في شتى التخصصات، أصبحوا بعد الاستقلال إطارات الدولة، خاصة في مؤسسة الجيش الوطني الشعبي. ونظرا للأهمية التاريخية التي تكتسيها هذه المدرسة، وما تمثله من بعد ثقافي إصلاحي، فإنه من الأنسب أن يفكر أهل القرية في تحويلها إلى متحف، يذكّر الأجيال بالجهود الجبارة التي بذلها الأجداد لصيانة الشخصية الوطنية من خطر المسخ الاستدماري. ترجمة سيرة الرسول إلى الأمازيغية كما حالفني الحظ أيضا في حضور الملتقى الوطني الخاص بالمديح الديني الأمازيغي، الذي نظمته مديريتا الثقافة والشؤون الدينية، لولاية تيزي وزو، في أيام 5، 6 و7 جوان 2010م، بحضور السلطات المحلية وعلى رأسها السيدان رئيس المجلس الولائي، ووالي الولاية، وبعض النواب، والسيد وزير الشؤون الدينية والأوقاف، لتكريم روح الفقيد المنشد أمقران أڤاوه. وكان الملتقى ثريا بالمحاضرات، التي تمحورت حول أشكال تجلي الثقافة الإسلامية باللسان الأمازيغي، أعدها باحثون وباحثات كثيرون (صالح بلعيد، قرج فريدة، لعويسات سمير، فريزة مازوني، خالد عيڤون، بوعلام جوهري، حكيم رحمون، لمياء دحماني، زموش كاهنة، إبراهيم إدير، سامية مشتوب) وبتقديم المدائح الدينية لمختلف جهات الوطن (الأوراس، بوسعادة، أدرار، بشار، تيزي وزو)، وبرزت بقوة فرق المديح الديني المحلية، التي تنشد أشعار الحاج أسعيذ أوزفون (1883 - 1946) بصفة خاصة. ورغم أهمية هذه العروض الثقافية جميعها، فإن ما أثار انتباه الحاضرين، هو إعلان الباحث بوعلام جوهري عن إكمال مشروعين ثقافيين هامين، هما ترجمة سيرة الرسول (ص) إلى الأمازيغية في شكل منظومة شعرية ألفية (ألف بيت)، ونشيد "طلع البدر علينا". وقد وعده وزير الشؤون الدينية بالتكفل بنشر هذين العملين. وهذا مقطع من نشيد "طلع البدر علينا" المترجم: يُولِيدْ وَڤورَنِّي فَلاغ ْ أڤُورْ يَضْوَانْ سَثْ زيري يُوكْلالْ أذا سَنْڤا إسَّغْ إسْمِيگْ أيُوشْبيحْ نَنْبي أمُحَمّذ ْ أثَافَاثْ أنَّغ ْ نْطافَاريكْ أيثْري فَلاكْ ثازَالِيثْ *** يُولِيدْ وَاڤورَنِي نُورْجَا نَفْرَحْ أرْڤَازْ ثَامَطُوثْ ثَافَاثْ ثَدْلَدْ المَدينَه مِيگْ ثُوغَالْ أيُوشْبيحْ تسّامُورْثْ زَذغِيتسْ اُورْ تسَفّغْ سِينَا مَاثَجيطَتسْ أمْزونْ نَمُوثْ وأولى بالصحافة أن تسهب في التنويه بمثل هذه الأعمال الفكرية الكبيرة، التي تعد لبنات كبرى في بناء صرح الثقافة الأمازيغية، بطريقة تكاملية مع العربية، من شأنها أن تقوّي اللحمة بينهما. هذا ويعد الأستاذ الباحث بوعلام جوهري (خريج جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة) أحد المهتمين بالثقافة الأمازيغية ببعدها الإسلامي، وما هذه الترجمة إلا دليل على ذلك. علما أنه يجمع بين صفة الباحث، والشاعر الملهم، ويملك ناصية ثلاث لغات (العربية والأمازيغية والفرنسية)، يعمل حاليا أستاذا في جامعة بجاية، وأمنيته أن تسترجع هذه المدينة مجدها التليد. وبالنظر إلى نشاطه العلمي الدؤوب، فإنني أتوسم فيه خيرا كثيرا، وأتوقع أنه سيثري المكتبة الأمازيغية بأعمال علمية أخرى. زاوية سيدي علي أويحي... المنارة المضيئة تلقيت الدعوة لحضور حفل افتتاح الزاوية الصيفية للبنين والبنات، يوم 14 جوان الماضي، بآث كوفي (دائرة بوغني)، وقد حضره رئيس الدائرة ورئيس البلدية، والعديد من الأساتذة والكتاب، والأئمة، ومسؤولو الزوايا، والطلبة، قدموا من مختلف مناطق القطر الجزائري، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، بلقاسم سعد الله، محمد الطاهر آيت علجت، محمد الهادي الحسني، عبد الرزاق قسوم، السعيد بويزري، صالح بلعيد، والأستاذ تركي، لا أتذكر اسمه، وغيرهم... وتزامن هذا النشاط الصيفي أيضا مع تدشين لوحة تذكارية لتخليد شهداء الزاوية الذين سقطوا في ميدان الشرف خلال الثورة التحريرية( 1954 - 1962) من طرف سي واعلي، رئيس منظمة المجاهدين بولاية تيزي وزو. هذا وقد أخذت هذه الزاوية بأسباب الإصلاح التربوي بعد إعادة فتحها غداة الاستقلال سنة 1963م، فصارت منارة مضيئة، تنشر العلم والمعرفة في كل المواسم، ففضلا عن تحفيظ القرآن وتدريس العلوم الشرعية بطريقة حديثة، فقد دأبت على تنظيم النشاطات الثقافية والاحتفالات الموسمية، ويندرج في هذا السياق فتح الدورة العاشر للطلبة، والدورة الرابعة للطالبات، للزاوية الصيفية، قدموا من كل جهات الوطن، لتلقي العلوم الشرعية، مع توفير الإقامة والإطعام مجانا لهم. وتحتفل الزاوية أيضا بالأعياد الدينية، وليلة القدر، والمولد النبوي الشريف، وتنظم مسابقات رمضان، وتستقبل الأساتذة والأئمة على مدار السنة، وتحيي ذكر العلماء كما فعلت سنة 2008م، مع فقيد العلم محمد نسيب خريج هذه الزاوية. هذا وأعجب الحاضرون بهذه النشاطات أيّما إعجاب، خاصة الدكتور بلقاسم سعد الله، الذي وعد أهل الزاوية بالكتابة عنها لاحقا للتنويه بجهودها العلمية، وبدورها التربوي والاجتماعي في منطقة آث كوفي. وللعلم فقد أسس سيدي علي أويحي ذو النسب الشريف، هذه الزاوية في القرن الخامس عشر الميلادي، في آث كوفي في موقع يقع حيث تبدأ سلسلة جبال جرجرة، على ارتفاع قدره حوالي 900م، يشرف على سهل بوغني، يتميز بالاخضرار الدائم، يسرّ الناظر، ويوفر الهدوء والسكينة لطلبة العلم والزائرين. أسسها بغاية تحفيظ القرآن، وتدريس العلوم الشرعية، وتقديم الفتاوى، ورأب الصدع بين المتخاصمين، وبث روح المصالحة بين الناس، وإيواء عابري السبيل، ورفع راية الجهاد عندما يتعرض الوطن لعدوان خارجي. وبحكم عراقة الزاوية، فلا شك أنها كانت تملك مخطوطات عديدة في العلوم الشرعية، لكن - مع الأسف - ضاعت جراء تخريب الزاوية وتدميرها من طرف الاستعمار الفرنسي سنة 1959م، لذا لا نعرف تاريخها القديم، ولم تحفظ لنا الذاكرة إلا بعض أسماء المشايخ الذين تعاقبوا على التدريس فيها خلال سنوات القرن التاسع عشر الميلادي، كالشيخ محمد الصديق فراد (من قرية عشوبة، بلدية آزفون) الذي درّس فيها في حدود 1920م بالتقريب، وقد اصطحب معه إلى هناك بعض الطلبة من قريته، أذكر منهم أخاه الأصغر فراد محمد الطاهر، وأرسولي محمد أكلي. أما الشيخ أرزقي أبو يعلى (من قرية آث خليلي، ولاية تيزي وزو)، فقد درّس فيها مابين 1924 - 1926م، ثم جاء بعده الشيخ علي أولخيار (من بلدية ماگوده، ولاية تيزي وزو) مابين 1933 - 1935م. أما الشيخ مزيان اُوقيسون (يمي محمد أمزيان، من قرية قيسون، بلدية آزفون) فقد أخبرني أحد أبنائه أنه درّس فيها خلال فترة 1949 - 1954م، وأدخل إصلاحات تربوية على طرائق التدريس، استفاد منها الطلبة كثيرا. ثم جاء الشيخ علي شاب الله (بلدية أسي يوسف، ولاية تيزي وزو) ولا نعرف بالضبط فترة تدريسه، أما الشيخ عبد القادر باديس (بلدية الهاشمية، ولاية البويرة) فقد مكث في الزاوية عشرين سنة (1971 - 1991م). ودرس بها أيضا الشيخ أحمد زايدي (من بلدية بوغني)، والشيخ محمد الصغير خروبي (من بلدية سيدي نعمان، ولاية تيزي وزو) ما بين 1989 - 1999م. هذه بعض العيّنات عن النشاطات الثقافية الثرية، التي تنظم هنا وهناك في بلاد الزواوة، ويمكن أن نضيف إليها الإنجاز الثقافي الكبير المتمثل في ترجمة معاني القرآن إلى الأمازيغية، بأقلام السادة: الشيخ بوستة (ترجمة سمعية)، والأستاذ سي حاج مُحَندْ - مُحَندْ طيب، أنجزها بالحرف العربي، برعاية وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، ومجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف سنة 2003م، وأنجز الأستاذ رمضان آث منصور ترجمة أخرى (بالحرفين اللاتيني، وتيفيناغ، صدرت سنة 2006م). ورغم ازدهار النشاطات، وتعدد الانجازات الثقافية ذات الصلة بالحضارة الإسلامية، فإنه - مع الأسف - لا تحظى بالتغطية الإعلامية الكافية، في حين تركز كل الأضواء على مهاترات المغامرين والمتطرّفين، الذين لا يمثلون إلا أنفسهم ومَن كان على شاكلتهم من المغرّر بهم. فبماذا يفسر هذا التقصير الإعلامي؟ هل يعود ذلك إلى عامل الإثارة الذي يميّز قضيتي التنصير والانفصال؟ أم إلى وقوع الإعلاميين فريسة للإيديولوجية الانعزالية التغريبية التي فرضت رؤيتها على الرأي العام، حتى صار الكثير منهم ينظرون إلى بلاد الزواوة بعين المتطرفين القاصرة؟ ومهما كان الأمر، فإنه من الضروري أن يدرك أصحاب الأقلام من الصحافيين والكتاب، أنهم إذا ساؤوا لحظ بصيرة في كتاباتهم عن الزواوة، جاءت على أيديهم نظرة الجزائريين إلى المنطقة سقيمة، توسّع الشرخ بين المواطنين. لذا فإن أوجب واجبات الإعلامي أن يحرص أشد الحرص على تقديم مادة خبرية صحيحة، ولن يتأتى ذلك إلا بالتحرر من الصورة النمطية السيئة التي روّجها أهل النوايا السيئة عن المنطقة، وبتغليب العمل الميداني، بدل الكتابة من وراء المكاتب، عملا بالقول المأثور الشهير: "ليس الخبر كالعيان".