في يوم 12 من الشهر الجاري قدم الرياضياتي سيدريك فيلاني Villani (البرلماني الفرنسي الحائز على ميدالية فيلدز) تقرير لجنته الخاصة بإصلاح تدريس الرياضيات في مراحل التعليم غير الجامعي. وجاء التقرير في 96 صفحة وبعنوان "21 إجراءً لتدريس الرياضيات". طريقة سنغافورة وكان وزير التربية قد كلف فيلاني بإعداد خارطة طريق في سبتمبر الماضي تسمح باعتماد طريقة سنغافورة لتدريس الرياضيات في المدرسة الفرنسية بعد أن أثبتت هذه الطريقة نجاعتها في العديد من البلدان. وفرنسا تأمل في تكييف الطريقة لتتماشى مع معطيات البلاد وبيئتها وخصوصية أبنائها المختلفي الأعراق، مع الاستفادة من الماضي المجيد للبلاد في مجال الرياضيات. ومن المعلوم أن المفارقة في فرنسا تكمن في كونها تُعدّ الثانية عالميا (بعد الولاياتالمتحدة) في مجال البحث الرياضياتي في الوقت الذي تعرف مدرستها تدهورا كارثيا من حيث المستوى المعرفي مقارنة بالبلدان الأوروبية والآسيوية المتقدمة. والحقيقة أن هناك ظروفا موضوعية تجعل فرنسا تحتل المرتبة الثانية في البحث الرياضياتي أهم أسبابها الرصيد الهائل من العلماء خلال القرون القليلة الماضية ووجود المدارس الكبرى التي تتكفل على مرّ العقود بتكوين النخب العلمية (بدل الجامعات التي يقصدها عامة الطلبة)... ثم إن هناك استقطاب خيرة أبناء المستعمرات القديمة وكثير من بلدان المعسكر الاشتراكي سابقا. هل سيفلح هذا المخطط؟ نجد في الإجراءات المقترحة : 4 حول أوليات المرحلة الابتدائية، و 6 تسعى إلى النجاعة وجعل الرياضيات ممتعة ومحمسة للجميع، و 3 تتناول تدريس العدد والحساب، و 3 توضح طرق التكوين المستمر والتطوير المهني، و 5 توضح سبل التسيير والإشراف والتقييم. يشير التقرير إلى أن الدول التي تسير بتلاميذها نحو النجاح والتفوّق تستثمر في المدرسة وتخصص لها ميزانية طائلة سيما في تكوين المكونين خلال الخدمة. والتقرير يشير إلى ضرورة السير في هذا الاتجاه. وهذا ما يؤيده الجميع.
نقد وانتقادات يعيب المختصون ممن تابعوا منذ القديم ملفات إصلاحات التعليم في فرنسا عديد النقاط في هذا التقرير. وكثير من هؤلاء المناوئين يتخوفون من طريقة سنغافورة، وكأنهم يفضلون التقرب أكثر من مناهج الدول الأوروبية الناجحة مثل ألمانيا وفنلندا بدل سنغافورة. ويذكرون مثلا أنه لا يمكن مقارنة الوضع في فرنسا مع بلد (سنغافورة) أقل منها عددًا ب 12 مرة، وناتجها الخام المحلي يزيد عن ناتج فرنسا بنسبة 40%، ونسبة البطالة فيه تعادل 2%، ولديه سياسة تعليمية طوعية ومستمرة لا مقارنة بينها وبين العشوائيات التي تمارس في فرنسا وتهيمن عليها إيديولجيات الحكومات المتعاقبة. وفي سنغافورة هناك تمويل مكثف لتكوين المكونين الذين لهم رواتب جيدة لا توجد في فرنسا. أما محيط التلاميذ فيخضع لروح منافسة مرهقة لا نجدها في فرنسا، والدروس الخصوصية تشمل حتى المستوى الابتدائي في سنغافورة حيث أن 80% من التلاميذ يتلقّون على الأقل 3 ساعات أسبوعيا كدروس خصوصية. يقول المنتقدون أن علينا مراعاة كل هذه العوامل وألا نعتقد أنه بمجرد تغيير طريقة التدريس سنمرّ من السيء إلى الأحسن. وهناك من انتقد طريقة إدخال العمليات الأربع في الابتدائي وفق الطريقة السنغافورية، وذكّر البعض بالمناقشات التي دارت في فرنسا خلال العقد الماضي حول هذا الموضوع. وثمة من انتقد مراحل طريقة سنغافورة التي يعتمدها المشروع حيث يتمثل الدرس في 3 خطوات : الملموس، ثم المُصَوَّر، ثم المجرد. ويرى البعض أن هذا يتطلب دراسة وافية حسب المستوى الدراسي، فهذا النمط سيختلف من طور تعليمي إلى آخر. ويرون أيضا غموضا في مفهوم التجريد. ومن جهة أخرى، يقول المنتقدون إنهم كانوا ينتظرون من التقرير جملة من التوصيات الوجيهة التي تضع الإصبع على الصعوبات الحقيقية المسجلة في الميدان، لكن التقرير فضّل -حسب رأيهم- التنويه بطريقة سنغافورة بدون التأكيد على أنها ليست كتابا مدرسيا بل تتضمن مائة ساعة سنوية مخصصة لتكوين المكوّن ! ثم إن هناك كمًا من التوصيات في التقرير ليست سوى تكرار لما يعلمه الجميع منذ أمد بعيد. ويذهب بعضهم إلى القول بأن هذه الطريقة لم تأت بجديد نظري وأن توجّه الوزير كان منذ البداية ذا طابع إيديولوجي. ينبغي الإشارة هنا إلى أن أصحاب طريقة سنغافورة لا يدّعون بأنهم أتوا بجديد، لكنهم أحسنوا المزج بين الطرق الموجودة في سوق المناهج التربوية.
وماذا بعد؟ والواقع أن القارئ للمنتقدين يشعر أنهم من فئة المدرّسين والمفتشين الذين كان ولا يزال لهم باع طويل في ميدان التربية والمناهج والتأليف وتدريس الرياضيات سيما في المدرسة الابتدائية التي تستهدفها هذه الإصلاحات بالدرجة الأولى. كما يشعر القارئ بأن هؤلاء ناقمون لأنهم لم يُستشاروا أو كانت استشارتهم من طرف اللجنة خفيفة، ولم يجدوا لرأيهم أثرا في التقرير النهائي عكس ما يدعيه نصه الذي يشير إلى أنه يحمل رأي من استشيروا من الخبراء. فعلى سبيل المثال، يرى هؤلاء تناقضا في كون اللجنة تكونت من 20 عضوا من بينهم اثنان فقط درّسوا في الابتدائي، وبقية الأعضاء يحملون نفس الأفكار وينتسبون لتيار واحد، بينما طريقة سنغافورة تعتبر المرحلة الابتدائية قضيتها المركزية! ولعله من المفيد القول بأن فيلاني أصبح اليوم ذا صيت علمي وسياسي لا نجده عند غيره، وهو ينتسب إلى تيار رئيس الجمهورية. وهذا ما جعل الحكومة تكلفه مؤخرا بمهمة أخرى حول الذكاء الاصطناعي. وقد شرح فيلاني السبب بالقول : "كلفني الوزير الأول في سبتمبر الماضي بمهمة بالغة الأهمية حول الذكاء الاصطناعي وهي : اقتراح إستراتيجية تجعل فرنسا وأوربا في المقام الأول في خضم هذه التحولات...". والواقع أن اهتمام فرنسا بالموضوع بدأ عندما نشرت إدارة أوباما في أكتوبر 2016 تقريرا يشير إلى وضع الذكاء الاصطناعي ووصَفه بأنه "أصبح رهانا حقيقيا في المجتمع". ويذكّرنا وضع فيلاني الآن بوضع زميله الرياضياتي لورنت لافورغ Lafforgue (الحائز هو الآخر على ميدالية فيلدز عام 2002) ولم يُكتَب له النجاح. كان لافورغ يتابع في بداية القرن عن كثب قضايا التعليم، وكان له اتجاه مسيحي وآراء جريئة. وحدث ما حدث بسبب هذه الجرأة. فقد عيّنه آنذاك جاك شيراك عضوا في المجلس الأعلى للتربية في نوفمبر 2005، لكنه لم يمر أسبوع حتى استقال من المجلس بطلب من مستشار رئيس الجمهورية لأنه تهجّم كتابيا على خبراء التربية مؤكدا أنهم يسيئون إلى نشر العلم في المدرسة ووصفهم ب"الخمير الحمر". وكان رئيس المجلس يرى بأن مثل هذه الآراء لن تساعد على إجراء نقاش هادئ في المجلس والوصول إلى إجماع.
للمقارنة في بداية هذا القرن كانت لدينا أيضا لجنة وطنية لإصلاح المنظومة التربوية. ولعل القارئ نسي بأن خارطة الطريق التي وضعتها تلك اللجنة ظلت سرية على الجميع، ولم نطلع عليها إلى اليوم. ولذا لم يتمكن أحد من إبداء الرأي فيها بناء على نصها. لكنه جاز للمسؤولين المتعاقبين على وزارة التربية اتهام الخلف للسلف بأنهم لم يحسنوا تطبيق نص تقرير اللجنة! وقد سمعنا تصريحات من هذا القبيل. أما في فرنسا فالأمر يختلف : فقد وصلنا تقرير فيلاني الكامل في بُرُدنا الإلكترونية عبر مجلة رياضياتية فرنسية في الصباح الباكر ليوم 12 فيفري، أي قبل أن يستلمه وزير التربية رسميا بساعات! ويرى ذوو العقول المستنيرة الذين ينبذون العمل التربوي في الخفاء أننا نخشى في الجزائر النقد والانتقاد في حين أن النقد الذي انهال من بعض الخبراء الفرنسيين على مشروع فيلاني لن يزيده إلى دعما لأنه سيلزم منفذ المشروع بمراعاة الأفكار والملاحظات الواردة بأقلام المنتقدين ومن ثم زيادة حظوظ نجاح المشروع! فليتنا نتعظ في موضوع النقد، فهو أسلم سبيل للتحلي بالروح المسؤولة خلال تنفيذ مشاريعنا سيما التربوية منها. نعتقد أن الوقت قد حان لينظر مسؤولونا في "طريقة سنغافورة" وكيفية الاستفادة منها مراعين في ذلك خصوصياتنا المتعددة الأشكال.