القصبة هي أول ما يقابلك عندما تلج باب العاصمة مولية وجهها صوب البحر وكأنها تحرس المدينة من كيد الغازين، ماتزال جدرانها تحفظ ذكرى الأيام الخوالي من عهد الأتراك إلى زمن الفتنة، مرورا بزمن الفرنسيين كانت القصبة في كل مرة الشاهد الحي على ذاكرة الجزائر، ظلت لعقود متعاقبة رمزا للحرمة والرجلة رمزا لحايك مرمّه، الشبيكة والمجبود وغيرها من الحرف والصناعات اليدوية المتقنة التي تذكر بزمن يصعب اليوم محاكاته. ظلت دوما تستحضر أحاديث النساء وأسطح البنايات وقصص شهرزاد التي تسكت عن الكلام المباح عندما يدركها الصباح، تلك قصبة الأمس فماذا بقي من القصبة اليوم؟ * سؤال تصعب كثيرا الإجابة عليه، لأن القصبة لم يبق منها اليوم غير بقايا الجدران التي تشكو التهميش وبعض الصناعات المتناثرة في الأزقة الضيقة وذكرى في نفوس أبنائها الطيبين الذين يمكنك تمييز ملامحهم بين ملايين البشر. * من "باب جديد" دخلنا القصبة عبر الأبواب الخلفية للمدينة كالسراق نتلصص على ما تبقى من ذاكرتها بحثا عن شيء من تلك الأيام، الأزقة خالية في هذا الصباح الرمضاني إلا من بعض المارة الذين يهرولون لمنافعهم وأشغالهم الصباحية في مشيتهم خوفا أو ذعرا أو تحفظا، هذه الأزقة الموشومة بذكرى الأيام العصيبة والانفجارات اليومية للشوارع. في الطريق كنا نصادف الحمير تنقل القمامة، الوسيلة الممكنة في هذه الأزقة الملتوية التي تحاصرك في دائرة الماضي. كنا نسير بحثا عن منزل خالتي "عيشة"، هذه القصبوية أبا عن جد علّنا نجد ما نبحث عنه من بقايا التاريخ والذكريات. لم يستغرق بحثنا طويلا ليدلنا أحد الأطفال البيت العتيق وسط نظرات التحفظ والريبة وبعض الشك الذي كنّا نلقاه في عيون المارة. * "خالتي عيشة" ماتزال ملامحها تحتفظ بوهج الأيام الخوالي وفي لهجتها بعض من رائحة "زمان"، كانت تتحدث بحسرة عن القصبة وما آلت إليه وكيف ودّعت ذلك التراث العريق، كيف اختفت صناعة النحاس والصوف والمجبود والذهب، كيف لم تعد دقات مطارق الحدادين تطرب صباحات العاصمة، كيف لم تعد آلات البسيطة للنجارين والنحاتين جزءا من يوميات القصبة، كيف غادرت الشوربة البيضة والمقطفة موائد القصبة، كيف لم تعد شهرزاد تسهر في سطوح البيوت العربية على القهوة بماء الزهر وصينيات الصامصة. في حديثها يمكنك أن تستشعر السخط وبعض اللوم على الذين تخلوا عن القصبة بعد الاستقلال. * عند مدخل البيت البسيط والباب الخشبي يمكنك أن تشم رائحة التاريخ القادم من أغوار الماضي. عندما وقفت في وسط الدار ورفعت راسي إلى السماء لأرى السطح، تذكرت مسلسل "الحريق"، استحضرت صرخات لالا عيني ونظرات عمر وأنين الجدة، شعرت للحظات أن تفاصيل الأشياء هنا تعيد تشكيل نفسها ويعيد المشهد تركيب أجزائه وتعود القصبة كما كانت ولو لدقائق في ذهن هذه العجوز التي تصر على العيش في ذكريات الماضي. * كانت تأتيني لهجتها العربية المكسرة بلكنة قبائلية واضحة، ولأرفع عنها الحرج خاطبتها بالأمازيغية "هل يمكن أن تحدثينا عن رمضان القصبة في زمانك". كان ذلك كافيا لينطلق لسان هذه العجوز من عقاله عابرا الأزمان والحكايات، تسرد نهارات رمضان وسهرات نساء القصبة زمان في الصباحات المشغولة بالماء والصابون والعجين في وسط الدار والسهرات والأمسيات فوق الأسطح حيث البوقالات والأغانى النسوية الحميمية والصناعات اليدوية عندما كانت الأبواب مفتوحة على بعضها والناس يزرون بعضهم، أشياء لم يبق منها شيئ اليوم، تقول خالتي عيشة، التي قادتني من يدي إلى غرفتها البسيطة حيث كان إزار الباب منسدلا مثل زمان ومن الخزانة أخرجت علبة في شكل صندوق صغير قالت إنها تعود لزمن الاستعمار الفرنسي وبها بقايا ذاكرة وشيء من الماضي، محارم الفتول الحايك الناصع البياض المصنوع من الخيوط الحريرية الرفيعة والعالية الجودة، رمز الارستقراطية والرفعة التي عاشتها هذه السيدة. فجأة شدتني صورة مثبتة على الجدران ترسم ملامح امرأة شابة في بداية مشوار الحياة، قالت خالتي عيشة، بصوت استطعت أن أميّز نبرات التيه والحسرة فيه، "هذه صورتي في الخمسينيات، المرأة التي تقف بجانبي هي حماتي وذاك زوجي الذي مات بانفجار في أيام الاستعمار". سكتت خالتي عيشة لبرهة قبل أن تستأنف حديثها على إثر تنهيدات شعرت للحظات أن أعماقها ستنفجر "لم يبق اليوم شيئا يا ابنتي القصبة فقدت صنعتها وغادرها ناسها لم يبق اليوم إلا الخراب". * عندما رافقتني خالتي عيشة للخارج كانت تسمي لي الأزقة كأنها ماثلة أمامها، هنا كانت زنقة الماء، وهنا زنقة العرايس وهناك حومة الحدادين. رهيبة هي ذاكرة هذه المرأة التي ترفض أن تخرج من الماضي الجميل للقصبة التي لم يبق منها اليوم إلا بضع بنايات وجدران تتشاجر الهيئات على ترميمها وقد ابتلعت حتى الآن الملايير دون أن تستفيد القصبة من شيء خارج الكلمات التي يلوكها المسئولون في كل سنة بمناسبة شهر التراث، لتبقى الذاكرة الثقافية للقصبة بإرثها وتراثها وزخمها تشكو التهميش، رغم أنها مصنفة من طرف اليونسكو كمعلم عالمي منذ أزيد من عشر سنوات. بدت لنا أزقة القصبة تشكو سنوات الإهمال، بل يكاد تاريخها ينطق ونحن نغادر الشارع الرئيسي الذي يمارس ضجره اليومي بلا مبالاة واضحة لتراث القصبة الذي يندثر في صمت، بدت لنا أزقة وشوارع القصبة تستصرخ زمنا وإرثا لن يعود.