سمّي العيد عيدا، كما جاء في معجم لسان العرب لابن منظور، لأنه يعود كل سنة بفرح مُجَدّد، وورد أيضا في نفس المعجم أن العيد عند العرب هو الوقت الذي يعود فيه الفرح والحزن. وقد عرف الجزائريون عيد الاستقلال بمعناه الأول خلال السنوات الأولى التي تلت خروج المستعمر الفرنسي حيث كان الفرح المتجدد، أما المعنى الثاني فقد فرض نفسه بعد ذلك، لأن ذكرى العيد صارت تحمل فرحا وحزنا في الوقت ذاته. الجزائريون الذين شهدوا سنوات الجمر أيام الثورة التحريرية، وما قبلها، كانوا يشعرون بطعم عيد الاستقلال ونشوته في كل شيء، فبالأمس القريب كانت البلاد ترزح تحت نير قوات غاشمة ظالمة، وكان الجزائري يُعامل في وطنه، وعلى أرض آبائه وأجداده، وكأنه مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة، والثروات والأراضي الخصبة والدٌور الجميلة كانت حكرا على شذّاذ الآفاق الذين استقدمتهم فرنسا وجعلت منهم أسيادا وملاّكا بعد أن كانوا حثالة الحثالة في مجتمعاتهم. ذكرى الاستقلال في السنوات الأولى لرحيل المستعمر كانت تمر ومعها تلك الأماني العريضة التي ينتظرها المواطنون في جهات الوطن الأربع.. أماني بدولة الرخاء والازدهار والعدالة والمساواة، ولم يكن هناك شك في أن الأماني ستتحول إلى حقائق، فالبشائر الأولى قد ظهرت وهلال الخير قد علا في الأفق مع غروب أول يوم من أيام الاستقلال: إن الهلال إذا رأيت نموه أيقنت أن سيصير بدرا كامل. ومع مرور السنين ثم العقود لم يتحول الهلال إلى بدر كامل وحتى نصف كامل، وبدأت الآمال تخبو، وعلت الضبابية والغموض جميع الوعود الكبيرة والآمال العظيمة، وهكذا انحسرت طموحات نسبة كبيرة من المواطنين لتتوقف عند سكن ولو كان محدود الحجم والشكل في الطابق العشرين من عمارة مزدحمة دون مصعد أو خدمات أساسية، وتراجعت الرغبات لتحط رحالها عند رغيف خبز وكيس حليب أشبه بالماء يوفر الحد الأدنى من الحياة. ولأن المقدمات بذلك القدر من السوء، فإن النتائج سيئة بطبيعة الحال، وهكذا راحت الفرحة بعيد النصر واستعادة الحرية تتناقص عاما بعد عام، ومظاهر السعادة والبهجة تتضاءل حتى وصلت إلى أجيالنا المتأخرة، ليجد الشاب في أيامنا هذه نفسه "أشبه بالأطرش في الزّفة" خلال احتفالات عيد الاستقلال، فهو في واد وأدبيات العيد وبرامجه ونشاطاته في واد آخر، بل إننا نعيش مفارقة عجيبة وغريبة، ففرنسا التي أخرجناها بالقوة وقدّمنا في سبيل ذلك الغالي والنفيس وشهداء بالملايين؛ صارت الآن مهوى أفئدة الملايين حيث إن الحصول على تأشيرتها، أو تأشيرة إحدى أخواتها في الضفة الأخرى، هو غاية المنى ومبلغ الطموحات عند كثير من شبابنا وحتى رجالنا الناضجين. هناك حملة مشكورة شرعت فيها جهات لا يشك أحد في غيرتها وحبها للوطن وتاريخه وأمجاده، وتسعى تلك الحملة إلى توزيع عدد كبير من الأعلام الوطنية وبمختلف الأحجام، والأهداف على ما يبدو هي عودة الدفء بين الجزائري ورمز عزته وجهاده وكفاحه، وهو تلك الراية ذات الألوان الثلاثة، وما تحمله من معاني وتختصره من تاريخ حافل بالبطولات. والحقيقة أن الخطْب أجلّ والمشكلة أعمق؛ فنحن في حاجة إلى جهد أكبر وأشمل يبحث ابتداءً عن جذور المشكلة ويقطعها من الأساس، وقبل أن نوزع أعلاما على شبابنا وأبنائنا علينا أن نقنعهم عمليا أن الوطن وطنهم فعلا، وأن المستقبل لهم والآفاق الرحبة أمامهم فعلا، لأن الصورة الحالية في بلادنا محبطة للغاية في كثير من جوانبها. فالديمقراطية والحريات العامة والتعددية التي هي مكسب للجميع، لم تراوح مكانها منذ سنين بعد أن صارت العمليات الانتخابية في نظر الكثيرين مجرد روتين لا أكثر ولا أقل، وبعد أن شاع بين الغالبية أن التداول الفعلي على السلطة ما زال بعيد المنال. والثورة والكفاح والأمجاد التليدة صارت ألوانا باهتة عند قطاع كبير من جيلنا الصاعد بعد أن انكشف أمر تلك العناصر المدسوسة بين الصفوف، والتي أكلت الأخضر واليابس، ورفعت شعارات الثورة لكنها مثّلتها أسوأ تمثيل ورسمت عنها صورة لا تمت لها بأي صلة من الصلات. والإسلام الذي كان المحرك الرئيسي لثورتنا العظيمة والحامي الحقيقي لجبهتنا الداخلية طوال عقود الاستعمار العجاف، حاول البعض أن يربطه بالعنف والإرهاب والدماء، وحتى التخلف والجمود ومعاداة كل جديد ومفيد. ومع كل ما سبق فليس أمامنا خيار إلا التفاؤل وبث روح الأمل في أن يكون العيد القادم وما بعده بالمعنى الأول الذي ورد في لسان العرب، حيث الفرح والفرح وحده، وسننشد مع أبي الطيب المتنبي في استقبال العيد: عيد بأيّ حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد. ننشد البيت كاملا وأعيننا على آخره، حيث الجديد والتجديد الذي يدفع بسفينتنا التائهة نحو شاطئ الأمان الذي ظلت تبحث عنه منذ سنوات طويلة.