يرتبط المنجم في الأذهان باستخراج بعض خيرات الأرض وحصول النعمة والثراء، والغالب أن يكون المنجم مختصًّا بنوع واحد من تلك الخيرات، فكيف إذا احتوى أكثر من نوع، وكلُّها غالية الثمن نفيسة القيمة عظيمة النفع؟! وكيف إذا كان استخراج تلك الكنوز سهلا ميسورًا لكل أحد دون حاجة لتخصص دقيق، ولا جهد كبير؟ !! * لا شك أن الجميع سيكونون حريصين على أن يكون لهم النصيب الأعظم من كنوز المنجم الثمينة . المنجم أمام عينيك، وتحت قدميك، وبين يديك، وهو طوع أمرك، ورهن إشارتك .. ألست تراه؟ ! ألا تبدو لك كنوزه المتنوعة؟؟ ألا تغريك ثروته الغالية؟؟؟ انتبه .. ما لك؟ !! ألا تُبصر الجموع الغفيرة تُقبل عليه وتأخذ منه؟ ألم يتكرَّر هذا المشهد أمامك كثيرًا؟ ! إنه منجم ..... لا ! لن أسَمِّيه لك، بل سأنتقل إلى عرض بعض كنوزه فذلك أولى وأجدى . كنز الفضائل والخصائص - مغفرة : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ( متفق عليه ) . - تكفير : " فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة " ( متفق عليه ) . - وقاية : " الصيام جُنّة وحصن حصين من النار " ( رواه أحمد ) . - مثوبة : " الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها " ( رواه البخاري ) . - خصوصية : " إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم "( متفق عليه ) . - شفاعة : " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة " ( رواه أحمد ) . - فرحة : " للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه " ( رواه مسلم ) . - تفرد : " عليك بالصوم فإنه لا مثل له " ( رواه النسائي ) . كنز القرآن والتلاوة ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ( البقرة : 185 ). عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أيْ ربّ إنّي منعته الطعام والشهوة فشفّعني فيه، ويقول القرآن: أيْ ربّ منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان". (رواه أحمد). كنز الصلاة والقيام ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ( الإسراء : 79 ). عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه ) ( متفق عليه ) . كنز الذكر والدعاء ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) ( البقرة : 186 ) عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم " ( رواه الترمذي ) . كنز الجود والإنفاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة " ( متفق عليه ) . كنز الإرادة والصبر "من حكم الصيام وفوائده العظيمة تقوية الإرادة في النفوس، تلك الركيزة العظيمة التي عمل رجال الاجتماع وأصحاب التنظيم العسكري على تقويتها في المجتمع هذا الزمان، وقد سبقهم الدين الإسلامي على ذلك منذ أربعة عشر قرنا تقريبا، وما أحوج المسلم إلى أن يكون قوي الإرادة صادق العزيمة " . "الصوم تقوية للإرادة، وتربية على الصبر، فالصائم يجوع وأمامه أشهى الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعفُّ وبجانبه زوجته، لا رقيب عليه في ذلك إلا ربّه، ولا سلطان إلا ضميره، ولا يسنده إلا إرادته القوية الواعية، يتكرر ذلك نحو خمس عشرة ساعة أو أكثر في كل يوم، وتسعة وعشرين يوما أو ثلاثين في كل عام، فأيّ مدرسة تقوم بتربية الإرادة الإنسانية وتعليم الصبر الجميل، كمدرسة الصيام التي يفتحها الإسلام إجباريًّا للمسلمين في رمضان، وتطوعًا في غير رمضان؟ ! " . كنز القوة والحرية "صوم رمضان من هذا الوجه إن هو إلا منهاج يتدرب به المرء على تحرير نفسه والانسحاب بها من أَسْر المادة وظلمة الشهوة، ليحيا ما شاء الله في ملكوت الحياة الحق ويكون له ما شاء الله من خصائص الخير والفضيلة، فالحرية الصحيحة لا يذوقها ولا يقدرها إلا من حيي هذه الحياة " . " فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة " . كنز الرحمة والمساواة "رمضان الذي تتحقق فيه معاني الإنسانية، وتكون المساواة بين الناس، فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، غنيهم وفقيرهم، فيحس الغني بألم الجوع ليذكره من بعد إذا جاءه من يقول له: أنا جوعان، ويعرف الفقير نعمة الله عليه، حين يعلم أن الغني يشتهي - على غناه - رغيفا من الخبز أو كأسا من الماء " . "فقرٌ إجباريٌ يراد به إشعار الإنسانية -بطريقة عملية واضحة كل الوضوح- أن الحياة الصحيحة وراء الحياة، لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمّها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يَتعاطَفُون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة "،" ويجعل الناس فيه سواءً، ليس لجميعهم إلا شعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة ويُحكِم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة " . كنز الخلق والسلوك "المقصود منه السمو بالنفس إلى المستوى الملائكي، وصون الحواس عن الشرور والآثام، فالكف عن الطعام والشراب ما هو إلا وسيلة إلى كف اللسان عن السب والشتم والصخب، وإلى كف اليد عن الأذى، وإلى لله عليه حتى في كسرة الخبز ورشفة البحر، ومتى عرف الله خافه، ومتى خافه استقام على الطريقة، وسار على الجادة، وترك ما كان فيه من بغي واستطالة وعلو في الأرض بغير الحق، وآثر رضوان الله على ترضية نفسه وصار رسول رحمة وسلام لكل من حوله من أبناء الإنسانية " . وخذ - أخيرا - هذه الكلمات الجامعة : " للصوم فوائد : رفع الدرجات، وتكفير الخطيئات، وكسر الشهوات، وتكثير الصدقات، وتوفير الطاعات، وشكر عالم الخفيات، والانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات " . ثم ماذا أيها الأخ الحبيب؟ دونك الكنوز تتلألأ، والثروة تتهيأ، فماذا أنت فاعل؟ ! * ومضات هامة * 1 - أخلص نيتك، واستحضر عزيمتك، وزكِّ نفسك، وطهر قلبك، وأجج أشواقك، وأعلن أفراحك . 2 - بادر بالتوبة، وأكثر من الاستغفار، وتحلَّ بالإنابة، واذرف دموع الندامة، واستعد لموسم النقاء بغسل الذنوب . 3 - احرص في الصلوات على التبكير وإدراك التكبير، والمواظبة على الرواتب، والاستكثار من الرغائب . 4 - خذ حظك من قيام الليل، ودعاء القنوت، وطول القيام والسجود، وارفع دعاء الأسحار، واملأ الثلث الأخير بالاستغفار . 5 - أدمن التلاوة، ورطب لسانك بالقرآن، وانهل من مائدة الرحمن، ونوِّر الليالي بالتجويد، وعطَّر الأيام بالترتيل . 6 - صِلْ رحمك، وزر أقاربك، واعف عمن أخطأ، وتجاوز عمن هفا، واجمع أهل حيّك، وتقرّب من جيرانك، وكرر اللقاء بإخوانك، وخص بمزيد من الود والحب والوصل أهلك وزوجك وأبناءك . 7 - اجعل لنفسك مع أهل بيتك برنامجا إيمانيا لاغتنام الكنوز الثمينة، فجلسة للتلاوة، ولقاء للتاريخ، ورحلة للعمرة، ووقت للقيام، وحلقة للذكر، وفرصة للدرس، ولا تنس أن في الوقت بركة . 8 - احسب زكاتك، واستعن بإخوانك على وضعها في مصارفها، وتوصيلها لمستحقيها، واحرص على أن تُبادر وتُنافس في الإنفاق فهذا ميدان السباق . 9- تذكر إخوانك المسلمين المضطهدين والمشردين والمظلومين في فلسطين وغيرها، لا تنسهم من دعواتك وزكواتك، وعرِّف بأحوالهم وبيِّن مكر وجرم أعدائهم، واكشف زيف الدعاوى المتعلقة بقضاياهم إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. * وصايا للصائمين - عن طلق بن قيس ( رحمه الله ) قال : قال لي أبو ذر الغفاري : " إذا صُمْتَ فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْتَ " . فكان طلق بن قيس إذا كان يوم صومِه دخل، فلم يخرج إلاَّ لصلاة . - وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: "إذا صُمْتَ فلْيَصُمْ سَمعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلاَ تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً " . - وعن أبي متوكِّل أن أبا هريرة وأصحابه كانوا إذا صاموا جلسوا في المسجد . - وعن عطاء قال : سمعت أبا هريرة يقول : " إِذَا كُنْتَ صَائْمًا فَلاَ تَجْهَلْ، وَلاَ تُسَابَّ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْكَ فَقُلْ : إني صائم " . - وعن مجاهد قال : " خَصْلَتَانِ مَنْ حَفِظَهُمَا سَلِمَ لَهُ صَوْمُهُ : اَلْغِيبَةُ وَالْكَذِبُ " . - وعن أبي العالية قال : " الصَّائِمُ فِي عِبَادَةٍ مَا لَمْ يَغْتَبْ " . * هم ورمضان أئمة السلف في رمضان عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) - كان ابن عمر لا يفطر في رمضان إلا مع اليتامى والمساكين . - وربما لا يفطر إذا علم أن أهله قد ردُّوهم عنه في تلك الليلة . - وكان ميسور الحال، ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قَطُّ، إنما كان يُرسِله إلى الفقراء والمساكين والسائلين؛ فقد رآه "أيوب بن وائل الراسبي" وقد جاءه أربعة آلاف درهم وقطيفة، وفي اليوم التالي رآه في السوق يشتري لراحلته علفًا بالدَّيْن، فذهب أيوب بن وائل إلى أهل بيت عبد الله وسألهم، فأخبروه : إنه لم يبِتْ بالأمس حتى فَرَّقَهَا جميعًا، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره وخرج، ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها فقال : إنه وهبها لفقير . قتادة السدوسي - قتادة بن دعامة السدوسي، يُكنَّى أبا الخطاب، من التابعين، ولد سنة ستّين من الهجرة، وكان ضرير البصر؛ مات بمدينة " واسط " سنة 117ه، وهو ابن سِتٍّ وخمسين سنة . - كان يختم القرآن في كل سبعة أيام دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاثٍ، وفي العشر الأواخر في كل ليلة ! الإمام الزهري - محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري (58 - 124ه)، من بني زهرة بن كلاب، من قريش؛ أوَّل من دوَّن الحديث (على أحد الأقوال)، وأحد أكابر الحفَّاظ والفقهاء، تابعيٌّ من أهل المدينة؛ روى عنه الإمام مالك وجلة من أهل الحديث والعلم. - كتب فيه عمرُ بن عبد العزيز إلى عُمَّالِه : " عليكم بابن شهاب؛ فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسُّنَّةِ الماضية منه " . - كان إذا دخل رمضان يَفِرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويُقبِل على تلاوة القرآن من المصحف . الإمام سفيان الثوري - سفيان بن سعيد الثوري (97 - 161ه) أمير المؤمنين في الحديث.. كان سيِّد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى؛ وُلد ونشأ في الكوفة، وأراده أبو جعفر المنصور العباسيّ على أن يلي الحكم، فأبى، وفرَّ سنة 144ه، فتنقل بين مكَّة والمدينة، ومات متواريا متخفيا في مكة (أو البصرة على خلاف ) . - كان سفيان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن . الإمام الشافعي - كما كان الشافعي - رحمه الله - إمامًا في الاجتهاد والفقه، كذلك كان إمامًا في الإيمان والتقوى والورع والعبادة .. - فعن الربيع قال : كان الشافعي قد جزَّأ الليل ثلاثة أجزاء : الثُّلُث الأول يكتب فيه، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام . - وكان - رحمه الله - لا يقرأ قرآنًا بالليل إلا في صلاة؛ يقول المزني : ما رأيت الشافعي قرأ قرآنًا قطُّ بالليل إلا وهو في الصلاة . - ووُصِفَ الشافعي - رحمه الله - أيضًا بالحكمة، كما وُصِفَ بالكرم والسخاء، وغير ذلك من جميل الأخلاق وحسن السجايا . - كان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرأها في غير الصلاة . * لطائف قرآنية ميِّت وميْت .. كلمتان متقاربتان، الأولى بالتشديد والثانية بالتسكين، فما هو السِّرّ الدفين في هذا التفاوت في التعبير؟ وما الفرق بين الكلمتين؟ - أولاً لا ترادف في كلمات القرآن الكريم، أي لا توجد كلمتان في القرآن بمعنى واحد، بل لا بدَّ من فروق دقيقة بينهما . وربما عدل القرآن عن صورة إلى أخرى تختلف عن الأولى في عدد الحروف أو الترتيب أو الحركات، وهذا التغيير يكون مقصوداً، لذلك لا بدَّ من حكم ولطائف من هذا التعبير والتغيير . - الميِّت - بالتَّشديد - : غالباً ما يعبَّر به عن الحيِّ الذي فيه الروح ( أي الَّذي سيموت ) . - الميْت - بالتسكين - : هو الذي خرجت روحه منه . - فالميِّت: مخلوق حي، ما زال يعيش حياته، وينتظر أجله، فهو ميِّت مع وقف التنفيذ! ونرى هذا المعنى واضحاً في قوله تعالى وهو يخاطب رسوله الكريم " (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون) (الزمر: 39 ). الآية الكريمة تخاطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتخبره بأنه سيموت، وأن خصومه الكفَّار سيموتون، فكل حي " ميِّت " حال حياته ينتظر حلول الأجل . - والميْت : هو المخلوق الذي مات فعلاً وخرجت روحه وأصبح جثة هامدة، وأطلق القرآن هذا اللفظ على : 1 ) البلد الميْت، فقال الله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ) ( يس : 33 ). 2 ) والبهيمة الميْتة، قال الله تعالى : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِه لغير الله ) ( البقرة : 173 ). 3) والميْت: هو الإنسان الذي مات وخرجت روحه، وقد شبَّه الله تعالى الذي يغتاب أخاه بمن يأكل لحم ذلك الإنسان الميت فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) ( الحجرات : 12 ). 4) والكافر: قلبه ميْت، فهو ميْت موتاً معنوياً، رغم أنه يتحرك ويتنفس، ميْت لخلو قلبه من الإيمان، وحياته من الاستقامة، ولا يحيي قلبه إلا الإيمان: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( الأنعام : 122 ). ولعلنا نستشف هذه المعاني من حركات الكلمتين، فالميِّت : ياؤه مشددة، ويشير إلى إقبال الإنسان الحي على حياته الدنيا، وانهماكه فيها، وحرصه عليها بكل ما أوتي من قوة وشدّة . أما الميْت : الذي خرجت روحه، فياؤه ساكنة غير متحركة، ولعلها إشارة إلى سكون هذا الإنسان وهدوئه بعد خروج روحه، وتوقفه عن الحركة، وقد قال الشاعر مفرِّقاً بينهما : وَتَسْأَلُني تَفْسيرَ مَيْتٍ وَمَيِّتٍ فَدونَكَ ذا التفسيرُ إنْ كنتَ تَعْقِلُ فَمَنْ كانَ ذا روحٍ فَذلِكَ مَيِّتٌ وَما المَيْتُ إلاَّ مَنْ إلى القَبْرِ يُحْمَلُ . قصة آية يومَ أرادا اغتيال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - قال ابن عباس (رضي الله عنهما) في رواية عنه: نزلت هذه الآية والتي قبلها في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة؛ وذلك أنهما أقبلا يريدان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال رجلٌ من أصحابه: يا رسول الله، هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك.. فقال: "دَعْهُ فَإِنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يَهْدِهِ " ، فأقبل حتَّى قام عليه . - فقال : يا مُحمّد .. مَالِي إن أسلمتُ؟ - قال : " لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم " . - قال : تجعل لي الأمر من بعدك؟ - قال : " لا ليس ذلك إليّ إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء " - قال : فتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ - قال : لا - قال : فماذا تجعل لي؟ - قال : " أجعل لك أعِنَّة الخيل تغزو عليها " . - قال : أَوَ لَيْسَ ذلك إليَّ اليوم؟ .. وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة: "إذا رأيتَنِي أكلِّمُهُ فَدُرْ من خلفه واضربه بالسيف!". فجعل يخاصم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويراجعُه، فدار أربد خلف النّبي (صلى الله عليه وسلم) ليضربه، فاخترط من سيفه شِبْرًا ثم حبسه الله تعالى فلم يقدر على سَلِّهِ، وجعل عامر يومئ إليه .. فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال : " اللَّهُمَّ اِكْفِنِيهِمَا بِمَا شِئْتَ " . فأرسل الله تعالى على أربد صاعقة في يوم صائف صاحٍ فأحرقته، وولَّى عامرٌ هاربًا وقال : - يا محمد، دعوتَ ربَّك فقتل أَرْبِدَ؟؟ والله لأملأنَّها عليك خَيْلا جُرْدًا وفتيانًا مُرْدًا ! . - فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): " يَمْنَعُكَ اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَأَبْنَاءُ قَيْلَةَ " ( يريد الأوس والخزرج ) . فنزل عامر بيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضمَّ عليه سلاحه، فخرج وهو يقول : واللاِّتِ والعُزَّى لئن أصْحَرَ محمَّد إليّ وصاحبه - يعني مَلَكَ الموت - لأنفذنّهما برُمْحِي ! . فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكًا فلَطَمَهُ بجناحيْه فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته غُدَّةٌ في الوقت عظيمة كغدة البعير، فعاد إلى بيت السَّلُولية وهو يقول: غُدّة كغدة البعير، وموت في بيت السلولية؟؟! ثم مات على ظهر فرسه، وأنزل الله تعالى فيه هذه القصة: (سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ . لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ . هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ . وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ . لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ) ( الرعد : 10 - 14 ). مدرسة الدعاء الجوامع الكوامل ! عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ أبا بكر (رضي الله عنه) دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأراد أن يكلِّمَه وعائشة تصلي، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "عَلَيْكِ بِالْكَوَامِلَ" أو كلمة أخرى، (وفي رواية: "عَلَيْكِ مِنَ الدُّعَاءِ بِالْكَوَامِلِ الْجَوَامِعِ ") فلما انصرفت عائشة من صلاتها سألته عن ذلك فقال لها قولي : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمُ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمُ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ . اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اِسْتَعَاذَكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم). وَأَسْأَلُكَ مَا قَضَيْتَ لِي مِنْ أَمْرٍ أَنْ تَجْعَلُ عَاقِبَتَهُ لِي رُشْدًا .